«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أنابيبستان" - الحرب النفطية وبناؤها الصراعي . الحرب الافغانية تفقد بعدها الأخلاقي والولايات المتحدة تتجاوز القانون الدولي وأحكامه 2 من 3
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2002

هزت ضربة 11 أيلول سبتمبر التى طاولت الرموز في واشنطن ونيويورك مباني السياسة الأميركية، وتركت آثارها شروخاً متداخلة في هيكل النظام السياسي، بعد أن عرت أوجه القصور فيه كما لم يحدث من قبل في تاريخ الولايات المتحدة الذي لم يكمل بعد قرونه الخمسة. وعلى رغم بشاعة الأعمال الإرهابية الموجهة ضد المدنيين، والدمار الذى تسببت به، إلا أن الإدارة الأميركية تصرفت بعد الأحداث بمنطق دول العالم الثالث. فالرئيس جورج دبليو بوش أعلن تكراراً أن من ليس معنا فهو ضدنا، فهو قسَّم الأحداث إلى مع أو ضد، والعالم إلى خير وشر، على غرار الحركات الأصولية في الشرق مثل الهندوكية والزرادشتية والمتطرفين من المسلمين، وهنا تبدو أزمة النخبة السياسية الأميركية المتكونة أساساً من الواسب الأبيض الأنغلوساكسوني البروتستانتي. كما أن مفاهيم مثل "الشفافية" و"دولة القانون" التي طالما تغنى بها الأميركيون تحتاج الآن الى صيغ جديدة. فمن يصنع القرار الأميركي؟ هل هو بوش الذي لم يستطع في مناظرة تلفزيونية قبيل انتخابه وأمام الملايين من المشاهدين معرفة اسم رئيس وزراء الهند التى يتحالف معها الآن؟
ويبدو واضحاً افتقار السياسة الخارجية الأميركية إلى المبرر الأخلاقي للحرب على أفغانستان، فواشنطن دعمت المجاهدين في فترة الاحتلال السوفياتي من أجل جر الاتحاد السوفياتي لمستنقع يستنزف موارده، ولأجل الوصول إلى هذه الغاية غضت الولايات المتحدة الطرف عن تحول مساحات كبيرة من الحدود الباكستانية - الأفغانية إلى معامل لاستخلاص الهيرويين من نبات الخشخاش والقنب المزروع على مساحات شاسعة. وبعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان رفعت الولايات المتحدة يدها عن هؤلاء "المجاهدين"، الذين تحولوا في غالبهم إلى أمراء حرب وتجار مخدرات، وتركت التوتر والاستقطاب الإقليمي يستشري في أفغانستان وجوارها حتى منتصف التسعينات، إلى أن صنعت "طالبان" وسمحت لباكستان بدعمها للوصول إلى السلطة في كابول في العام 1996. وبعد الانتهاء من شراء الشركات الأميركية لغالبية حقول النفط والغاز في منطقة بحر قزوين في النصف الثاني من التسعينات، ظهرت الحاجة إلى نقل هذه الكميات الهائلة من النفط والغاز إلى الأسواق المفتوحة، وبروز أفغانستان كممر محتمل لأنابيب نقل هذه الثروات. وكان أن انقلبت الولايات المتحدة الأميركية على حليفتها "طالبان"، وأجبرت حليفتها الإقليمية باكستان على تمهيد السبيل للقضاء على "طالبان"، للوصول إلى تحقيق هدفها الكبير بعد أن استقرت نهائياً على ان أفغانستان هي المعبر لمرور أنابيب النفط والغاز، وهو ما يتطلب ترتيبات جذرية في الأجزاء التى سيطرت عليها "طالبان"، وتحييد دول الجوار، وترتيب المنطقة على أسس جديدة لضمان مرور الشريان الجديد لسيطرتها العالمية.
