أثار النزاع الذي تفجر أخيراً بين المغرب واسبانيا حول جزيرة ليلى البقدونس بحسب التسمية الاسبانية تساؤلات عدة حول أسباب التوتر الذي يشوب حالياً العلاقات بين المغرب واسبانيا اللذين يربط بينهما تاريخ من حسن الجوار ويجمع بينهما بحر على رغم أن أسماكه كانت موضع نزاع لكنهما كانا ولا يزالان يفخران بالانتماء معاً الى حوضه. ونقاط التقارب بين المغرب واسبانيا أبعد بكثير من المشكلة التي حصلت حول جزيرة صغيرة وأكبر من أن تسيء اليها مشاكل عالقة مثل وضع مدينتي سبتة ومليلية الواقعتين في شمالي أفريقيا أو الخلاف حول قضية الصحراء الغربية، وأعمق من أن يعمل أي فريق آخر على النيل منها. الا ان الأيام الأخيرة أعادت بعض هذه المشاكل الى البروز وأهمها، على الأقل علناً، موضوع مدينتي سبتة ومليلية وضمناً موضوع الصحراء الغربية. تقول رواية الميثولوجيا القديمة انه في أحد الأيام عندما كانت تسطع الشمس بأشعتها على شمال أفريقيا ثار غضب هرقل لسبب مجهول وضرب بيده على الأعمدة التي كانت تحمل اسمه فسقط منها عامودان: Calpe وAbyla أي جبل طارق وسبتة، ولهذا السبب انفصلت أوروبا عن افريقيا. ولم يكن هرقل يتصور ما قد يسببه غضبه من مشاكل لسكان هاتين القارتين، لا يزال بعضها قائماً. سبتة ومليلية تسمية عربية واسبانية لمدينتين واقعتين في شمال أفريقيا يعتبرهما المغرب محتلتين من قبل اسبانيا فيما تؤكد مدريد ان هاتين المدينتين اللتين تتمتعان منذ منتصف الثمانينات بحكم ذاتي، لم تكونا في أي وقت تحت السيطرة المغربية. وهنا يكمن الصراع بين التاريخ والجغرافيا، لكن حنكة المسؤولين من البلدين خصوصاً العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني اضافة الى العلاقات الطيبة التي كانت تربطه بالجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا 40 سنة حتى عام 1975 والروابط التي جمعته بعد ذلك بنظيره الاسباني خوان كارلوس الأول الذي كان يصفه "بالشقيق"، عملت على ضبط هذه القضية التي ربما لو تفاعلت لكانت تسببت في نزاع لا يمكن تقدير نتائجه والطرفان في غنى عنه. ولا شك في ان العلاقة التي ربطت وتربط العائلتين الملكيتين المغربية والاسبانية وتطور التفكير الديموقراطي لدى السياسيين الاسبان والمغاربة على حد سواء زرع بين الحكام نسبة من الثقة جعلتهم يتكلمون، حتى ماض قريب، عن قضية سبتة ومليلية بوضوح وعلنية مؤكداً كل منهم موقف بلاده الذي يختلف ويتناقض مع الآخر من دون خجل أو تشنج أو توتر. وبالنسبة للمغرب أصبحت المطالبة باستعادة مدينتي سبتة ومليلية عملية روتينية حاضرة في كل اللقاءت الثنائية، وبالنسبة لاسبانيا تبقى المدينتان اسبانيتين. وعلى رغم الأحداث الأخيرة فان الروابط القائمة بين الطرفين كفيلة بالسيطرة على أي أزمة من شأنها ان تعكر صفو التعايش بين هذين الجارين اللذين تجمعهما أواصر أمتن بكثير مما يجمع الاسبان بجيرانهم الفرنسيين في الشمال والبرتغاليين في الغرب. وعلى رغم ان سبتة ومليلية لا تزالان