ليس من مقر خاص لمهرجان "صوت المتوسط الشعري" كما قد يخطر في البال، خصوصاً إذا ما تم التفكير بأهميته وحجم فعالياته والرمز الذي يمثله لدى الأدباء والشعراء المتوسطيين. حين يصل الشعراء الى بلدة لوديف الفرنسية يذهبون الى ساحة المتحف الصغيرة ويستريحون قرب الغرف الملحقة به حيث مقر المهرجان ومركز ادارة فعالياته اليومية. المتحف يتحول الى ما هو أوسع منه، أي فضاء ثقافياً لحوض البحر الأبيض المتوسط، فضاء مختزلاً بالشعر. صاحبة فكرة المهرجان هي ماييته فاليس بليد التي درست الفن في السوربون وفي مدرسة اللوفر الشهيرة ثم أصبحت مديرة المتحف وأعادت تنظيمه بعد أن كان فندقاً بإقامة معارض كبيرة منذ العام 1996. أما مهرجان "صوت المتوسط" فيحاول أن يمنح سكان لوديف افتخارهم بمنطقتهم جاعلاً من الثقافة عاملاً يساعد في احياء اقتصاد المنطقة عبر الانفتاح على الآخر. الحضور الشعري العربي في المهرجان حضور أساس ويشكل عصب المهرجان بعد الحضور الفرنسي، إذ بلغ عدد الشعراء العرب المشاركين هذه السنة 18 شاعراً ينتمون الى كل البلدان العربية المتوسطية. ويتكثف الحضور العربي ويتعمق من خلال عرب لوديف، اضافة الى مشاركة الشعراء، إذ تعبق زوايا لوديف وفسحاتها وشوارعها وحدائقها بأصواتهم. لا حضور واضحاً للشعراء الاسرائيليين في المهرجان على عكس الشعراء العرب الذين طبعوا المهرجان بحضورهم. شاعران اسرائيليان شاركا في هذه الدورة: الأول هو اسرائيل ايريز المولود في القدس، وله أكثر من 13 مجموعة شعرية بالعبرية وقرأ قصائد تستعيد الميثولوجيا اليهودية محتفياً بالمكان التوراتي ومسقطاً الماضي الأسطوري على الحاضر. بدا هذا الشاعر معتزاً باللغة العبرية "أساس تجميع شمل اليهود في العالم" واختلف أكثر من مرة مع مواطنته الشاعرة الاسرائيلية الهنغارية المولد سابينا مسييج التي كانت تصر على سماع الشعراء العرب وتقترب منهم محاولة الكلام معهم مشددة على أهمية اعطاء الفلسطينيين حقوقهم كاملة وضرورة تعايش الدولتين بسلام جنباً الى جنب. وكانت تذكر الجميع ب"عمومية" اليهود للعرب فرحة بزواجها من عراقي يهودي وسماعها كل يوم في منزلها المغنين العرب: أم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم... شارك 18 شاعراً عربياً في هذه الدورة، هذا إذا استثنينا الشعراء الذين تغيبوا عن الحضور. وبدا واضحاً غياب الشاعر بول شاوول، خصوصاً أن كثراً من الشعراء الفرنسيين كانوا قرأوا شعراً مترجماً له أو سمعوا بأنطولوجيته التي أعدها قبل أكثر من عشرين عاماً عن الشعر الفرنسي الحديث. الشاعر المغربي محمد بنيس قرأ قصائد مختارة من مجموعاته الشعرية عبر لغة يعتمد فيها أسلوب اضمار المعنى وتحرير اللغة من تعبيريتها قدر الإمكان ودفعها باتجاه الرمز عبر تصفية العالم من النص والقبض على ما هو جوهري فيه. شعر لا يستدعي العالم اليه ولا يستضيفه لأنه مضمر بداخله. ألفاظ منتقاة انتقاء وخطاب شعري مصوغ بحكمة قاسية يبدو في كثير من الأحيان منعقداً على ذاته فيما لا ترشح منه سوى الاشارات والايحاءات الخافتة. مشهد شاسع للحدوس والبروق والصور الداخلية يبدو فيها الخارج والداخل كلاً واحداً. شغل يحيل على الانهمام الشديد في الصوغ والانهماك في تدبّر اللغة يصل الى حد التطرف حتى لنجد أن الجمل والعبارات تذهب - عموماً - الى التجريد وقلما قاربت التعيين. الشاعر المغربي حسن الوزاني قرأ قصائد أضاء فيها عالمه الشخصي عبر قول شعري ينفتح على العالم الخارجي بالقدر الذي