ترامب يشتكي من تنكيس الأعلام في يوم تنصيبه    سوبر إيطاليا.. الإنتر والميلان    «ظفار» احتضنهما.. والنهائي يفرقهما    عُمان أمام البحرين.. دوماً في أمان    افتتاح طريق التوحيد بمنطقة عسير    ريال مدريد ينتفض في الوقت الضائع ويهزم فالنسيا ب 10 لاعبين    وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الدعوة يزور فرع الوزارة في جازان ويتابع سير العمل فيه    الأخضر السعودي تحت 20 عاماً يكسب أوزباكستان وديّاً    أمير عسير يستقبل رئيس جمهورية التشيك في بيشة    معرض صناع العطور في دورته العاشرة ونسخته في عام 2024    جمعية التنمية الأسرية تعرض خدمات مركز الأنس بصبيا    حازم الجعفري يحتفل بزواجه    الأرصاد: حالة مطرية بين المتوسطة والغزيرة على مناطق المملكة    الشرع يبحث مع ميقاتي العلاقات بين سوريا ولبنان    غرفة جازان ومركز الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني يعززان شراكتهما لدعم التنمية الإعلامية في المنطقة    وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الدعوة يزور مسجدي التابوت والنجدي الأثريين بجزر فرسان    مدير الأمر بالمعروف يزور مدير فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    ردم بئر يدوي مخالف لأنظمة السلامة في جدة    المملكة توزع 1.000 سلة غذائية في باكستان    حرس الحدود يحبط تهريب (56) كجم "حشيش" و(9400) قرص من مادة الإمفيتامين المخدر    العُلا تستضيف نخبة نجوم لعبة «البولو»    انطلاق ملتقى الشعر السادس بأدبي جازان الخميس القادم    موقف الهلال من قيد نيمار محليًا    انطلاق فعاليات النسخة الرابعة من مهرجان الفقع بمركز شري    تسجيل 1267 حالة وفاة بجدري القردة في الكونغو الديمقراطية    خطيب المسجد النبوي: نعم الله تدفع للحب والتقصير يحفز على التوبة فتتحقق العبودية الكاملة    القيادة تعزي الرئيس الأمريكي في ضحايا الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة نيو أورليانز    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة لمساعدة الشعب السوري    «الجمارك» تُحبط 3 محاولات لتهريب أكثر من 220 ألف حبة محظورة    وسط مخاوف من الفوضى.. حرس الرئاسة يمنع اعتقال رئيس كوريا الجنوبية    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب السوري    مظلات الشحناء والتلاسن    الكلية الأمنية تنظّم مشروع «السير الطويل» بمعهد التدريب النسائي    كيف تتجنب ويلات الاحتراق النفسي وتهرب من دوامة الإرهاق؟    لتعزيز سعادتك وتحسين صحتك.. اعمل من المنزل    5 أخطاء شائعة في تناول البروتين    كيف ستنعكس تعديلات أسعار اللقيم والوقود على الشركات المدرجة؟    ذلك اليوم.. تلك السنة    الغضراف    الاستضافات الرياضية.. المملكة في المقدمة    خشونة الركبة.. إحدى أكثر الحالات شيوعاً لدى البالغين    عبير أبو سليمان سفيرة التراث السعودي وقصة نجاح بدأت من جدة التاريخية    عام جديد بروح متجددة وخطط عميقة لتحقيق النجاح    محمد الفنتوخ.. الهمّة والقناعة    الصراعات الممتدة حول العالم.. أزمات بلا حلول دائمة    سوق العمل السعودي الأكثر جاذبية    لماذا لا تزال الكثيرات تعيسات؟    الأكراد.. التحديات والفرص    ابتسم أو برطم!    عام الأرقام والتحولات الكبيرة السياسة الأمريكية في 2024    1.3 مليون خدمة توثيقية.. عدالة رقمية تصنع الفارق    سُلْطةُ الحُبِّ لا تسلّط الحرب    السعودية تأسف لحادثة إطلاق النار التي وقعت في مدينة سيتينيي بالجبل الأسود    استقبله نائب أمير مكة.. رئيس التشيك يصل جدة    محافظ محايل يلتقي مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    المملكة تنظم دورة للأئمة والخطباء في نيجيريا    أمين الرياض يطلق مشروعات تنموية في الدلم والحوطة والحريق    نائب أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة "طالبان" ... من نصرة ضحايا حروب المجاهدين إلى الحملات القومية والمذهبية وإلجاء بن لادن . تعاظم دور الأجهزة الإقليمية والمتطوعين وجموح المنازعات الداخلية ... غذيا عنفا أفلت من عقاله 2من2