أفلحت الولايات المتحدة في فرض تصوراتها الإعلامية والقانونية على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حتى يسهل لها تحقيق أهدافها الإستراتيجية. وظهر الضعف واضحاً في استقلالية مؤسسات الشرعية الدولية، إلى درجة تسمح بتقويض هذه المؤسسات وانهاء دورها. فقرار مجلس الأمن الدولي 1368 اعتبر هجمات أيلول سبتمبر الإرهابية بمثابة "اعتداء على السلام والأمن الدوليين"، في تبنٍ واضح لأطروحات الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، وذلك على رغم أن منفذي هذه العمليات، التي احتكرت الولايات المتحدة وحدها الإعلان عنهم، هم أشخاص عاديون وليسوا من أتباع القوات المسلحة النظامية لأي بلد. فضلاً عن أن هذه العمليات انطلقت من مطارات أميركية، واستخدمت طائرات مملوكة لشركات أميركية خطفت في أجواء السيادة الأميركية. وبالتالي فلا سبيل الى وصف تلك الهجمات بأنها "دولية" على أية حال. وأعطى القرار 1373 الولايات المتحدة "الحق في الدفاع عن نفسها بالاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة"، دونما ذكر للنطاق الزمني الذي تستطيع فيه الولايات المتحدة استخدام هذا الحق، وهو ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة في المادة 51. وتحدد المادة الأخيرة هذا الإطار الزمني بعبارة "حتى يتدخل مجلس الأمن لاتخاذ التدابير المناسبة". وكانت المادة 51 أيضاً فرضت على حق استخدام القوة أن يندرج في الإطار الجماعى للمجلس. من ناحيتها خصت المادة 46 من ميثاق الأمم المتحدة مجلس الأمن وحده بالمسؤولية عن رسم الخطط العسكرية. ولكن الولايات المتحدة استبعدت مجلس الأمن في حربها على أفغانستان من القيام بالمهمات الموكلة إليه طبقاً لميثاق الأمم المتحدة. والشاهد أن الولايات المتحدة لم تكتف بذلك فقط، بل سمحت لنفسها بتفويض غير محدد المدة، وغير مرتبط بأحداث معينة غير قابل للإلغاء" وغير محدد النطاق الجغرافي إذ لا يعطي الولايات المتحدة الحق في ضرب أفغانستان فقط لمحاربة الإرهاب، بل دول أخرى غير معروفة على وجه الدقة حتى الآن، وهو ما دفع بعض المراقبين إلى اعتبار قراري مجلس الأمن 1368 و1373 بمثابة "النهاية للقانون الدولي".
المصالح الإقليمية في الحرب
كانت صورة التحالفات في أفغانستان إقليمياً ودولياً قبل الحرب الأميركية كالآتي: حركة "طالبان" ومن ورائها باكستان وبغطاء أميركي في مواجهة أحزاب التحالف الشمالي: "جمعية إسلامي" بقيادة رباني ومسعود، و"جيش ملي إسلامي" بقيادة عبدالرشيد دوستم، و"حزب الوحدة" بقيادة عبدالكريم خليلي ومن ورائهم روسيا وإيران والهند وفرنسا. في حين كان "حزب إسلامي" بقيادة قلب الدين حكمتيار وحيداً في الساحة من دون غطاء إقليمي أو دولي، بعد أن نفضت باكستان يدها من دعمه وفضلت عليه حركة "طالبان"، بسبب عدم مقدرته على الاحتفاظ بالمواقع العسكرية للبشتون من ناحية، ولإطلاقه الشعارات البشتونية القبلية، التي لا تحبذها باكستان، بسبب "المسألة البشتونية" في حربه على الطاجيك من ناحية أخرى. وكان انضمامه الى التحالف الشمالي على أثر هزائمه أمام "طالبان" ورقة في يد التحالف لإثبات أن التحالف يضم كل أطياف الأعراق الأفغانية بمن فيهم البشتون. وتتأكد هذه الحقيقة حين نقارن صلاحيات منصبه الرمزي في الدولة الأفغانية قبل "طالبان"، إذ كان رئيساً للوزراء في ظل وجود مسعود وزيراً للدفاع ورئاسة رباني للجمهورية.