ينعقد على اللغة ذاتها. وبدا جامعاً تجربتين شعريتين هما قصيدة الرؤيا وقصيدة التفاصيل الصغيرة مستفيداً من تقنياتهما وأجهزتهما البلاغية والبيانية والتصويرية. شاعر من شعراء الجيل الجديد في المغرب يحرص على عدم القطيعة مع شعرية السبعينات المغربية. الشاعر الفلسطيني خيري منصور لم يقطع كلياً مع الوظيفة التوصيلية للغة عبر قصائده التي احتلت الذات المركز في فضاءاتها وأخذت لحمتها وبطانتها الداخلية بأبعادها العميقة. هنا الألم والحسرة يتآخيان ضمن غنائية خفيفة حادة ومكسورة. الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش قرأ مختارات من قصائده ولاقت الترجمات القليلة والسريعة التي قامت بها كاترين فرحي صدى لدى المتلقي الفرنسي. يذهب أبو هواش الى اضاءة الذات عبر البحث عن الشعر في نثر الحياة وتشكيل عالم واقعي موازٍ للوقائعي مع اختلافه عنه من دون أي اشتغال حاد على سؤال اللغة واستعمالها بصفتها وسيلة تحمل معنى. لغة لا ترهقها المجازات والصور كما أنها لا تخلو منهما، فيما تلعب الحركة الشعورية والتموج الشعوري داخل مستويات القول دوراً في بناء القصيدة. قصائد المصري محمود قرني تنفتح على العالم. في قوله تمحى الحدود بين الشعر والعالم. سيرة المجموع هي سيرة الذات، والعكس صحيح. لحظات انسانية مأسوية أضاء الشاعر حدودها: القمع، الفقر، غياب الحرية، قتل كل ما هو طفولي وشفاف... الشاعر كاظم جهاد قرأ قصائد من ديوانه "غناء جنون الكائن" النص الفرنسي. خطاب شعري طالما انطبع بسمات جمالية متدرجاً عبر تجربة شعرية ناهزت العشرين عاماً. لغة يتداخل فيها الفكر والشعر. صنيع شعري مشغول بدقة وبعقلانية قصدية تجعل القصيدة مشغلاً حرفياً. ولذا نجد ان القسوة والصرامة تسيطران على اللغة بموازاة تجربة المنفى وتصاريفها الحزينة التي نلقاها في "تحتيات" خطابه الشعري الذي يسعى الى أن يكون متعدد الطبقات. شعر يجمع كسور العالم عبر كسور الذات. وعلى رغم أن كاظم جهاد لا ينتمي الى أي بلد متوسطي فإن استضافته في هذه الدورة مثل استضافة الشاعر سعدي يوسف في الدورة السابقة فكرة جيدة خرجت بها مديرة المهرجان في سبيل ايصال صوت العراق الغائب الى ضفتي المتوسط. الشاعر السوري نزيه أبو عفش شارك في هذه الدورة بعدما وافق على المجيء في احدى الدورات السابقة ولم يحضر بسبب وجود الشعراء الاسرائيليين ولكن لا نعرف ما الذي جعله يغير رأيه الآن. والأرجح ان مشاركة شعراء سوريين من الداخل في أكثر من دورة سابقة وعودتهم الى سورية سهلتا عليه المشاركة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون لهذه المشاركة تغير في القناعات الحادة والمتطرفة المجانية التي كانت سائدة منذ سنوات بألا يحضر مثقف عربي أي مهرجان أو مؤتمر يشارك فيه اسرائيليون، حتى ولو كانت مشاركتهم هامشية. شعر أبو عفش يحفر عميقاً في الظلم والقمع والخوف وسائر الأواليات التي تنشأ عن النظم الكليانية متحولاً وعاء يتسع للوم الشديد الشرس وللتعنيف العالي لقيم وقضاة وجنرالات وعبيد وأموات في هذا العالم الذي يتحدد في مكان وزمان معينين متحولاً موضوع هجاء ورثاء. غنائية تصاغ شعرياً في العلاقة الجدلية مع العالم الخارجي وتتأتى لتعبر عن الذروة القصوى من الانفصال عنه. الشاعر اسكندر حبش قرأ مختارات من قصائده التي تتوجه الى منطقة خاصة وشديدة الفردية في مسعى للتخلص من رواسب الحرب وسائر المؤثرات العنفية. قصائد تعلي الجسد الى مرتبة كبرى: الجسد الذي لا يظهر إلا