إذا كانت العلاقات التي تربط المغرب باسبانيا تتسم بودٍ كبير، الا ان العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين هي في المقابل مثل اسنان المنشار. في هذا الاطار، يلعب استمرار احتلال مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين والتهرب الدائم من قبل اسبانيا الدخول في مفاوضات جدية بشأنهما دوراً أساسياً في تسميم هذه العلاقات، الأمر الذي يجعل المغاربة يعتقدون بأن مدريد لا يمكن ان تتخل عنهما بالوسائل السلمية. بمعنى آخر، ستبقى سبتة ومليلية بمثابة القنبلتين الموقوتتين على رغم المحاولات التي قامت بها الحكومة المغربية لتنفيس الاحتقان المتزايد. في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1975، طالب دون خوان كارلوس دوبوربون لدى تتويجه ملكاً على عرش اسبانيا بضرورة استعادة السيادة الاسبانية على جبل طارق. ودفع هذا الموقف بملك المغرب الى تحديد سياسة الرباط في ما يختص بالتطور المعلن بشأن إنهاء استعمار "الصخرة" والمرتبط عملياً ومنطقياً بمسألة انهاء احتلال سبتة ومليليةه. وكان المغرب قد طلب في وقت سابق من العام نفسه من لجنة ال24 لجنة انهاء الاستعمار المنبثقة عن الأممالمتحدة بفتح الملف الخاص بهذه الأراضي المحتلة على الساحل المتوسطي. وتطابقت هذه "الهجمة" الديبلوماسية المغربية مع تزايد عمليات العنف المعادية للإسبان في المدينتين. ففي 26 حزيران يونيو، انفجرت قنبلتان داخل القاعدة البحرية في سبتة مخلفتين قتيلاً وجريحاً. وفي اليوم التالي، انفجرت عبوة ناسفة نتيجة خطأ في التوقيت بمقارين مغربيين في مليلية حيث كانت تستهدف مصفاة لشركة شل. وكان رد السلطات الاسبانية قاسياً، اذ اقدمت على سجن 400 مغربي في سبتة وأبعدت 160 عائلة مغربية رفضت الجنسية الاسبانية. في الوقت نفسه، أغلق نحو ألف عنصر من البحرية الاسبانية الحدود كان بنتيجتها أن رد المغرب بارسال فرق من جيشه الى منطقة الناظور في الشمال. وبعد مرور سنوات على هذه الوضعية، يؤكد الأمين العام "للحركة المغربية لتحرير سبتة ومليلية" فؤاد اليوسفي بأن تفكير الملك الراحل، كان يتمحور حول النقطة الآتية: اذا اقدمت بريطانيا على اعادة جبل طارق لاسبانيا، فإن هذه الاخيرة سوف تكون ملزمة بدورها بإرجاع سبتة ومليلية بشكل اوتوماتيكي للمغرب. لكن الأيام اثبتت بأن مدريد لا يمكن ان تطبق اتفاقات مشرفة من هذا القبيل. فالذي خَبِرَ الاستعمار الاسباني بشكل خاص يعرف تماماً بأنه مراوغ، لا يحترم المعاهدات التي يوقعها، خصوصاً في ما يتعلق بالوجود العربي. ويستند فؤاد اليوسفي على تصريحات بعض الجنرالات الاسبان الذين رددوا في اكثر من مناسبة "بأن حكومتهم لن تعيد المدينتين بالسهولة نفسها التي تخلت فيها فرنسا عن الجزائر الفرنسية". على أية حال، تجدر الاشارة الى ان السياسة الحالية لاسبانيا تتلخص أولاً وأخيراً في الاستبعاد السريع للوجود العربي من سبتة. واذا ما حاول المغرب المطالبة في يوم من الأيام باجراء استفتاء من اي نوع كان في المناطق المحتلة هذه، فإنه لن يكون التوجه في الحقيقة سوى الى سكان يحملون الجنسية الاسبانية الذين سيصوتون حتماً لاسبانيا وليس للمغرب. باختصار، فالنقاش الدائر حول "اراضي السيادة" هو من النوع التقليدي، اذ ان اسبانيا تتمسك في اثارة موضوع قانون الغزو وتكريسه عبر المعاهدات وطول مدة الاحتلال الحاصل لهذه الأراضي، اضافة الى الواقع القائل بأن سكانها هم تقريباً بغالبيتهم من الاسبان. لكن هذه النظرية لا تخلو من تناقض فاضح خصوصاً وان مدريد تستند الى ذرائع تاريخية وقانونية سبق ورفضتها في نزاعها مع بريطانيا حول قضية جبل طارق، بمعنى آخر، يمكن القول بأن النظرية المغربية حيال المدينتين هي نفسها التي تمسكت بها اسبانيا ودافعت عنها لتأكيد حقوقها في "الصخرة". كذلك، فإن التصريحات الصادرة عن المسؤولين