وخلال الحرب الأخيرة تغيرت التحالفات للأسباب الإستراتيجية الأميركية السالفة الذكر، وأعلنت الحرب على "الإرهاب"، أو لأجل النفط، ففقدت "طالبان" غطاءيها الإقليمي والدولي.
الجماعات والأحزاب السياسية
دخلت أفغانستان بوابات الاهتمام العالمي بسبب الحرب التي ما زالت تشنها عليها الولايات المتحدة واستمراراً للحرب المستعرة فيها منذ 23 سنة. فهي البلد الوحيد في العالم الذي يعيش مع الحرب طوال هذه المدة، حتى صارت أفغانستان علماً على الحروب، وصارت الحروب مرادفاً لإسمها. وخلال سنوات الحرب تكبدت أفغانستان حوالى 7،1 مليون قتيل، وخلفت حوالى 10 ملايين لغم أرضي، علاوة على نسبة أمية تفوق 90 في المئة، كما هرب 5.6 مليون من أصل 14 مليون مواطن تجاه دول الجوار وخصوصاً باكستان وإيران. ويشبه الصراع في أفغانستان الفوضى المنظمة، التي تظهر إلى العلن بدخول ساحتها السياسية تحالفات جديدة تتغير باستمرار، ولا تلبث أن تتبدد لمصلحة تحالفات جديدة وهكذا.
وتختلط المصالح الحزبية والإقليمية بالصراعات العرقية في علاقة عضوية وجدلية تتأثر بها في الأخص الأضيق وتؤثر فيها في الأغلب الأعم. ويحوي الصراع على أفغانستان في جذوره طبقة أساسية هي التكوينة العرقية الإثنية، التي ما انفكت منذ تكوين أفغانستان الحديثة كدولة في العام 1747 وحتى الآن، تلعب الدور الأساس في تفاقم الصراعات هناك.
وثُبّتت الحدود الحالية في نهايات القرن التاسع عشر كمنطقة عازلة بين النفوذين الروسي في الشمال والإنكليزي في الجنوب. وبهذا الخلل البنيوى في تركيبة الدولة الأفغانية زرعت المنازعات وإمكانات تطورها وانفجارها مع بذرة الدولة الأفغانية منذ نشأتها، إذ حشرت في هذا الكيان العازل وقتذاك أكثر من عشرين لغة وثلاثين عرقية.
البشتون هم أهم العرقيات وأكبرها ويسكنون في جنوب البلاد، إلا أنهم ينقسمون إلى قبائل غير متآلفة أكبرها وأهمها ثلاث: الدوراني والغيلزاي والبوبلزاي، وهم قوام العرقية البشتونية الأساس. أما العرقية الثانية من حيث الأهمية فهي قبيلة الطاجيك التي تمثل سكان البلاد المتحدثين بالفارسية ويدينون بالمذهب السنّي. والقوميات الأخرى المهمة هي الأوزبك ويقطنون الشمال، والهزارة الشيعة ويقطنون في وسط البلاد على قمم المرتفعات الجبلية وعند سفوحها.