نشر في الحياة يوم 12 - 01 - 2002

} قد يكون الحال هذا، أي التجريد والاختزال، سبباً في إقبال الألوف من التلامذة الفتيان على الجهاد الجديد واحتشادهم في سبيله. وعزز الإقبال على الانضواء تحت لواء الحركة اليسر الذي انترعت به انتصاراتها الأولى على جماعات متهاوية ومتحاربة. فسقطت ولايتا أوروزغان وزابل، في وسط البلاد، من غير رصاصة واحدة تقريباً. ودخل الطلبة هلمند، جنوب قندهار، في الشهر الأول من 1995، وتوسلوا في حربهم على غفَّار اخوندزادة، القائد المحلي، بتأليب شيوخ القبائل عليه إما من طريق شراء بعضهم، أو من طريق وعدهم بتقسيم عائد زراعة المخدرات عليهم. وبينما كانت أحزاب المجاهدين والمقاتلين السابقين والأوائل تعقد حلفاً برعاية باكستانية حثيثة على حكومة رباني "المركزية"، وهي ليس لها من هذه الصفة إلا اقامتها بكابول، فتشدد الحصار على المدينة، ويقصفها حكمتيار قصفاً عنيفاً ويومياً، تقدم الطلبة، في اليوم الثاني من شباط فبراير 1995 الى وردَك، جنوب كابول وفي جوارها القريب، ودخلوها. وفي العاشر من الشهر نفسه، استولوا على مدينة ثانية هي ميدان شهر، وفي اليوم التالي على محمد آغا. وعلى رغم استفادة الطلبة من حيث مواقعهم الخاطفة، أدت مبادرة الجماعات والقوى المحلية الى سقوط مئات القتلى.
كان معقل حكمتيار، البشتوني الجنوبي والزعيم الإسلامي المتشدد والرجل الأقرب ذهناً الى الطلبة ربما، في شاراسياب الطريدة التالية. فوقع في أيدي الطلبة المقاتلين في منتصف شباط. وثبت ذلك خلافة حركة الطلبة على الزعامة البشتونية الضعيفة جراء دور ثانوي في الحرب على الغزو السوفياتي قياساً على الشمال الطاجيكي والأوزبكي، وجراء تسلط باكستاني على الجنوب. وعلى جاري عادة وسنة ما عمد الطلبة المنتصرون على ولايات الجنوب كلها الى فتح الطرق كلها الى كابول، وألغوا "الجمارك" والخوات الداخلية التي كان ينصبها رجال حكمتيار، فلبوا رغبة "مافيا" النقل وحاجتها الى طرق آمنة ورخيصة، من وجه، ورعوا، من وجه آخر، وصول التموين الى العاصمة التي تعد مليوناً ومئتي ألف نفس. فجمعوا صفتي العدالة والرحمة في التدبير الى صفة الحسم في الحرب، وأعدوا العدة التي تسوغ بسط حكمهم، وهذه صفاتهم، على أفغانستان كلها.
وتعاظمت، في الأثناء، أطماع الطلبة. فاشترطوا على ممثل الأمم المتحدة الخاص بأفغانستان، السيد محمود المستيري، أن تكون لهم الكلمة الفصل في الحكومة الائتلافية المزمعة بكابول. وناطوا بأنفسهم وحدهم التفريق بين المسلم "الصالح" والمسلم "غير الصالح"، كناية عن الهزارة الشيعة والأوزبك "الشيوعيين" تعريضاً بخدمة دوستم في القوات الأفغانية الشيوعية. فألفى أحمد شاه مسعود نفسه وجهاً الى وجه مع القوة الناشئة والفتية. وحسب ان المسألة عسكرية، وأن حسمها انما يكون بالحرب والقتال. فهاجم الهزارة المتحصنين بجنوب كابول وضاحيتها وأخرجهم من ملاذهم وملجأهم. فلم يكن منهم إلا أن سلموا سلاحهم الثقيل ومواقعهم الى "طالبان". وجزى "طالبان" الهزارة على فعلتهم شراً. فقتلوا عبدالعلي مزاري، رئيس حزب الهزارة وزعيم قومه، برميه من طوافة كانت تقله من كابول. فاستعرت الحزازات والثارات الأهلية والقومية، ونجمت عن الانتصارات العسكرية عداوات مريرة ولدت، بدورها، مجازر وعداوات متجددة.