موضوع جدل ونقاش فإن الشعب الاسباني الذي كان دائماً متحمساً لاسبانيتهما أصبح يتعاطى مع اخبارهما باهتمام أقل من ذلك الذي يوليه لقضية جبل طارق. وربما يعود ذلك، من بين أمور أخرى، الى الود الذي يحفظه الاسبان للمغاربة في مقابل عدم استلطافهم البريطانيين، على رغم ان الأهمية الاقتصادية للمدينتين تفوق بكثير اهمية جبل طارق. اذ تتبادل اسبانيا والمغرب مبالغ طائلة من الأموال تمر عبرهما بحراً وبراً من طريق الاستيراد والتصدير. كما ان مساحة المدينتين اللتين تتمتعان بنظام حر، مع الجزر الست غير المأهولة التي تحيط بهما والتي تصل حتى الحدود المغربية - الجزائرية هي 33 كيلومتراً مربعاً تقريباً ويسكنهما نحو 160 ألف نسمة، 10 في المئة منهم من العسكريين وأكثر من 20 في المئة من المسلمين اضافة الى عدد ضئيل من اليهود والهنود. وكان وزير الخارجية المغربي محمد بنعيسى كرّر اقتراح بلاده القديم الداعي الى تشكيل "خلية تفكير" مع اسبانيا بهدف التوصل الى "حل نهائي" لوضع المدينتين والجزر المجاورة لهما. وأكد بنعيسى في خطاب أمام الدورة ال54 للجمعية العامة للأمم المتحدة ان هذا الحل سيضمن سيادة المغرب والمصالح الاقتصادية لاسبانيا في آن. وتقدم الوزير المغربي مجدداً بهذه المبادرة، التي اقترحها للمرة الأولى الملك الحسن الثاني الراحل اقتناعاً منه بأن التعايش مع بلدان الجوار أمر لا مفر منه. لكن المبادرة لم تلق أي رد ايجابي من الحكومة الاسبانية. تصر اسبانيا على ان ليس هناك من قضية للبحث وتتمسك بالتاريخ الذي يروي ان مدينة سبته كانت تعرف بدهليز الامبراطورية أيام توحيد الامبراطورية البيزنطية على يد قسطنطين الأول عام 534 ميلادية. وسيطر عليها ملك البرتغال جواو الأول في آب أغسطس عام 1415، وعندما وحّد فيليب الثاني المملكة الاسبانية مع مملكة البرتغال اصبحت هذه المدينة تابعة عام 1580 لاسبانيا وبقيت كذلك بعدما عادت البرتغال الى الانفصال عن اسبانيا عام 1640. أما مليلية فاحتلتها القوات الأندلسية في أيلول سبتمبر عام 1497. لكن المغرب يرفض ذلك كله ووصل الى حد تشبيه وضع المدينتين بوضع فلسطين. وتعرضت سبتة منذ وجودها تحت السيطرة الاسبانية الى حصارات عدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولفترات مختلفة كان أطولها ذاك الذي قام به السلطان مولاي اسماعيل ودام 30 عاماً، ولم يكن يسكنها آنذك سوى العسكريين والسجناء، قبل ان تصبح آهلة بالسكان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما انطلقت اسبانيا في مسيرة الغزو الاقتصادي والعسكري لشمال المغرب. لكن الأهم من تاريخ سبتة ومليلية جغرافيتهما، ان بالنسبة لأوروبا أم بالنسبة الى المغرب. فالأولى تعتبرهما باب أوروبا الى أفريقيا ومركزاً استراتيجياً من الجانبين العسكري والاقتصادي. أما الدار البيضاء فتطالب بهما للأسباب نفسها ولكونهما واقعتين في القارة الأفريقية اضافة الى ان قسماً مهماً من سكانهما من المغاربة. ولذلك فان المغرب غير