لعب الموزاييك العرقي الأفغاني دوره الكبير قبل نشوب الحرب الأهلية، حتى أن الطبقات الاجتماعية الإثنية تشكلت على أساسه. فالبشتون كانوا عماد الدولة والنخبة التقليدية في البلاد، وانتمت طبقة النبلاء في أفغانستان إليهم. في حين احتل الطاجيك الطبقة الوسطى واستأثروا بقسم كبير من حركة التجارة وسيطروا على الوظائف الإدارية في الدولة. ولم يكن للأوزبك إلا تأثير قليل في مراكز السلطة وتمركزوا في مقاطعاتهم الشمالية. أما الهزارة فكانوا بمظهرهم المنغولي ومذهبهم الشيعي أكثر الأعراق تهميشاً. وكانت العرقيات في أثناء الحكم الملكي تلعب دور الكاشف للهوية الاجتماعية، فبها تتحدد المكانة التقريبية للأشخاص في سلَّم الترقي الاجتماعي في أفغانستان، إلا أنها على رغم ذلك لم تكن المحرك الرئيس للأحداث السياسية على الشكل الذي جرى لاحقاً، وكان الحراك الاجتماعي مستقطباً في المقام الأول على خلفية الصراع بين العاصمة والريف. ومثل الكثير من بلدان العالم الثالث تركزت في العاصمة كابول طبقة المثقفين، بسبب وجود المعاهد العليا والجامعات، التي نافست المراكز التقليدية للنفوذ في البلاد وطرحت أفكاراً سياسية جديدة.
برز "حزب الشعب الأفغاني الديموقراطي" وسط الطلبة وفي خضم الحراك الفكري في العاصمة في نهايات العصر الملكي، كمجموعة قادرة على مخاطبة التواقين الى التمرد والحالمين بإطاحة البنى التقليدية في أفغانستان، والموجودين في الغالب في العاصمة. وبمساعدة "حزب الشعب الأفغاني الديموقراطي" استطاع رئيس الوزراء، آنذاك محمد داود خان، أن يجبر إبن عمه الملك السابق ظاهر شاه على الخروج من البلاد عام 1973.
لم تمكث حكومة داود إلا سنوات قليلة في السلطة، لم تتمكن فيها من معالجة المشكلات المستعصية للمجتمع الأفغاني والمتوارثة من مئات السنين. فهذا المجتمع لم يستطع تجاوز الإقطاع المتفشي على المستوى الفكري أو على مستوى الإنتاج. وتبلغ نسبة الأمية فيه مستويات تتجاوز ال90 في المئة. ولم يستمر التحالف بين داود و"حزب الشعب" أكثر من خمس سنوات. ففي 27 نيسان أبريل 1978 انقلب "حزب الشعب" على داود وتسلم السلطة بمفرده. ونظراً لعدم تمتع الحزب بقاعدة أيديولوجية متماسكة، انقسم الحزب إلى مجموعتين هما: بارشام الراية وخلق الشعب، وبلغ الأمر بينهما حد التقاتل.
كان السبب الرئيس للانشقاق الخلفيات العرقية والاجتماعية للأعضاء، فأنصار "الراية" كانوا من سكان المدن الطاجيك، في حين كان أعضاء "خلق" من سكان القرى البشتون الوافدين على كابول. وبسبب عدم وجود أحزاب سياسية في أفغانستان آنذاك، لم تستطع الانقسامات العرقية في صفوف "حزب الشعب" النيل كثيراً من وجوده على الساحة السياسية، وأيضاً بسبب عدم إدراك القبائل الأفغانية أهمية وجود الأحزاب كإطار فكري يجمع أيديولوجياً بينها. وانعكست إدعاءات "حزب الشعب" بتمثيله قوى التحديث ومركزية الدولة في العاصمة، في الدعوات المتكررة إلى إقامة "السوفيتات" في أفغانستان وتحديداً في كابول، تلك التي رفعها "حزب الشعب" إلى مرتبة "التقدمية" في مقابل انحداره بالريف إلى نعته ب"الرجعية". ومثلت "سياسة القوميات" رافعة رئيسة لسياسات سلطة كابول "الاشتراكية"، تلك السياسة التي حاولت "السلطة التقدمية" بمقتضاها تدمير التراتبية الاجتماعية العرقية، من دون برنامج واضح وآليات عمل محددة، آملاً في اجتذاب التأييد من الأعراق المهمشة مثل الأوزبك والهزارة.
