كبيراً كان نجاح الدورة الأولى من المهرجان الشعري «أصوات حيّة – من متوسّط إلى آخر» الذي دام تسعة أيامٍ وليال في مدينة سيت (جنوبفرنسا). ولا عجب في ذلك فالفريق المنظِّم لهذه التظاهرة الشعرية الجديدة هو نفسه الذي نظّم مهرجان «أصوات المتوسّط» (لوديف) على مدى 12 عاماً فاكتسب بذلك خبرةً فريدة وضعها في خدمة مهرجانه الجديد الذي شارك في نشاطاته أكثر من مئة شاعرٍ وفنان متوسّطي. ونجاح الدورة الأولى لهذا المهرجان يعود إلى جملة أسباب أوّلها عزم الفريق المنظِّم على الاستمرار في مشروعه النبيل، أي خلق فضاءٍ خصب وفسيح تعلو فيه أصوات شعرائنا المتوسّطيين، وتطويره في ضوء الخبرة المكتسبة والمكان الجديد الذي يستقبل هذه التظاهرة. وفعلاً، تم تحسين ظروف القراءات والنقاشات الغزيرة (400) التي احتضنتها مدينة سيت بحفاوةٍ وفرحٍ كبيرين، عبر توفير مهاراتٍ وتقنيات مختلفة لها، كما تم تكييف هذه النشاطات وفقاً لطبيعة المدينة الخلابة التي تقع مباشرة على المتوسّط وتشكّل جزيرةً مفصولة عن اليابسة بالقنوات الرائعة التي تحيط بها. وفي هذا السياق، حصلت القراءات في حدائق عامة أو خاصة جميلة داخل المدينة وفي شوارعها الضيّقة الحميمة وساحاتها الفاتنة، ولكن أيضاً على مراكب صيد عند الشاطئ أو في مواقع تطّل على البحر وعلى «المقبرة البحرية» التي يرقد فيها الشاعر بول فاليري. السبب الثاني لنجاح هذه الدورة هو العدد الكبير للوجوه الشعرية المتوسّطية الذي دُعي للمشاركة في نشاطاتها، مثل ميشال دوغي وليونيل راي وبرونو دوسي وجان ميشال إسبيتاليي من فرنسا، وأدونيس وصلاح ستيتيه وفينوس خوري غاتا وعباس بيضون (الذي نتمنّى له الشفاء العاجل) وغسّان زقطان وطاهر رياض من العالم العربي، وآدام بوسلوجيك من صربيا وأومبرتو فيوري من إيطاليا وليوبيتا لابوفيتش من المونتينيغرو. ولأن تأثير الحضارات المتوسّطية يتعدّى حدودها الجغرافية، تم دعوة شعراء مهمّين من بلدان بعيدة عن هذا الحوض مثل لويس ميزون من شيلي ونمرود من تشاد وجان ميتيلوس من هاييتي ودونيز بوشي من مقاطعة كيبك الكندية. وعلى المستوى الفني، ساهمت حفلات الموسيقى والرقص والمسرح التي نُظِّمت في المساء على هامش المهرجان في نجاحه نظراً إلى أهمية الفنانين المدعوين، كشارلوت رامبلينغ وجان لوي ترانتينيان ودانييل مالينغو وسافو وخوليا ميغينيز وإيف جامي وزيا أزازي ونينا دو فويغو وبويكا وأوركسترا باريس الوطنية. عدد الشعراء العرب المدعوين إلى هذه الدورة بلغ تسعة وعشرين هم، إلى جانب الذين سبق ذكرهم: حبيب تنغور من الجزائر، فوزية أبو خالد وعيد الخامسي من السعودية، علي الشرقاوي من البحرين، حلمي سالم وأحمد يماني من مصر، أحمد راشد ثاني من الإمارات، فاضل العزّاوي وصلاح الحمداني وصلاح نيازي من العراق، عاشور الطويبي وصالح قادربوه من