وأتبع مسعود معركته مع الهزارة بمعركة ثانية مع "طالبان" الذين خلفوا الهزارة على مواقعهم، في 11 آذار مارس. فهزمهم وأوقع فيهم مئات القتلى، وخسر من رجاله مثل هذا العدد. فكانت هذه هزيمة الطلبة الأولى، على نحو ما كان قتلهم مزاري صفوتهم السياسية الكبيرة الأولى.
ولكن معركة كابول، أو حرب كابول وخنادقها وكرها وفرها، لم تحل بين "طالبان" وبين ادارتهم وتدبيرهم شؤون الجنوب الأفغاني والبشتوني، ولا بينهم وبين قطف ثمار الإدارة والتدبير هذين. وأدى فتح الطرق، والغاء الخوات، ونزع سلاح الجماعات المحلية، الى تداول المنتوجات الزراعية من غير حواجز ولا معوقات. فرخصت الأسعار، وانتعشت الأعمال المتواضعة، ورجع مهجرون الى بلادهم وأرضهم وبيوتهم. ووسع الطلبة اختبار حكمهم وادارتهم على نطاق أوسع فأوسع، فأقنعوا مصادر تمويل ودولاً متفرقة بقدرتهم على الاضطلاع بدور سياسي لا يقتصر على أفغانستان وحدها بل يشمل وسط آسيا، من ايران غرباً الى الهند والصين وباكستان طبعاً شرقاً، وبينهما طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وهذه ممرات نفط وسلاح و"علماء" وأسواق تهريب وتصريف ومعاقل حركات اسلامية مقاتلة.
وعلى هذا لم يؤد حاجز مسعود عند كابول، الى انكفاء النهر الطالباني ولا الى استنقاع مياهه. فانعطف النهر، إذا جازت الاستعارة، غرباً. وسارت قوات الطلبة، المثقلة بغنيمة السلاح الكبيرة وبروافد المقاتلين والشبان الذين لا عمل لهم ولا صنعة غير الحرب، الى هراة. فدخلت هذه القوات نيمروز وفرح في أواخر شباط، وأجلت اسماعيل خان عن المحافظتين المتاخمتين لإيران. وتقدمت الى قاعدة شنداند الجوية. فقصف طيران كابول، ووزير دفاعها مسعود، الحربي صفوف "طالبان"، وأنزل فيهم خسائر ثقيلة بلغت زهاء ثلاثة آلاف قتيل، حملتهم على التراجع عن شنداند وعلى التخلي عن فتوحهم على الحدود الأفغانية والايرانية. فكانت هزيمة شنداند أقسى من هزيمتهم في كابول، وتهددت صيتهم وانتصاراتهم السابقة.
ولكن حسبان اسماعيل خان، زعيم هراة والولايات المتحدة الغربية، أن الفرصة مواتية للقضاء على "طالبان"، حمله على تعقبهم الى قندهار. فتفرقت قواته، وهي ضعيفة التأهيل والتنسيق، في بلاد لا يكن أهلها لقوات اسماعيل خان لا المودة ولا التقدير. واستعجل خان الحملة، بينما كانت الاستخبارات الباكستانية تنظم صفوف "طالبان" وتمدها بحاجتها الى الآليات والسيارات وأجهزة الاتصال والتخابر، وهذه كلها كانت الفقر اليها سبباً في هزيمة الشتاء المنصرم. وتوسطت باكستان بين دوستم وبين "طالبان"، فأرسل تقنييه الذين خدموا في القوات الجوية السوفياتية الى قندهار، فأصلحوا طائرات الميغ والطوافات، وأمكنوا "طالبان" من التصرف، للمرة الأولى، في قوة جوية حربية. وقصفت القوة الجوية الأوزبكية، في قيادة دوستم، هراة قصفاً متصلاً.