ولأجل الوصول إلى استقطاب المزيد من التأييد العرقي، اعترف الحزب باللغات المحلية للأوزبك والهزارة كلغات قومية للبلاد، ورفع الجهاز الإداري والإعلامي للحزب التاريخ العرقي لهذه القوميات وثقافاتها إلى مستوى الثقافات الوطنية. وتعدت حكومة "كابول الاشتراكية" في دعمها الأعراق المهمشة خطوطاً أفغانية حمراً، فكان أن سمحت بتشكيل الميليشيات على أساس عرقي. والدليل هنا ميليشيات الأوزبك بقيادة الجنرال عبدالرشيد دوستم التي تضخمت بشدة في هذه الفترة، وشكلت العمود الفقري لسلطة كابول العسكرية بعد انسحاب قوات الاحتلال السوفياتية. وفي مقابل البشتون انتهجت سلطة كابول سياسة استغلال الانقسامات القبائلية لضرب وحدة العرقية البشتونية، وإضعاف المقاومة في مناطق تمركزهم قرب الحدود الباكستانية.
لم ينتظر الحزب اكثر من شهور قليلة بعد تسلم السلطة ونظم أول إصلاح زراعي في أفغانستان، تجاهل فيه البنى التقليدية وعلاقات السلطة في الريف، فانفجر الريف وبدأت المقاومة العلنية للسلطة وانقسمت البلاد الى معسكرين: كابول ومن يمثلها في مواجهة الريف الأفغاني ومن يواليه. وبعدما اهتزت سلطة الحزب وظهرت الانشقاقات في صفوفه على خلفيات متنوعة، وإن كانت عرقية أساساً، دخل الجيش الروسي إلى البلاد في كانون الثاني ديسمبر 1979 للحفاظ على "السلطة الاشتراكية". ومن ساعتها اكتسب الصراع الأفغاني بعداً دولياً، لأن الولايات المتحدة بحثت عن حلفاء من بين كثر عرضوا خدماتهم لمحاربة الاتحاد السوفياتي، فتغلغلت الاستخبارات المركزية في أعمال المقاومة وفي التسهيلات المادية والعسكرية، إلى درجة وصف فرد هاليداي الدعم الأميركي للجماعات الجهادية في أفغانستان بأنه "أكبر العمليات في تاريخ الاستخبارات المركزية الأميركية".
لم تنتظر الأعراق المكونة للأفغان طويلاً على الغزو السوفياتي" فشكلت فصائل لمقاومة الغزو متفقة مرحلياً على هدف مواجهة التدخل الأجنبي. وفي الوقت الذي كان "حزب الشعب" يبني شرعية لاستيلائه على السلطة استيلاء الشغيلة على السلطة بموجب تحالف الجبهة الوطنية تحت زعامته، في استنساخ باهت لتجارب الدول الاشتراكية الإعلامية والحزبية، ذهبت الفصائل القبلية الأفغانية إلى ضفاف الإسلام للغرف من معينه الذي لا ينضب، إذ هو المرتكز الرئيس للهوية الحضارية للشعوب التي اعتنقته والحافظ لخصوصيتها الثقافية، والكابح لانسحاقها التراثي أمام البدائل التغريبية بوجهيها الاشتراكي والرأسمالي.
على هذه الخلفية لعب الإسلام دور الذراع المعادلة للضغوط السوفياتية، فصارت صورة الفرز السياسي في أفغانستان تتشكل على أساس الصراع بين "الشيوعية الملحدة" والإسلام، فتوارت بسبب هذه الخلفية الاعتبارات العرقية إلى حين. وشكل الإسلام، الذي تنازعت على التحدث باسمه عشرات التنظيمات المدعومة من الخارج، حاضنة أساسية للبنى التقليدية في أفغانستان، تلك التي حاول "حزب الشعب" تدميرها بتسرع وسذاجة.