ليبيا، مبارك وساط ومحمد لعمراوي من المغرب، إبراهيم سعيد من عمان، غسّان زقطان وزكريا محمد من فلسطين، منذر المصري من سورية، أمينة سعيد ومحمد علي يوسفي وعبد الوهاب الملوِّح من تونس. ولم تحضر الجزائرية نصيرة محمّدي والإماراتية ميسون صقر القاسمي لأسبابٍ شخصية، بينما غاب الفلسطيني راسم المدهون لعدم تمكّنه من الحصول على تأشيرة من القنصلية الفرنسية! أما الشعراء العرب الذين سجّلوا حضوراً مميّزاً خلال المهرجان فهم بالترتيب أدونيس الذي شارك بكثافة في أعمال المهرجان وكانت له مداخلات شعرية ونقدية كثيرة تحدّث خلالها مع محاوريه وجمهوره بصراحةٍ ومعرفةٍ كبيرتين حول حال الشعر والثقافة في العالمين العربي والغربي، فينوس خوري غاتا التي أسرت جمهورها الواسع بقراءتها الرقيقة-العنيفة لقصائدها، صلاح ستيتيه الذي قرأ قصائد جميلة من ديوانه الجديد «طائرٌ بجناحين من ماء»، غسان زقطان وزكريا محمد اللذان لاقت قصائدهما الحديثة في شكلها ومواضيعها إعجاب جمهورهما الغفير وكانت لهما مداخلات مهمة حول الشعر الفلسطيني المعاصر بخصوصياته وظروفه، صلاح الحمداني الذي تحدّث بجرأة لا مواربة فيها عن الوضع في العراق وظروف مغادرته لوطنه وعن تجربته الشعرية المثيرة، وقرأ قصائد من ديوانه الصادر حديثاً باللغة الفرنسية «كنّاس الصحراء»، منذر المصري الذي تميّز بحضورٍ جذّاب وقصائد قصيرة مشغولة بعناية ومشدودة الى نفسها كوترٍ على قوس، محمد لعمراوي الذي أشعل جمهوره بأدائه الفريد ونصوصه الحديثة والطريفة ومواطنه مبارك وسّاط الذي لفت انتباهنا، مثل كل مرّة، بقيمة قصائده وثقافته الشعرية الواسعة. وجديد هذه الدورة، مقارنةً بالدورات السابقة التي نظّمها فريق المهرجان في مدينة لوديف هو قيام لجنته بإصدار، إلى جانب الانطولوجيا التي تضم قصيدةً لكل شاعر مدعو ونبذة عن حياته، خمسة دواوينٍ شعرية باللغة الفرنسية وبلغة الشعراء الخمسة المختارين، حصة العالم العربي منها ديوانان. ولهذا العام اختير ديوان «مثل حلمٍ في الظهيرة» لغسان زقطان (ترجمة كاتب هذه السطور)، وديوان «برقٌ في غابة» لمبارك وسّاط (ترجمة عبد اللطيف اللعبي). وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تشكيل المهرجان مختبراً حقيقياً لترجمة الشعر نظراً إلى تكليفه مترجمين معروفين بنقل نحو ثلاثين قصيدة لكل شاعر أجنبي مدعو الى اللغة الفرنسية. لكن أهمية هذا المهرجان لا تكمن فقط في هذه النقطة أو في مسألة إسماع أصوات الشعراء المتوسّطيين وتسليط الضوء على مسار كلّ منهم وعالمه وخصوصيات كتابته من خلال نقاشاتٍ وحوارات مرصودة لهذه الغاية، بل في توفيره أيضاً لهؤلاء الشعراء فرصة التفاعُل في ما بينهم وتعرفهم الى اختباراتهم وكتاباتهم، وهي مسألة غير متوافرة بهذا المستوى في أي مهرجانٍ آخر، خصوصاً في عالمنا العربي.