ليس مهرجان لوديف مهرجاناً مخصصاً للشعر، فهناك أصناف فنية أخرى تتضمنها فعاليات المهرجان. لكن يظل الشعر يشكل عصب المهرجان الأساسي. وهو ليس أيضاً بالمهرجان ذي الصبغة والهوية العربيتين، فهو يقام على أرض فرنسية ويفوق فيه عدد الشعراء العرب المدعويين مجتمعين عدد الشعراء الفرنسيين فهؤلاء الأخيرون لم يتجاوز عددهم 23 شاعراً، أما الشعراء العرب فعددهم 24 شاعراً، فيما توزع الشعراء الآخرون على الدول المتوسطية غير العربية شاعرين أو ثلاثة من كل بلد. ليس هناك تحديد لأعمار الشعراء ولا لاتجاهاتهم الفنية فالشعراء الشباب يقرأون قصائدهم الى جانب الشعراء من الأعمار الكبيرة ولم يخل المهرجان من الشعراء الذين يعتمدون الصوت والحركة والتمثيل. قد يرافق الالقاء العزف، وقد لا يرافقه... الأمر متروك للخيار الشخصي وقد يتطوع أحد العازفين المشاركين في المهرجان فيعزف الموسيقى مع أحد الشعراء وأحياناً يكون الشاعر نفسه مغنياً وعازفاً. الترجمة الفرنسية لمختلف النصوص الشعرية رافقت الشعراء في أثناء القائهم قصائدهم. هذا أدى في كثير من الأحيان الى القاء الشعراء للقصائد نفسها، بسبب عدم وجود ترجمات اضافية. لذلك لجأ بعض الشعراء الى ترجمة قصائد جديدة لهم في أثناء المهرجان أو قبل موعد قراءتهم بلحظات قصيرة. وقد قام بالترجمة السريعة عدد من الشعراء والمترجمين الحاضرين مثل: كاترين فرحي، جمانة سلوم حداد، عبدالقادر الجنابي، خالد النجار... الخ. بعض الترجمات الشعرية تصل الى المستمعين الفرنسيين ما يؤدي الى طلبهم نسخاً منها. الترجمة السريعة ليست سوى مسخ للقصائد وتدمير للشعر وتحطيم له. ويزداد الأمر التباساً وسوءاً إذا كانت القصائد المترجمة، بسرعة، وبلغتها الأصلية ليست ذات سوية فنية عالية. تغيّب بعض الشعراء العرب المدعوين الى المهرجان، غيابهم لم يؤثر اطلاقاً على البرنامج. كانت هناك سرعة كبيرة لدى القائمين على المهرجان في حذف أسماء الغائبين الذين لم يجيئوا أو اعتذروا عن البرنامج اليومي. القراءات الشعرية توزعت في أمكنة مختلفة في لوديف. بمعنى أدق في كل لوديف، في الساحات الصغيرة والكبيرة، قرب الكاتدرائية، عند تقاطع الطرق، في الأمكنة الأثرية القديمة. وليس ضرورياً في أن يكون عدد المستمعين كبيراً ولكن في كل قراءة كان يحضر زهاء عشرين شخصاً فما فوق. وأحيانا يتجاوز العدد الخمسين. لوديف بكاملها شعلة شعرية مشتعلة. الكل يحتفل بالشعر فالمهرجان لكل البلدة. كل سكان البلدة يشاركون في تنظيمه وادارته سواء عبر مساهمة في استقبال اللودفيين الفرنسيين الشعراء والفنانين، في بيوتهم، وعبر اعداد اللودفيين المغاربة، الطعام واقامة الحفلات الفولكلورية. وهؤلاء يظهرون في الشوارع بين الفينة والأخرى بوجوههم العربية. ومنذ الأيام الأولى يبدأون بمناداة الشعراء العرب المشاركين، بأسماء دولهم، إذا ما لمحوهم عابرين، أو جالسين يشربون القهوة في المقهى. فجمانة سلوم حداد تصبح لبنان، صالح دياب: سورية، حلمي سالم: مصر، محمد الفقيه صالح: ليبيا، ولا يعرف كيف عرف المغاربة انتماءات