فلما بادر اسماعيل خان، في أواخر آب أغسطس 1995 الى الاستيلاء على ديلارام، بين قندهار وشنداند، هاجمته قوات الطلبة بحشود بلغ عددها خمسة وعشرين ألف مقاتل، قدم معظمهم لتوه من معسكرات طلبة المدارس بباكستان في سيارات "داتسون" اليابانية الخفيفة، وطوقته في جيريشك وأوقعت به. فعاد خان الى شنداند، وفي اليوم الثالث من أيلول سبتمبر أخلاها من غير قتال، واجتاز الحدود الى ايران مع مئات من مقاتليه. فانفجرت علناً الأزمة الكامنة بين الحكم الباكستاني وبين حكومة كابول، ونددت هذه بتدخل باكستان السافر في المنازعات الأفغانية، ولم يكن رأي السلطة الايرانية في السياسة الباكستانية أقل تحفظاً وإنكاراً من رأي برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود. فاستيلاء "طالبان" على هراة، والولايات التي تحوطها، لا يثبت على حدود ايران الشرقية قوة سياسية ودينية شديدة العداء لإيران وحسب، بل يسلط على الحدود الطويلة هذه مهربي المخدرات ومسوقيها. ويصل باكستان بالحركات الإسلامية السنية في الجمهوريات السوفياتية السابقة، ويضعف قوة ايران على المفاوضة على نقل النفط والغاز من منابع القفقاز الى باكستان والصين.
ودخل الطلبة هراة دخول الفاتحين المحتلين، حقيقةً. فصرفوا من مدارس المدينة الخمسة وسبعين ألف تلميذ وتلميذة نصفهم من البنات، كانوا يدرسون درس الكفاف من غير طاولات ولا ألواح ولا حبر ولا دفاتر، على ما رأى الصحافي أحمد رشيد في مدارسها. وسجنوا وخطفوا المئات من أهلها. وفرضوا فرائض الشرع الجزائي عليها. وجعلوا حاميتها جاليةً عسكرية من البشتون الدراني الذين لا يتكلمون الفارسية ولا يفهمونها. ولما دانت هراة للمستولين الجدد، بعد قندهار و"حياد" وجلال أباد، وكانت قواتهم على أبواب كابول، عمد الطلبة الى استقبال عام 1996 بجمع "شورى" عريضة بقندهار دعوا اليها ألفاً ومئتين من شيوخ القبائل والعلماء والقضاة والمفتين ولعل دعوة حميد كارزاي ألفين من نظراء هؤلاء الى حفل تنصيبه، في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2001، رد على "الشورى" الطالبانية هذه، وطلبوا اليهم تنصيبهم حكاماً "شرعيين" على البلاد الأفغانية. واقتصر حضور غير الأفغان على سفير باكستان بكابول، القاضي همايون، وقنصلها في هراة عقيد الاستخبارات العسكرية الكولونيل إمام. وسمى المجلس المنعقد محمد عمر "أميراً للمؤمنين"، في 4 نيسان ابريل. وظهر الملا على سطح مبنى يطل على ساحة المدينة لابساً عباءة تنسب الى نبي الإسلام، فكانت صورته الشمسية هذه الصورة الوحيدة المتداولة الى اليوم.
وآذن تنصيب محمد عمر "أميراً" بقطع الطلبة كل مفاوضة على حكم أفغانستان. فاستقال المستيري، مندوب الأمين العام للأمم المتحدة، من المنصب ومن الوساطة، في أيار مايو. وأدركت الفصائل الأفغانية المتقاتلة معنى التنصيب. فنشط مبعوثو برهان الدين رباني في المفاوضة. ونشطت الاستخبارات الباكستانية في انشاء حلف مناهض لحكومة كابول. وأقامت ايران جسراً جوياً لنقل العتاد من مشهد الى بَغرام، ورعت خمسة معسكرات تدريب، في جوار مشهد، عهدت بها الى اسماعيل خان. ولم تبخل الهند بإصلاح طائرات شركة الطيران الأفغانية ولا بتركيب أجهزة رادار أرضية. وتسابقت قوى اقليمية متفرقة على تسليح "طالبان"، وتوفير الغذاء وقطع الغيار والذخيرة والمال لهم.