الاسبان بالنسبة لجبل طارق والسيادة عليه هي نفسها التي صدرت عن المسؤولين المغاربة بشأن حقهم في سبتة ومليلية، من حيث ان الأراضي المطالب بها مرتبطة بشكل وثيق جغرافياً وديموغرافياً واقتصادياً بالوطن الأم. هذا ما يدل دلالة واضحة على ان اسبانيا تلعب لعبة المرايا التاريخية والقانونية للإلتفاف على مطالبة المغرب بانهاء احتلال المدينتين. الذرائع وتسريع الأسبنة اذا كانت المرحلة الاخيرة التي سبقت التوقيع على "اتفاق ماستريخت" في السابع من شباط فبراير 1992، وينتج عنها اعلان الاتحاد الاوروبي و"اتفاق شينغين" الخاص بحرية التنقل وارادة توسيع منطقة حركة حلفاء شمال الاطلسي باتجاه الجنوب، قد فتحت باب المفاوضات امام اسبانياوبريطانيا حول جبل طارق، الا انها في المقابل لم تلحظ اي جديد بشأن النزاع القائم على مدينتي سبتة ومليلية. وخير دليل على النوايا الحقيقية للسلطات الاسبانية التي تراهن على عامل الوقت لتكريس احتلالها، هو تعمد اخراج سبتة ومليلية من مجال "اتفاق شينغين" واعطاؤه نظام خاص في ما يتعلق بمراقبة انتقال البضائع والاشخاص، والتدقيق في الهويات ووثائق الخطوط البحرية والجوية، كذلك فرض التأشيرات. لكن اعتماد هذا النظام الخاص لدى انضمام اسبانيا للمجموعة الاوروبية في 21 آذار مارس 1995، لم يؤد حتى اللحظة لاحداث أي تقدم جديد يؤدي الى فتح باب المفاوضات بين الأطراف المعنية. يبقى السؤال: الى متى ستتجاهل الأممالمتحدة الخطاب المزدوج الذي تستخدمه الحكومات الاسبانية المتعاقبة؟ اشتراكية ويمينية على السواء في جميع المحافل بحجة المحافظة على امن واستقرار مضيق جبل طارق وملاحقه؟ ان ترك الحرية لمدريد في بسط سيادتها على اجزاء من الشمال المغربي - المستبعدة بالتالي من نطاق تطبيق القوانين الخاصة بالاتحاد الأوروبي - والاستفادة من الانعكاسات الايجابية لهذه القوانين عندما يتعلق الأمر بجبل طارق، هي مسألة مثيرة للجدل والتساؤل والشك ايضاً. من جهة اخرى، يفسر بعض المحللين الاستراتيجيين استبعاد منظمة حلف شمال الاطلاسي لسبتة ومليلية من منطقة حمايتها على انه عامل جديد لا يمكن الا ان يكون في صالح المغرب وسيادته عليها. لذلك، تظهر السلطات الاسبانية بين الحين والآخر خشية من القرار الذي اتخذه حلف الناتو الاطلسي ازاء المدينتين المغربيتين المحتلتين وتقوم في المقابل بتسريع "أسبنة" سبتة ومليلية وتضييق الخناق على المغاربة ونشاطاتهم السياسية داخلها. فالمواجهات التي جرت في الشهور الاخيرة بين رجال الأمن الاسبان ومناصري الأحزاب المغربية ليست سوى مؤشر عن قرب مواجهة سياسية على رغم النفي المتكرر من قبل الجانبين. ان بقاء سبتة ومليلية، منذ 22 شباط 1985، في وضعية "المدن المستقلة" وفقاً للقانون الاسباني ساهم بشكل ملحوظ في رفع وتيرة الصراع بين السكان المغاربة والإسبان. وما زاد في الأمور تعقيداً، النظام القانوني المطبق على هذه المدن الذي يعطيها صلاحيات اقل بكثير من تلك التي تحصل عليها المدن التسع عشرة الاسبانية الاخرى. وتعتبر الرباط وضعية "المدن المستقلة" مشهداً اضافياً من المسرحيات التي اعتادت مدريد على اخراجها، والتي تظهر من دون اي لبس ارادة اسبانيا في عدم البحث عن صيغة اخرى قبل مضي وقت طويل، ما يعني المحافظة على سيطرتها الكاملة على المدينتين الموجودتين داخل الأراضي المغربية. ويعول المغرب كثيراً على موقف الاطلسي وصولاً الى حد اعتباره من قبل بعض المسؤولين بمثابة نصر سياسي تم تسجيله بفضل الجهود التي بذلتها الديبلوماسية المغربية في اقناع الادارة الاميركية وبعض الدول الاوروبية الصديقة مثل فرنساوبريطانيا. لكن ما ينبغي عدم تجاهله في الوقت نفسه هو ان قوات هذا الحلف سوف تكون مخولة للتدخل الفوري في حال تعرض وحدة من الوحدات البحرية الاسبانية لهجوم من اي طرف خارجي كان في حياة سبتة ومليلية