مستعد للتخلي عن المطالبة بالمدينتين، ويكرر ان أسباب اسبانيا الموجبة للمطالبة بجبل طارق هي نفسها التي تحمله على المطالبة بالمدينتين. وتحتج اسبانيا في ابقاء سيطرتها على المدينتين بتوقيعها معاهدة مع سلطان المغرب عام 1850 قضت بتحديد السيادة الاسبانية على مليلية بالمدى الذي يبلغه مدفع من عيار 24 سنتم، وفي 26 نيسان ابريل من العام نفسه وقّع الطرفان معاهدة مشابهة بالنسبة الى سبتة. وبعد ذلك أكدت اتفاقات ومعاهدات أخرى سيادة اسبانيا على المدينتين مثل اعلان لندن الموقع في الثامن من نيسان عام 1904 والاتفاق الاسباني - الفرنسي في العام نفسه. ومن مليلية بالذات أعلن الجنرال فرانكو، الذي حكم اسبانيا في ما بعد لمدة 40 سنة، بدء الحرب الأهلية وتمرّده على الجمهورية، في 17 تموز يوليو عام 1936 قبل يوم واحد من اعلان ذلك في بقية الأراضي الاسبانية بما فيها سبتة. وربما كانت لهذا السبب نوستالجيا الشعب الاسباني أقوى بالنسبة الى المدينتين أيام حكم فرانكو، منها في أيام الوعي الديموقراطي الذي سيطر على تفكير الشعب الاسباني منذ أكثر من عقدين ما جعله يتخلى عن تمسكه بهما كقضية وطنية ليصبحا بالنسبة اليه بنداً آخر على جدول أعمال الوزير الاسباني المختص. وعلى رغم كل ما يجري، الا ان هذا الموضوع لن يشكل أزمة في أي يوم من الأيام لأسباب عدة: أولاً: ان اسبانيا، كائناً من كان في الحكم فيها، تولي اهتماماً خاصاً بالمغرب، وتعتمد سياسة ودّ واحترام متبادل قائمة على تذليل كل العقبات التي من شأنها تعكير صفو العلاقات بينهما. والمغرب يبادلها هذا الشعور خصوصاً ان طريق المنتوجات الزراعية المغربية الى أوروبا تمرّ الزامياً عبر طرقات اسبانيا. ثانياً: ان مدريد لم تعد اليوم حرة القرار بالنسبة الى حدودها اذ ان ذلك يتعلق بقرارات الاتحاد الأوروبي كما يتعلق بقرارات الهيكلية الجديدة لحلف شمالي الأطلسي الذي أعطاها قيادة المنطقة الجنوبية الغربية للحلف التي تشمل ضمن نطاق صلاحياتها سبتة ومليلية وجبل طارق الذي فقد وزنه الاستراتيجي ولم يعد يشكل بدوره سوى منطقة عمليات واتصالات تحت القيادة الاسبانية في ثكنة ريتامار. ثالثاً: ان المدينتين الواقعتين في شمال أفريقيا فقدتا أيضاً وزنهما الاستراتيجي بسبب التقنية العسكرية الموجودة اليوم في العالم. اذ لم تعد هناك ضرورة جغرافية للعمليات العسكرية اضافة الى أن أوروبا عموماً واسبانيا خصوصاً لم تعد تنظر الى جنوبها بخوف وحذر الا من منطلق الهجرة غير الشرعية. كما لم تعد هناك أسباب تدعو الى التخوف العسكري. فالعالم الأوروبي والمتوسطي خصوصاً ينظر الى جاره الجنوبي من المنظور الاقتصادي ويهتم بالاستثمار في بلاده الغنية ويعي ضرورة مساعدته للقضاء على فقره الذي، في حال استمراره، ربما يولد أزمات ومشاكل داخلية. رابعاً: اسبانيا والمغرب يعرفان ان استقرار واحدهما من استقرار الآخر، وبالتالي من السذاجة ان يقوم احدهما بخلق أجواء توتر بسبب الأرض تقضي على التفاهم القائم بينهما.