بعد انسحاب قوات الاحتلال، بل وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، عاد الصراع العرقي للظهور إثر اختفاء العدو الذي اتفقت الأعراق الأفغانية على محاربته. وظهر للعيان كم هي مصطنعة الحدود الأيديولوجية بين الشيوعيين والمقاومة الإسلامية في أفغانستان، وكم هي متجذرة الخلفيات العرقية. وعلى رغم الحدود الأيديولوجية والخنادق العسكرية الفاصلة بين الشيوعيين و"الجهاديين" لم يخل الأمر من تفاهمات عرقية عابرة لهما معاً، في الوقت الذي كانت الخلافات داخل المعسكر الواحد إلى تفاقم، سواء كان ذلك في معسكر "المجاهدين" أو في معسكر سلطة كابول. ولئن استطاع نجيب الله البشتوني ورئيس وزراء حكومة حزب الشعب الأفغاني منذ العام 1986 بسياسته الماهرة اللعب على نغمة الوحدة الوطنية والاحتفاظ بالسلطة حتى العام 1992، إلا أن تنامي الشواهد إلى وصوله لتفاهمات مع حكمتيار للوصول إلى هيمنة بشتونية على أفغانستان، أسهم في إنجاح المؤامرة عليه بسبب أن القوى غير البشتونية الفاعلة شكلت جبهة لمحاربته وهي "حزب الجمعية" الطاجيكي، وانشقاق "بارشام" في "حزب الشعب"، إضافة إلى ميليشيا الأوزبك التابعة لدوستم. ومع الانسحاب السوفياتي تآكل حضور "حزب الشعب" وانخرط أعضاؤه في صفوف الفصائل الأفغانية المختلفة. ولم تتخلف القوات النظامية الأفغانية عن هذا الركب، فانقسمت الوحدات العسكرية وانضمت إلى الفصائل المتناحرة وفق قاعدة "كل بحسب عرقيته".
وبهذا المقتضى انضم أفراد "حزب الشعب" إلى "حزب إسلامي" أو "جمعية إسلامي"، الطاجيك منهم إلى الأول والبشتون إلى الثاني. كما كان تمدد نفوذ الفصائل وتغذية جناحها العسكري بمعدات عسكرية أميركية متطورة، إيذاناً بدخول مرحلة جديدة من الصراع المسلح نزع عن تلك الفصائل عباءة الجهاد الإسلامي، لينكشف المحتوى العرقي المكنون. وكشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان وقع في آذار مارس 1985 القرار رقم 166 لمجلس الأمن القومي الأميركي، القاضي بدعم "المجاهدين" عسكرياً، وبمعدات حربية متقدمة يبلغ وزنها 65 ألف طن سنوياً.
خريطة الأحزاب الأفغانية
عند الانسحاب السوفياتي
أهم الأحزاب التقليدية كان "حركة إنقلاب إسلامي" بزعامة محمد نبي محمدي، التي مثلت الفقهاء والهياكل البشتونية القبائلية في جنوب وجنوب غربي أفغانستان، ولكنها مثلت في الواقع أيضاً رباطاً فضفاضاً فقط بين الكثير من الجبهات والحركات ومنهم طلبة المعاهد الدينية، التي نشأت "طالبان" منهم لاحقاً وتلقت لديهم تدريباً عسكرياً. نجح "حزب إسلامي" و"جمعية إسلامي" في تطوير حزبيهما إلى أهم الأحزاب خلال فترة المقاومة ضد الغزو السوفياتي. الحزب بقيادة قلب الدين حكمتيار كان انشقاقاً على "جمعية إسلامي" في السبعينات. وكان الحزب يتمثل في كل أفغانستان إلا أنه اعتمد العمل بطريق الخلايا، التي تعمل في الريف البشتوني، لأن آراءهم الراديكالية كانت تتناقض مع البنى التقليدية هناك. وحتى العام 1992 كان "حزب إسلامي" بقيادة حكمتيار هو الشريك المفضل في أفغانستان للولايات المتحدة وباكستان. وانخرط "حزب إسلامي" في تأسيس معسكرات التدريب "للمجاهدين" من خارج أفغانستان بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات الأميركية والباكستانية، وخصوصاً في مقاطعة خوست الأفغانية التي كان يسيطر بالكامل عليها. ولهذا كان الحزب من أغنى الأحزاب في أفغانستان.