كإشارات واصداء يتم استنطاق أوالياته شعرياً من دون تحويله واجهة أو يافطة. خيارات أسلوبية وجمالية محسوبة بدقة هي خيارات الشاعر تُظهر بوضوح مهارات مشغله الشعري من اختزال وتكثيف وايجاز وتنقية مع حذر شديد من تحول القصيدة مختبراً تجريبياً. الشاعر السوري نوري الجراح، تميز هو أيضاً بالاشتغال الشديد على اللغة ونحتها نحتاً، مع الحذر من ترك أي نشاز أو نتوءات في جسد القصيدة. قصائده يرشح منها همّ رثاء الذات والوحدة والضياع الوجودي. غنائية أسيانة، حزينة، وشفافية لغوية هوائية تتميز بالتخفف من أشياء العالم عبر اضمارها وتحويلها ذكرى داخل القصيدة كأن يوازي سؤال الأنا سؤال الشعر نفسه. التونسية فضيلة الشابي قرأت نصوصاً حاولت فيها اضاءة ذاتها الأنثوية. لغتها مغلفة ومطموسة بكثير من الحجب البلاغية واللغوية. أما الشاعر الفلسطيني محمود درويش فحضر في المهرجان عبر قراءات شعرية أدّتها المغنية سافو، إذ قرأت من ديوان "سرير الغريبة" الصادر حديثاً بالفرنسية بترجمة الياس صنبر. حضر الأمسية أكثر من 1000 شخص وصفقوا طويلاً للقصائد. هذه الأمسية هي الثانية التي جمعت عدداً كبيراً من الجمهور. الشعر الصوتي اللقاء الشعري الضخم الثاني كان لقاء الشعر الصوتي الذي ضم كل الشعراء الصوتيين المشاركين من حوض المتوسط وقدم لهم من وراء الكواليس الشاعر جوليان بلين اللاعب والناشط الأساسي في جبهة الشعر الصوتي في فرنسا اليوم ومؤسس مجلةDOCKS التي ما لبثت أن صارت عالمية متنقلة جوالة تستوحي اشغال الانترنت والأي - ميل في الشعر. وبلين هو الأب الروحي لعدد كبير من الشعراء الصوتيين الشباب في فرنسا وأوروبا. وألقيت في الأمسية قصائد نظرية صوتية تمتزج فيها حركة الجسد وهتافاته الطلسمية مع الغرغرة والضحك. لغة ليس بالضرورة ان يكون لها أي معنى. فهي مبعثرة، فوضوية، مفككة لغوياً ونحوياً، وتحيل على تفكك العلاقات بين الأشياء في العالم وعدم وجود رابط منطقي ما بينهما. يطل الشاعر ممثلاً ومهرجاً وراقصاً وساحراً يتمتم بأصوات مبهمة. ومن الشعراء الفرنسيين المهمين الذين شاركوا هذه السنة الشاعرة والباحثة والجامعية المعروفة ماري كلير بونكار. وقرأت قصائد من انطولوجيتها الصادرة حديثاً، قصائد تقارب مناخات المرض والموت تلك التي بدأتها في شبابها وطبعت تجربتها الشعرية. لغة حادة، قاسية، مسننة تحتفي بالافرازات الجسدية من عرق وبصاق ودم... شاعرة تعمل على الكلمة عملاً دؤوباً وشعر يحيل على هندسة بنائية كبيرة والآن نفسه يطل على تجربة شخصية لوحها المرض. الشاعر ليونيل اي قرأ قصائد تحيل على الزمن وظلاله التي تعبر والقلق الوجودي والحب... شاعر طالما تميز بلغة موسيقية، هوائية، رقيقة، متصاعدة حيناً وخافتة حيناً آخر. الايحاء يأخذ دوراً مركزياً في شغله الشعري والكائن كما يقول مسافر بلا زمن ولا يعرف أين يكون. وإذا كان الشعر عصب المهرجان فإن الأجناس الفنية الأخرى لها حضورها أيضاً. عربياً أحيا عابد عازرية حفلة استمرت ساعتين في الهواء الطلق غنى فيها مختارات من اسطواناته: الشعر العربي الحديث، نصيب، عمر الخيام. وقد صفق الجمهور الفرنسي طويلاً له، خصوصاً أن توزيع نصوص الأغاني تمّ باللغة الفرنسية فضلاً عن شروحه عن الشعراء الذين غنى لهم ولحّن قصائدهم. مهرجان "صوت المتوسط" الذي يقام كل عام يحاول عبر الشعر ان يكون محطة اللقاءات والحوارات المتوسطية، وهدفه مزج دواخل المتوسطيين عبر الشعر. وهو كل عام يذهب أعمق فأعمق في سبيل تحقيق هذا الهدف.