فلم يخف على أحد ان المعركة الفاصلة على كابول قريبة، والحشد الاقليمي قرينة على وشكها. فخاف قلب الدين حكمتيار عاقبة الأمر، وأعلن قبوله تولي رئاسة الحكومة بعد معاندة طويلة، في أواخر حزيران يونيو 1996، ورضي توزير تسعة من أعوانه. فعاقب الطلبة كابول، وحكمتيار ورباني، على انضمام حكمتيار الى رباني، وقصفوا المدينة ب"الكاتيوشا"، سلاحهم "الصنمي" هم كذلك، وقتلوا العشرات من المدنيين. وفي آب قبل دوستم هدنة القتال والحصار مع حكومة كابول، ورفع حصاره على طريق سالانغ الى وادي بنجشير. فشددت قوات الطلبة حصارها، واتصل قصفها المدينة بذخيرة مدفعية لا تنضب طوال أشهر الربيع والصيف. واشترت الحركة ولاء الحاج حاجي عبدالقادر، رئيس شورى جلال أباد، بالمال الوفير وفرة الذخيرة، فهرب الحاج من المدينة، في 25 آب، وفتحت باكستان الطريق بوجه مئات طلبة المدارس الدينية، فتدفق هؤلاء مرة أخرى من مخيمات بيشاور على ولايات الشرق المتاخمة حدود أفغانستان، واستولوا على نانغارهار ولَغمان وقونار. وفي 24 أيلول وضعوا الحصار على ساروبي، باب كابول. واستولوا على مطار بَغرام، آخر مرفق جوي في يد مسعود.
الاستيلاء والأفول
فآثر هذا الجلاء عن كابول، ليس حقناً لدماء أهلها وحسب، بل إيقاناً منه كذلك بأن صموده في المدينة لن يرفع الحصار عنها، ولن يتيح لقواته، وعددها خمسة وعشرون ألفاً، استئناف القتال والتقدم صوب الجنوب بعد أن أسفر حلف اقليمي مرصوص عن تأييده "طالبان"، على ما قال القائد الطاجيكي في آخر مقابلة صحافية له عشية اغتياله في 9 أيلول 2001. وأمر قواته بإخلاء المدينة المنكوبة في 26 أيلول. ولم تمضِ ساعات قليلة على أمر مسعود حتى دخلت قوات الطلبة المدينة من جهات ثلاث. فاستخرجت نجيب الله من ملجأه في ممثلية هيئة الأمم المتحدة، حيث لجأ منذ 1992، وأوكلت الى الملا عبدالرزاق، حاكم هراة وقائد الهجوم على كابول، قتل نجيب الله والتمثيل به. فضرب الملا وأربعة من المساعدين الرئيس السابق وأخاه حتى أغمي عليهما، ونقلوهما الى القصر الرئاسي، فخصوا نجيب الله، وقطعوا ذكره وجعلوه في فمه، وجرّوه وراء سيارة جيب، وشنقوه، وهو على هذه الصورة، بسلك معدني، ووضعوا لفافة تبغ سيجارة بين اصابع يده المنتفخة وألصقوا أوراق نقد أفغانية على مواضع من جسمه، علامات وقرائن دامغة على الفساد والتحلل.
ولم يحتج النظام الجديد الى اكثر من يوم واحد ليحكم قبضته الشديدة على وجوه الحياة اليومية في العاصمة المختلطة الأقوام والعادات والمشارب. فردّوا 70 ألف طالبة وتلميذة الى بيوتهن، وصرفوا من الإدارات والعمل فيها ربع الموظفين، من النساء، ومعظم مدرّسي المدارس الابتدائية، ومعظم الجهاز الصحي. وأعلنت "إذاعة الشريعة" حظر الموسيقى والطائرات الورقية والشطرنج وكرة القدم والسواتل والأشرطة المصوّرة. ودعي أهل كابول الى الاستعاضة عن الجري وراء الكرة، في الملاعب، بمشاهدة "حفلات" الإعدام والرجم والجلد في الملاعب نفسها. وقسر الطلبة الأهالي على طلاء زجاج النوافذ والشبابيك بالأسود الفاحم. وعيّنوا مجلس شورى على المدينة من ستة رجال، معظمهم من البشتون الدراني، وليس بينهم كابولي واحد، وولّوا محمد رباني على المجلس. ويلاحظ الصحافي الباكستاني أحمد رشيد انه ليس بين الستة هؤلاء واحد سبق له أن أقام بمدينة كبيرة، ومعظمهم لم يدخل كابول من قبل ولم يزرها. وعلى رغم هذا، لم يثر الكابليون على احتلال البشتوني والطالباني، ليس خوفاً ورهبة وحسب، بل قرفاً وتعباً من جيش مسعود الذي انقلب في غضون أربع سنين قضاها في "حكومة" كابول مرتزقة فاسدة ومرهقة.