أما "جمعية اسلامي" فتأسست كملتقى لكل الفئات غير البشتونية، وبمرور الوقت وبزيادة الاستقطابات العرقية في المجتمع الأفغاني أصبحت الجمعية حزباً طاجيكياً بامتياز، وقادها برهان الدين رباني الذي تلقى علومه في جامعة الأزهر الشريف. في حين كان أحمد شاه مسعود قائداً للجناح العسكري للحزب، وهو الذي قاد العمليات العسكرية واكتسب شهرة واسعة في اثناء مقاومته الغزو السوفياتي وخصوصاً في "وادي بانجشير"، فأطلق عليه لقب "أسد بانجشير". وعلى رغم أن الجمعية مثلها مثل "حزب اسلامي" من حيث الأيديولوجية الدينية، إلا أنها اعتمدت خطاً براغماتياً في حركتها سمح لها بالعمل مع البنى التقليدية الإسلامية في الريف الأفغاني. كما أن نوعاً من تقسيم النفوذ داخلها ظهر بوضوح بين برهان الدين رباني الزعيم الإسمي للجمعية وأحمد شاه مسعود وزير الدفاع والقائد الفعلي ميدانياً. وعلى الجانب الآخر كان هناك المذهب الشيعي، الذي وجد في عرقية الهزارة الدعم والسند، ولكن الهزارة اختلفوا على مدى العلاقة مع إيران، وفي العام 1992 اتحدت الفصائل الشيعية بضغط من إيران، لمجابهة البشتون في جبهة موحدة، وكوّنوا "حزب الوحدة الإسلامي"، وفي الوقت نفسه كان عبدالرشيد دوستم، القائد العسكري الشيوعي سابقاً نجح في تثبيت نفسه زعيماً للأوزبك.
تكونت بقية الفصائل من تنويعات سياسية على عرقيات مختلفة يتصدرها البشتون، هؤلاء الذين سحبت من تحت أقدامهم حركة "طالبان" البساط، فاندثرت هذه الفصائل تقريباً مثل "الحزب الإسلامي" و"الحركة الإسلامية" و"الاتحاد الإسلامي للتحرير" و"الجبهة الوطنية الإسلامية".
انعدمت الفوارق الأيديولوجية بين الأحزاب السياسية الأفغانية، إذ كانت كلها على اختلاف عرقياتها ترفع شعارات إسلامية متزمتة. كما أن كل هذه الأحزاب خاضت صراعات داخل عرقيتها على التمثيل السياسي للعرقية. "طالبان" هزمت "حزب إسلامي" بقيادة حكمتيار قبل أن تصل الى السلطة، وحزب "جيش ملي إسلامي" الأوزبكي بقيادة عبدالرشيد دوستم انتصر على الجنرال الأوزبكي عبدالمالك، و"حزب وحدت إسلامي" الهزاري بقيادة عبدالكريم خليلي انتصر على منافسه العرقي حاجي محقق وهكذا.