المعتبرة مياهاً اقليمية اسبانية وغير مغربية. وسيطر الحلف الاطلسي عسكرياً من الناحية العملية على مضيق جبل طارق عبر مخرجيه: الأول، الذي يفضي الى البحر المتوسط والثاني الذي يفضي إلى المحيط الاطلسي. لم تكتف اسبانيا بالمراوغة وكسب الوقت والاستفادة من انشغال المغرب بمشكلة الصحراء الغربية - احدى مخلفات الاستعمار الاسباني - اذ اعلنت في نيسان ابريل 1995، بأن حكومتها تنوي، بداءً من الصيف، تطبيق "اتفاق شينغين" على سبتة ومليله، محاولة بذلك وضع الاتحاد الاوروبي أيضاً امام الأمر الواقع. لكن الاخطر في ذلك، هو العمل على ادخال وجر دول هذا الاتحاد الى مواجهة مع المغرب خصوصاً وان الاتفاقات بشأن الصيد البحري احدثت تأزماً ملحوظاً في الفترات الاخيرة بين الجانبين، وسبب تصرف الحكومة الاسبانية ايضاً. ففي اعلان مشترك، اتهمت الأحزاب السياسية المغربية مدريد بتكريس الطابع الاستعماري الأحادي الجانب على المدينتين المغربيتين. وتوجهت الى بروكسيل، مطالبة اياها بضرورة اجبار اسبانيا على الدخول في مفاوضات مع المغرب حول شروط اعادة الأراضي التي سلبتها والقبول بالمشاركة في انشاء خلية تفكير مشتركة للبحث في كافة الجوانب التي يتضمنها ملف سبتة ومليلية، كذلك اعداد الحلول الكفيلة بحفظ حقوق المغرب ومصالح اسبانيا في آن معاً. فالمغرب، كما الاتحاد الاوروبي، لا يمكن ان يقبل بالأمر الواقع الاستعماري ولا يمكن ان يتساهل بإستمرار اسبانيا الديموقراطية اتباع سياسية موروثة عن الزمن الكولونيالي الذي يخلق وضعية استفزازية لا ينسجم مع المعطيات الجديدة للبيئة الدولية او الاقليمية. لذلك فالاتحاد الاوروبي مطالب اليوم في نظر المغاربة، بأن يتحمل مسؤولياته التاريخية كاملة. وعلى رغم هذه الصورة التشاؤمية نسبياً، يراهن المغرب على عرضه بانشاء "خلية التفكير" حتى لو لم تلقَ حتى الآن اي صدى ايجابي من الجانب الاسباني. فاستمرار التصلب من جانب حكومة مدريد لا بد وان يؤدي في نهاية الأمر الى تأثيرات سلبية على التعاون الاقتصادي بين البلدين والذي ستدفع ثمنه بكل تأكيد اسبانيا التي تحاول الدخول بقوة للسوق المغربية والاستثمار فيها داخل جميع القطاعات. فخسارة الشركات الاسبانية للعديد من الصفقات والعقود في الفترة الاخيرة والتي انتزعتها البرتغالوفرنسا وايطاليا هي مؤشر على ما يمكن ان تكون عليه حال الشركات الاسبانية في المغرب في المستقبل القريب في حال واصلت تصعيدها ملف الصيد البحري وعدم اعطاء اشارات ايجابية لناحية الاشتراك في خلية التفكير المطروحة على مدريد حتى ولو تحددت المفاوضات حول سبتة ومليلية، بجدول زمني متوسط الأمد. لذلك يلاحظ بأن الغرب وجه ديبلوماسيته وأدواتها في اوروبا لناحية العمل على احراج اسبانيا من دون ضجيج، عبر اللجوء الى بروكسيل. وأكد بعض المصادر في هذا الصدد ان المغرب فوض بشكل ضمني المركزية الاوروبية بوضع أسس لعدة مخارج لا يمكن لاسبانيا ان ترفضها جميعاً كونها تحافظ على مصالحها حتى بعد اعادة مدينتي سبتة ومليلية الى المملكة المغربية. وبشكل متوازٍ، تلعب الحكومة المغربية الحالية على وتر المصالح الخاصة بكبريات الشركات الاسبانية المستثمرة في المغرب التي تنوي توسيع رقعة وجودها في هذه المرحلة بالذات. وتشير المصادر نفسها بأن هذه الشركات الاسبانية تمثل مجموعة ضاغطة على الحكومة لا يجوز التقليل من تأثيرها ولا من وزنها وبدأت تنقل منذ بداية شهر تموز يوليو الماضي رسائل بين الجانبين تعتبر بمثابة نقاط تمهيدية تصب في قناة اللقاء بين الطرفين وبداية البحث في قضية سبتة ومليله بعيداً عن الأضواء وتجنباً لاثارة حساسيات المتطرفين الاسبان. من هنا وحتى صدور اشارات علنية بهذا الصدد، تحاول القنوات من الطرفين تدوير الزوايا على صعيد العلاقات الاقتصادية التي تأثرت بالمواقف الاسبانية المتشنجة. * كاتب واقتصادي لبناني.