ولكن الاستيلاء على كابول لم ينه الحروب الأفغانية الداخلية. فأنشأ برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود وعبدالرشيد دوستم وكريم خليلي عن الهزارة "مجلساً أعلى للدفاع عن الوطن الأم"، تحدر "تحالف الشمال" العتيد منه. وترجحت الحرب بين كرّ وفرّ، ومعها الأهالي بين نزوح وهجرة قسرية وهرب من القصف. وحشد الطلبة شبان كابول قسراً في حربهم، وأغلقت مدارس بيشاور وبالوشستان بلاد البشتون في باكستان أبوابها تلبية لداعي الجهاد العام الذي دعا إليه مولانا فضل الرحمن وعلماء "الإسلام". وجددت إيران تسليح رجال اسماعيل خان. واستيقظ القلق الروسي، وقلق الدول الأربع التي تحف أفغانستان شمالاً، من انتصار الطلبة الساحق. ولم تطمئن الصين، فضلاً عن الهند وكشمير خاصرتها النازفة، الى سند مسلميها في تشينغيانغ. فانقسمت السياسات الإقليمية والدولية انقساماً حاداً طبع نصف العقد الآتي الى اليوم، بطابعه. ولعله التعليل الأوفى لحظوة الحملة الأميركية، غداة 11 أيلول ومنذ 7 تشرين الأول اوكتوبر 2001، بتأييد إقليمي ودولي لم تشذ عنه دول متحفظة، في العادة، مثل إيران أو الصين أو روسيا طبعاً.
وفي أثناء الأعوام الخمسة المنصرمة، غداة الاستيلاء على كابول، لم تهدأ حروب الشمال، بين حروب مسعود الدفاعية وتقلبات دوستم وخيانات بعض "جنرالاته" مالك بهلوان وأخيه محمد غول بهلوان وجعفر بهلوان ومجيد روزي ومحاولات اسماعيل خان. ودخل الطلبة مزار الشريف، عاصمة الشمال، في أيار مايو 1997، على نحو ما دخلوا من قبل هراة وكابول. فنزعوا سلاح رجالها، وأخرجوا طالباتها من جامعة بلخ، وحجروا على نسائها في البيوت، واستولوا على المساجد، وأمّروا قومهم على شؤونها. فلم يفوا بوعدهم إشراك جنرالات دوستم في حكم الشمال لقاء انقلابهم على زعيمهم. فاندلع القتال في الطرقات عند اول فرصة. وقام أوزبك مزار الشريف وهزارتها على قوات الطلبة. فقتلوا ستمئة منهم، في 28 أيار، ونهب رجال مالك بهلوان المدينة، واستولوا على محافظات الشمال الأربع، طنمار وفارياب وجوزجان وساري بول، في ايام قليلة. واستعر القتال في بلخ وسامنغان وقندوز. وسقط نحو ثلاثة آلاف طالب أسيراً. فقتلت قوات مالك بهلوان الأسرى ودفنتهم في مقابر جماعية لم تنبش كلها الى اليوم.
وفي الأثناء، انتهز مسعود الفرصة، فاستولى على جزء من الشمال، وأسر وقتل المئات من الطلبة. وأحصي في القتلى 250 باكتسانياً، وفي الأسرى 550 باكستانياً. فأغلقت مدارس باكستان الدينية أبوابها مرة ثانية في غضون أسابيع قليلة، وأسرع خمسة آلاف "طالب" الى تلبية نداء الملا محمد عمر. واضطر هذا الى مغادرة قندهار والتوجه الى كابول، وهي المرة الأولى والوحيدة التي يتوجه فيها الملا المعتزل الى كابول. وحملت الخسائر الطلبة على تعبئة بشتونيين من قبائل الغيلزاي وكارزاي منهم، على ما هو مشهور، وترك الاقتصار على الدرانيين من بني جلدتهم الأقربين. فرشوا حقاني بالمال، وطلبوا إليه تجنيد ثلاثة آلاف مقاتل من الغيلزاي ولكن هؤلاء لم يلبثوا ان فرّوا حين أمر عليهم ضباط قندهاريون من الدراني.