وكان سقوط نجيب الله في العام 1992 إيذاناً بتقسيم فعلي لأفغانستان إلى مناطق مختلفة أيديولوجياً وعرقياً في الوقت نفسه. ففي وسط أفغانستان لعب "حزب الوحدة" الشيعي الدور الرئيس في الأحداث بقيادة مؤسس الحزب علي مزاري. وفي أيديولوجية "حزب الوحدة" تم خلط المفهوم المذهبي الشيعي بالقومي الهزاري، فبدا وكأنه بناء لا ينفصم، الأمر الذي أسهم في تمتين الشعور العرقي لديهم. وشهد الجنوب مناطق البشتون فراغاً مناطقياً بمواقع المتحدثين باسم العرقية البشتونية، لأن التناحرات القبلية لم تسمح لأي من الأحزاب بأن يمد نفوذه إلى خارج نطاق العشيرة التي ينتمي إليها. أما في المرتفعات الواقعة في الشمال الشرقي، وفي مدينة هيرات إلى الغرب مواقع الطاجيك فنجحت "جمعية إسلامي" في تعزيز مواقعها، كما أنها سيطرت على الحكومة حين تولى زعيمها برهان الدين رباني منصب رئيس الحكومة في ظل عدم وجود رئيس للبلاد، وذلك بالتحالف مع أحزاب صغيرة أخرى.
ولكن "الجمعية" لم تستطع خلال سنوات حكمها الأربع أن تعلن عن برنامج لحكومتها، أو أن تسمح لأحزاب أخرى أن تتقاسم السلطة معها، ناهيك عن الدعوة الى انتخابات عامة. وبررت "جمعية إسلامي" تركيز السلطة في يدها بخطر التقسيم المحدق بأفغانستان وكذلك بحال الحرب التي عاشتها البلاد.
تركزت المعارك في الفترة الواقعة بين 1992 وحتى العام 1996 في العاصمة الواقعة على مفترق الطرق بين مناطق الطاجيك في الشمال الشرقي والبشتون في الجنوب والهزارة في الوسط. وبناء عليه كان الفاعلون الأساسيون في هذه الحرب حزب "جمعية اسلامي" الطاجيكي، و"حزب إسلامي" البشتوني، وحزب "الوحدة" التابع للهزارة. وفضل قائد الاوزبك عبدالرشيد دوستم أن يلعب لعبة الكراسي الموسيقية، وأن يغير تحالفاته مع هذا الطرف أو ذاك باستمرار، حتى يمنع انتصار أي من الفريقين المتحاربين. ولكن المنازعات العسكرية على العاصمة، التي لم تطلها الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، دمرت مبانيها بالكامل وكذلك مزقت نسيجها الاجتماعي" إذ شهدت العاصمة للمرة الأولى عمليات قتل جماعية للمدنيين على خلفيات عرقية.
أسهم موزاييك الأعراق الأفغاني البشتون 40 في المئة، الطاجيك 25 في المئة، الأوزبك 9 في المئة، الهزارة 8 في المئة، التركمان 3 في المئة، آخرون 15 في المئة، معطوفاً على السبب الآخر المهم وهو ضعف هياكل "الدولة الأفغانية"، في تغييب الحلول الوطنية الجامعة لمصلحة مثيلاتها العرقية والطائفية والجهوية. وطوال الفترة الواقعة بين 1996 وحتى انتهاء سيطرة "طالبان" في العام 2001 على أثر الحرب الأميركية، حكم الصراع السياسي والعسكري في أفغانستان فريقان: الأول "طالبان" والثاني تحالف الشمال. وعلى رغم أن الحركات الإسلامية ظهرت في أفغانستان حديثاً مع نهايات العقد السادس من القرن الماضي، إلا أن هذه الحركات طالبت بإقامة "الدولة الاسلامية" فوراً، وكان المطالبون ب"الدولة الاسلامية" في الأحزاب الإسلامية من ذوي الأصول البشتونية الريفية الذين سكنوا كابول. وانطلقت أكثرية التحليلات الخاصة بالتوجه الأيديولوجي لحركة "طالبان" من أرضية مفادها أن الحركة هي كيان متجانس في داخله، واعتبار الحركة ممثلة لأحد أكثر التيارات تطرفاً في أفغانستان والمنطقة، ولكن خريطة التيارات السياسية في أفغانستان توضح أن حركة "طالبان" ليست كياناً متجانساً بأية حال من الأحوال.
* رئيس تحرير مجلة "شرق نامة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.