الشعراء. الشيوخ والعجائز المغاربيون يجلسون في زوايا الشوارع وقد تمر أيام وتظل الوجوه نفسها على المقاعد الحجرية حتى ليظن العابر ان الأشخاص لم يغادروا في الليل الى بيوتهم بل كأنهم يحرسون الصمت والوحدة والزمن. واحتفاء اللوديفيين بالشعر لم يمنع الأصوات اللوديفية الأخرى من الظهور وخصوصاً تلك الأصوات المعارضة للمهرجان كجماعة والفوضويين والحركيين. فقد كتب هؤلاء الأخيرون جملة واحدة على كثير من جدران البلدة وهي "الشعر ليس هو الحل". الشاعر عبدالقادر الجنابي الذي رافق المهرجان كان يردد دائماً كلما مر قرب جملة من هذه الجمل "الشعر ليس حلاً، لأنه ليس هناك من مشكلة أصلاً. الشاعر مارك دولوز لم يغب عن كل عروض المهرجان. كان مشاهداً ومستمعاً. يتنقل على دراجته من مكان الى آخر. وقع مجموعته الشعرية الجديدة ورافقه عزفاً وغناء المغني مروان عبادو، كما وقع أيضاً برنار مازو وآتي سالجر مجموعتيهما، على هامش معرض الكتب الشعرية الذي أقيم في ساحة البلدة أثناء المهرجان وضم أكثر من 2000 عنوان شعري سواء لشعراء فرنسيين أو غير فرنسيين. ولا يخلو المعرض من العناوين العربية مثل المعلقات السبع، مواقف النفري، سيرة الصحابة، الخ. أما ما يميز الشعراء العرب المشاركين في المهرجان فهو قراءتهم قصائد نثر قصير. الجميع قرأوا نثراً حتى أولئك الشعراء الذين عرفوا من خلال كتابتهم قصيدة التفعيلة. قرأ الشاعران السبعينيان المصريان حلمي سالم ومحمد فريد أبو سعده قصائد نثرية ذاتية وصالح دياب، ويمكن هنا أن نضيف الى هذه الأسماء أسماء الأصوات النسائية الثلاثة التي شاركت في المهرجان: الشاعرة السورية سلوى النعيمي والشاعرة اللبنانية جمانة سلوم حداد، والشاعرة الفلسطينية سهام داوود. أضاءت سلوى النعيمي وجمانة سلوم حداد في قصائدهما الصور الداخلية لذاتيهما، في علاقتهما بالآخر الرجل، بكثير من الجرأة والصراحة. وبلغة لا تخلو أحياناً من الترميز والمداورة والتمويه مع الحفاظ على قدر كبير من الحدة والوضوح الدلالي، المرفقين بالمناورة اللغوية. وعموماً كان الجسد هو الموضوع الأساسي لقصائد الشاعرتين وقد أضاءتاه من خلال قول شعري يرتكز في بنيته على الحسي والمجرد معاً. أما الشاعرة الفلسطينية سهام داوود فقرأت قصائد مطبوعة بسمات جمالية مشوبة بشبهة رومانسية تسيطر عليها مناخات الحنين الى روائح وأصوات مفتقدة ومسروقة، وإذا كانت قصائد سهام داوود لا تقارب الموضوع الفلسطيني مباشرة، إلا أنها كانت تصب في هذا المسعى دلالياً. انفرد شوقي بزيع بقراءة قصائد حرة تفعيلية مع الشاعر التونسي محمد الغزي. قرأ بزيع قصائد من ديوانيه "مرثية الغبار"، "قمصان يوسف" وذهب قبل القراءة الى شرح قصيدة قمصان يوسف للمستمعين العرب وطلب من جمانه سلوم حداد أن تقوم بترجمة شرحه. بدا بزيع عالي النبرة لإيصال قصيدته الى الحضور وكان الوزن يرفع اللغة عبر صوته نحو الحماسة. كان هناك حضور واضح أيضاً للكتّاب العرب بالفرنسية وخصوصاً الشاعر المغربي مصطفى النيسابوري والشاعرة اللبنانية كلير جبيلي، والشاعر الجزائري