وعمد الطلبة الى معاقبة الشماليين، بعد هزيمة مزار الشريف، على الطريقة المملوكية. فسمموا الآبار في السهل الشمالي، ودمروا اقنية الري وسدوده، ليضمنوا ألا يعود أهالي السهل، من الطاجيك، بعد انسحابهم منه. وعاود الطلبة الهجوم على مزار بمؤازرة من بشتون المنطقة. وغادر دوستم منفاه في تركيا، ورجع الى بلده للدفاع عنه وطرد مالك. فعاثت قواته، الأوزبكية، الفوضى في عاصمة الشمال. وأعمل "طالبان" القتل في مزارعي الهزارة، واجتثوا الذكور من قرية قاضي الأباد قازيل أباد. ولم تكن علاقات الأوزبك دوستم والهزارة الشيعة، والقومان حليفان في "الجبهة الموحدة"، على خير ما يرام، بل لابستها المنازعات والأحقاد القديمة. ولما رجع دوستم، وجد مزار الشريف في يد الهزارة. ولم ينظر هؤلاء بعين الرضا الى عودته ومحاولته استعادة سيطرته عليها. فعمد الى استنباش جثث "طالبان" من المقابر الجماعية والآبار، وأذاع نتائج تحقيق طبي أثبت أن الأسرى عذبوا وأجيعوا، قبل الإجهاز عليهم، ورموا أحياء في الآبار. وفي أحوال أخرى رمي الأسرى أحياء في مستوعبات وصهاريج محماة تحت شمس صحراوية حارقة. وحين تخرج الجثث من المستوعبات تُلفى متفحمة وسوداء. وقدّر مالك بهلوان عدد قتلى "طالبان" على هذا النحو ب125 ضحية.
ونجم عن استطالة الاقتتال ودوامه انقسام أهلي وقومي عميق استعدى البشتون على غيرهم من أقوام أفغانستان، وغذى ضغينة الأقوام هؤلاء على البشتون. ولا ريب في ان وصاية الدول والقوى الاقليمية على الحروب الأفغانية الداخلية وجماعاتها، وتوسل الدول وأجهزة استخباراتها بالجماعات الأفغانية المتحاربة الى ضغط بعضها على بعض، وإحراج بعضها بعضاً، بالواسطة، عامل آخر في جماح العنف الى الأقاصي التي بلغها. وهذا معنى راجح من معاني "اللبننة" ومباشرتها وتصريفها. وليس تعاظم دور أسامة بن لادن في هذا الفصل من فصول الحروب الأفغانية ولبننتها، اتفاقاً ولا مصادفة عمياء. فالخسائر الجسيمة في المقاتلين دعت قيادة الطلبة الى استمداد مخيمات بيشاور وكويتا، والمدارس الدينية، الإمدادات.
فوسع السلطات الباكستانية، والجماعات "الجهادية" العاملة في المخيمات والمدارس ومنها "مكتب الخدمات" الذي كان يديره عبدالله عزام، "شيخ" بن لادن و"أستاذه"، ومنظمات المقاتلين الكشميريين، وأحزاب باكستان "الاسلامية" وسع هؤلاء كلهم أداء دور متعاظم في نجدة الطلبة بالمقاتلين والمال والعتاد، في ورطاتهم المتعاقبة منذ حصارهم كابول ثم استيلائهم عليها. وهؤلاء جميعاً، عدا اختصارهم السياسة والحرب في الاستماتة والموت، لا تترتب نتيجة على خسارتهم المقاتلين المجاهدين. فهم لا يدينون بحساب لأحد، مجتمعاً او جماعة مستقرة ومعينة تعييناً اقليمياً او اجتماعياً. وسقوط الأنصار يستجر المتطوعين، ما دام المتطوعون مصدرهم مخيمات وملاجئ وجاليات مضطربة الاجتماع. وعلى هذا اتفق منعطف الحروب الداخلية، في 1996 - 1997، مع تأمير أسامة بن لادن، المضطر الى ترك ملاذه السوداني، وحده على "الأفغان العرب"، وهم من العرب والشيشان والبوسنيين وبعض الأفريقيين وقلّة قليلة من "الغربيين".