جمال الدين بن شيخ، فضلاً عن الشعراء الفرنسيين الشهيرين مثل برنار مازو، آني سالجر، ميشيل جيس، دومنيك غراند مونت. ومنذ وصول الشاعر بزيع والشاعرين المصريين وهم يتساءلون عن الشعراء الإسرائيليين بغية تحاشيهم والعمل على عزلهم عربياً. وطيلة الأيام الأولى من المهرجان كانوا يتساءلون أين هم، قد يكونون بجانبنا ولا نراهم. ألقى الشعراء الثلاثة قصائدهم في شكل طبيعي في الأيام الأولى ولكن قبل الحفل الختامي الذي أقيم في منتصف المهرجان حاول فريد أبو سعدة تذكر قصيدة "أمل دنقل"، "لا تصالح" وكتبها على ورقة وقرر قراءتها كرد فعل على حضور الشعراء الإسرائيليين. لكنه لم يحضر الحفل الختامي. وكذلك شوقي بزيع وحلمي سالم علماً أن الحضور الإسرائيلي بدا طفيفاً وغير ملحوظ. وقد غادر الشعراء الإسرائيليون المدعوون المهرجان قبل نهايته من غير أن يترك ذلك أثراً يذكر، على عكس الشعراء العرب الذين وسموا المهرجان بحضورهم. ولعلّ الشاعر الإسرائيلي ناتان زاخ هو الوحيد الذي حضر المهرجان كله وهو كان قدم أدونيس ومحمود درويش في اللغة العبرية. والعجيب في الأمر أيضاً هو مشاركة فرقة الكندي بقيادة المغني حمزة شكور، من سورية في المهرجان من دون أن يكون لدى أعضاء الفرقة أي مشكلة سياسية أو "تطبيعية" فيما كان بعض الشعراء العرب يرتعدون خوفاً من أن يظهر شاعر اسرائيلي من تحت الطاولة، خوفاً على سمعتهم ووظائفهم كما كانوا يرددون دائماً. الموسيقى والغناء كانا حاضرين أيضاً في المهرجان. الجمهور صفق طويلاً للمغنية الفرنسية جولييت وقد سحرت الجميع سواء بأغانيها العاطفية أو بأغانيها الناقدة للمجتمع في شكل لاذع وساخر وهي تنضوي تحت عروض الشانسونيه. أيضاً كان هناك حضور لافت للمغنية ماريا دل مار بونت. عربياً قدم المغني مروان عبادو وصلات غنيائية زاوج فيها بين الأشكال الموسيقية الشرقية والغربية وبدا كأنه يشق طريقاً خاصاً به، مفترقاً عن تجارب غنائية أخرى مشرقية كمارسيل خليفة وزياد الرحباني... الخ. من دمشق قدمت فرقة الكندي أو الدراويش، وقد أثارت لبساً كبيراً سواء بين المستمعين الفرنسيين أو العرب. الجميع كان ينتظر أن تقدم الفرقة أغاني صوفية أو أشعاراً صوفية. لكنها لم تقدم سوى أغانٍ دينية طالما قدمتها الاذاعة والتلفزيون السوريان خلال شهر رمضان وسواه من المناسبات الدينية. أغرب ما في الأمر أيضاً هو تقديم فرقة الكندي الدمشقية بعض أغاني أم كلثوم العاطفية على أنها أغان صوفية، برفقة الرقصات المولوية التي قام بها راقصا الفرقة. وفي الختام ألقى حمزة شكور خطبة عصماء، ادعى أنه قدم أغاني صوفية اسلامية ضمنها تحيات للزعماء السوريين بمن فيهم الرئيس الراحل حافظ الأسد. مهرجان لوديف أو صوت المتوسط الذي يقام كل عام هو محاولة لإرجاع الشعر الى الناس والناس الى الشعر من جهة وتوحيد الأصوات المختلفة والمتباينة فنياً وقومياً في حوض المتوسط، في صوت واحد هو صوت السلام والمحبة على قول رئيس بلدية لوديف، وهذا ما يبدو أن اللوديفيين والقائمين على المهرجان ينجحون في تحقيقه سنة بعد أخرى.