فتضافر خارجان، خارج الدول الإقليمية وخارج المتطوعين، على تذكية العنف والنفخ فيه، الى خارج ثالث هو الأول وأساس صدر عنه الطلبة الشبان أنفسهم بإزاء مجتمعهم وجماعاتهم وأهلهم وبلادهم وتاريخهم. فإذا صح ان حصة المتطوعين غير الأفغان من جملة المقاتلين الطلبة بلغت ثلث الخمسة وعشرين الى 30 ألف مقاتل، في 1997 وما بعدها، أدرك الفهم عاملاً بارزاً من عوامل شطط العنف في أفغانستان. وهي ابتلاها غزو الجار الشيوعي بنحو مليون ونصف المليون قتيل في عقد واحد من الزمن، وهجّر نحو اربعة الى خمسة ملايين افغاني، وكان البلد يعد 15 مليوناً تقريباً في اواخر العقد الثامن من القرن العشرين وهو يعد اليوم نحو عشرين مليوناً، اي انه خسر جيلاً من السكان تقريباً.
وخرجت أفغانستان، وخرج الأفغان تدريجاً، تحت راية الجهاد، من مجتمع الدول ومعايير العلاقات الداخلية والسياسية السوية وهذا السواء، على رغم الاختلاف فيه، لا يشك الناظر في احوال افغانستان وحوادثها في ضرورته وفي حقيقته الى "مجتمع الطبيعة" او غابته المتوحشة، بحسب هوبس. وأسهم تنصل الولايات المتحدة الأميركية من افغانستان، غداة الهزيمة السوفياتية ثم تصدع الاتحاد المزعوم، في عموم الاقتتال، وإيواء باكستان الجماعات والأحزاب الاسلامية، وذلك على زعم أحمد شاه مسعود نفسه في مقابلته صحافياً بولندياً كان آخر صحافي غير قاتل التقاه القائد الطاجيكي الأفغاني.
والفصول الأخيرة من حروب افغانستان الداخلية وحوادثها لم تبطل السنّة الطالبانية ولم تضعفها. فحاصر الطلبة، ما وسعهم، الأقوام غير المذعنة لحكمهم في بلادها ومناطقها، وقطعوا طرق تموينها وتجارتها، واجتهدوا في تجويعها والحؤول بينها وبين وصول إمدادات الغذاء إليها. وعملوا على طرد العيون الغريبة والرقيبة من أفغانستان، واتهموها بالتجسس والتبشير والتستر بستار المساعدة الإنسانية والإغاثة الدولية في سبيل غاياتها. فجلت الهيئات الدولية والأهلية عن المدن الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، وكانت تعيل سكان المدن بالغذاء والطعام. وخلت الساحة لثارات "طالبان" من الهزارة في اوائل عام 1998 ومنتصفه، ثم من الأوزبك في كانون الأول من العام هذا قتل الطلبة 600 قروي أوزبكي في فارياب وأجهزوا في حملة آب، على 1400 مقاتل بشبرغان، معقل دوستم. ويقدر مراقبون عدد قتلى الهزارة بيد "طالبان"، في اثناء 1998، بستة آلاف الى ثمانية آلاف قتيل. وهذا قريب من حرب إبادة.
وكان تدمير تماثيل بوذا في باميان، في ربيع 2001، وجهاً من وجوه الحرب على الهزارة، وعلى "الجبهة الموحدة"، وقرينة على استمرار حروب التمييز القومية والمذهبية. وتوّج الطلبة حروبهم هذه بأمر الهندوسيين والسيخ الأفغان وعددهم 1700 بإعلان علامة فارقة عليهم. وفي الأثناء أظهرت الاستقصاءات ان 50 في المئة من الأراضي المزروعة بارت وصارت مواتاً، وأن 70 في المئة من الماشية تبددت جراء نقص المياه والمراعي. فبعد البشر والنسل كان دأب "طالبان"، في رعاية "الشيخ" بن لادن، استئصال الحرث وهدم عمارة الدنيا.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة