من هي لبيبة هاشم؟ ما هي القيمة الأدبية لروايتها "قلب الرجل" المنشورة للمرة الأولى سنة 1904، ولماذا تستعاد هذه الرواية اليوم تصدر قريباً عن دار المدى في دمشق؟ تلقي الناقدة يمنى العيد في هذا المقال الضوء على هذه الأسئلة، وتُظهر ملمحاً من نتاجٍ ريادي يشكل تاريخاً للمرأة العربية في الكتابة: "ما حسنُ شيرينَ والأحبابُ تعبُدُهُ وعرشُ بلقيسَ والأسيادُ ترعاهُ أعزُّ من قلمٍ ماضٍ تحرِّكُهُ يدُ اللبيبةِ والآدابُ ركناهُ" هذان البيتان نظمهما الشاعر شبلي الملاط معبّراً عن إعجابه وتقديره بإحدى الرائدات العربيات الأديبة لبيبة هاشم 1882- 1952. وليس قول الشاعر، كما يتبادر الى ذهن البعض، مجرد اطراء، أو مجاملة، لكون التي يمدحها كاتبة امرأة. فما قاله الملاط في لبيبة هاشم قاله غيره فيها، وشهد عليه، كما سنرى، نتاجها الأدبي ونشاطها الثقافي. كذلك، فإن ما قيل في لبيبة هاشم ليس استثناء، أو قصراً عليها، فقد قيل مثله في أكثر من أديبة من الأديبات الرائدات. أشير على سبيل المثال الى زينب فواز 1846- 1914 التي امتدح الشيخ محمد عبده روايتها "حسن العواقب" 1899 ونصح بقراءتها تقديراً لأهميتها. وإلى وردة اليازجي 1838- 1924 التي سمّيت تقديراً لديوانها الشعري "حديقة الورد" 1867 ب"وردة العرب"، وعُلّقت صورتها في دار الكتب الأهلية في بيروت بين صور كبار الرجال من أدباء وعلماء. وإلى مي زيادة 1886- 1940 التي غُمِرت بالمديح والإعجاب: مدح الشاعر شفيق معلوف شعرها الذي ترجمه جميل جبر من الفرنسية الى العربية، كما مدحها شبلي الشميّل، وأنطون الجميل، ولُقبت ب"الأديبة النابغة"، وأطلق عليها مصطفى صادق الرافعي لقب "سيدة القلم العربي"، واعتبرها الأمير شكيب أرسلان "أديبة العصر"، وهو، أي الأمير شكيب، الذي، لشدة اعجابه بكتابها "المساواة"، شكّ في ان تكون هي مؤلفته. لقد حظيت النساء الأديبات، في مرحلة النهضة، باهتمام جدي انبنى على تقدير نتاجهن وارتبط، في الآن نفسه، بفكر تنويري مدرك لأهمية دور المرأة في تقدم الأوطان العربية وتحررها، وفي تحديث آداب اللغة العربية وإثراء ثقافتها. يكفي ان أشير بهذا الصدد الى رفاعة رافع الطهطاوي 1801- 1873 الذي أدرك اهمية تعليم المرأة وسعى الى ايجاد مدرسة لها. وإلى المعلم بطرس البستاني 1819- 1883 الذي كان من اوائل من نادوا بضرورة تعليم المرأة، وإلى قاسم امين 1863- 1908 الذي عمل على تحرير المرأة من قيود الجهل، والحجاب، وأعلن بأنها "مساوية للرجل في القوى العقلية" مستنداً في قوله الى ما أظهره "علم الفيزيولوجيا والتشريح" حسب تعبيره في كتابه "المرأة الجديدة". ما أودّ قوله، استناداً لما سبق، هو ان الظلم الذي لحق بالمرأة وأدبها لا يجوز ردّه الى الرجل بصفته ذكراً، فهؤلاء الذين اهتموا بنتاج النساء الأديبات ومدحوه مقدرين له، هم رجال ذكور، لكنهم متنورون، يناهضون الظلم، وينشدون التقدم والتغيير. الأمر الذي يدعونا الى ردّ الظلم الذي لحق بالمرأة ونتاجها الى فكر يناهض تقدم الأوطان وتحرّرها الى فكر سياسي سلطوي به تحوّل الاختلاف الجنسي، وعبر تاريخ طويل، الى معيار قيمي يقوم على اعتبار المرأة، وعلى قاعدة انوثتها، مخلوقاً دونياً، أقلّ من الرجل، الذكر، عقلاً، ودونه منزلةً في مختلف مجالات الحياة. يخدم هذا المعيار القيمي سلطوية السلطة التي هي موقع للرجل. لذا تشتغل مؤسسات السلطة بآلياتها المختلفة، وبهدف ديمومة هذا الموقع للرجل الذي هو فيه، على جعل هذا المعيار معياراً لنسق ثقافي يسود، ويحكم الوعي الجمعي، مكرّساً بذلك سلطة السلطة السلطوية. أعتقد ان مناصرة المرأة وتقويم نتاجها على حد هذا المعيار ذكورة ضد الأنوثة ومن موقع الضدية للرجل اي بقلب المواقع، هو وقوع في منطق هذا المعيار، اي في ثنائية تخفي السياسي والاجتماعي الثقافي، اي ما هو موضوع التغيير وقابليته، خلف الفيزيولوجي، اي خلف ما هو من طبيعة التكوين مما نعجز عن تغييره ويفرض علينا القبول به. من منطلق الرفض لهذا المعيار القيمي الذي يعتبر المرأة، وبصفتها انثى، دون الرجل، ومن موقع الحذر في الوقوع في منطق هذا المعيار القائم على ثنائية ضدّية بين الذكورة والأنوثة، رغبت في لفت انتباه القارئ الى الاهتمام الذي حظيت به كتابات المرأة في زمن النهضة وإلى ارتباط هذا الاهتمام بفكر تنويري يهدف الى تحرّر المجتمعات العربيّة وتقدمها على مختلف المستويات. ومن المنطلق نفسه، ومن موقع الحذر نفسه أرغب ايضاً في لفت انتباه هذا القارئ الى الإهمال الذي طال، في زمننا، نتاج الأديبات الرائدات: فالناشئة اليوم، بل وكثير من المثقفين وهواة القراءة، يكادون لا يعرفون شيئاً عن امثال: وردة اليازجي، وزينب فواز، وعفيفة كرم، ولبيبة هاشم، وأليس بطرس البستاني، ولبيبة صوايا، وسلمى صائغ، ووداد قرطاس، وعنبرة سلام الخالدي... اما مي زيادة فإن ما يُعرف عنها اقل بكثير مما هو جدير بالمعرفة من نتاجها الغزير، والمتنوّع، والمميّز. لئن كانت المرأة استطاعت في العقود الأخيرة من القرن العشرين ان تثبت حضورها بصفتها كاتبة وأديبة مبدعة في اكثر من فن من فنون الأدب، فإن إهمال التراث الريادي للمرأة وقبله العربي القديم الموغل في الزمن، قد يجعل تعاطيها الكتابة في العصر الحديث وكأنه طفرة في التاريخ، كأنه بلا سياق، بلا جذور أو أصول... أو كأنه اقتحام لميدان لا حقّ لها، تاريخياً، فيه... الأمر الذي قد يبرّر قمعها من جانب الذين يعارضون تحرّرها، بحجة ردّها الى ماض كان لها، اي الى صورة هي مرآة انوثتها ويجب عليها ان تستمر بها، وعلى الخطاب الثقافي الذي يحرص عليها. هكذا، وبغية القاء الضوء على هذا النتاج الريادي الذي يُشكّل تاريخاً للمرأة في الكتابة، ولمساهمتها في إنتاج ثقافتنا العربية، وليس بدافع نسوي متميّز، او أنثوى ضدي، يبادر البعض اليوم، أفراداً ومؤسسات، الى دراسة هذا النتاج وإعادة نشره. يعنيني، في هذه المناسبة، ان اشير الى "مؤسسة نور" القاهرة التي بادرت منذ خمس سنوات تقريباً الى اعداد موسوعة عن الكاتبات في العالم العربي، وقد قمتُ بالدراسة التي تخص الكاتبات في لبنان، الأمر الذي أتاح لي التعرف، عن كثب، على الكاتبات الرائدات ونتاجهن الأدبي. وقد لفتني وعي معظمهم الثاقب والعميق بقضايا واقعنا الاجتماعي، وفي مقدمها قضية الصراع الطائفي في لبنان وارتباطها بقضية التحرر الوطني. لقد عبّرت الرائدات اللبنانيات عن مفهوم للوطنية يتجاوز الانتماء الديني والتفاوت الاجتماعي ليرتقي الى معاني الإنسانية العامة، وليؤكد، في الآن نفسه، على حقّ الاختلاف. على هذه القاعدة التي تجلت في كتابات مي زيادة، وناضلت على اساسها كل من سلمى صائغ، وجوليا طعمة دمشقية، وعنبرة سلام الخالدي... كانت لبيبة هاشم قد كتبت روايتها "قلب الرجل" لتحكي عن "الفتنة الأهلية" التي جرت في جبل لبنان سنة 1860، لا بلغة المؤرخين، بل بلغة الأدباء الإنسانيين الذين يهمّهم من الأحداث آثارها على حياة البشر، اي آلام الفقدان ومعاناة التشرّد التي تصيبهم بها. قلب الرجل ورواية "قلب الرجل" تصدر قريباً عن دار المدى في دمشق على اهميتها، خصوصاً من ناحية جرأتها على تناول هذا الموضوع "الفتنة الأهلية" كما تسميها الكاتبة، لم تحظ، في عصرنا، بما تستحقه من اهتمام، فبقيت مهملة، متروكة في المكتبة الخديوية في القاهرة للنسيان أشير الى أنني قرأت الرواية في نسخة مصوّرة عن الرواية الصادرة عن "مطبعة المعارف بأول شارع الفجالة بمصر". والطبعة التي لا تشير الى تاريخ صدورها تبدو قديمة، مفقودة من السوق، ومهملة بدليل ما دوّن عليها من ارقام، وملاحظات من قبل بعض قرائها في المكتبة! أو ممن وقعت تحت ايديهم ودوّنوا على صفحتها الأولى ما خشوا، لحظتها، من نسيانه. ونحن إذ نقرأ على الغلاف: "سعر النسخة الواحدة اربعة غروش صاغ"، نستنتج بأنها تعود الى زمن غارق في القدم. نشرت لبيبة هاشم في حياتها ثلاث روايات هي: "حسناء الجسد" 1898 و"قلب الرجل" 1904 و"شيرين" 1907. إلا ان "قلب الرجل" هي، كما يبدو، افضلها. تتناول "قلب الرجل"، وكما تقول المؤلفة في تقديمها الموجز لروايتها، "الفتنة الأهلية التي جرت في جبل لبنان سنة 1860 وما وقع... من المذابح وسفك الدماء الزكية". غير انها في تناولها هذا تبقى حريصة على بناء عالم روائي متخيّل، فلا تجنح الى السرد التاريخي. كما انها لا تبني درامية السرد على قيم الخير والشر، او الحب والكراهية، حيث تصبح الحكاية مجرد ذريعة لموعظة اخلاقية، أو تصبح الشخصيات مجرد ادوات للأحداث/ الأفعال وما تنطوي عليه من حكمة. ولئن كان هذا شأن غالبية الروايات التي اعطتها البدايات النهضوية فإن رواية "قلب الرجل" تتميّز بنسج دراميتها بتكوين شخصيات تعاني التشتت والغربة جراء التعصب المرهون بوعي اجتماعي هو من منظور الرواية، وعي خاطئ وأعمى تمارسه تشكيلة اجتماعية قائمة، بحكم الواقع، على التنوّع والاختلاف في الانتماء الطائفي والديني. ويمكن القول ان لبيبة هاشم تنتج خطاباً يفارق خطاب الحكاية ويتميّز بروائيته المحتفلة بالشخصية/ الشخصيات، أو بما يجعل هذه الشخصيات كائنات حيّة ينهض عالم الرواية بها مقترباً من الإيهام بحقيقته. هكذا فلئن كانت قيم الحب والخير والإيمان بعدالة الله في معاقبة الشر وأهله هي ما يحكم الصراع في رواية "حسن العواقب" 1899 لزينب فواز 1846- 1914، وكان أسلوبها أميل الى السرد الشعبي الموروث ومروياته الشفوية، فإن ما تتميّز به رواية "قلب الرجل" هو ان ما يحكم بنيتها الدرامية من صراع يجد مرجعيته في الواقع التاريخي للبنان. وإن بنية الشخصية / الشخصيات وما تنسجه من علائق في ما بينها، مرتبطة بمجالات تحركها وإقامتها، وبما يترتب على ذلك من مصائر. فما الذي تحكيه رواية "قلب الرجل" وكيف؟ الحكاية في "قلب الرجل" هي على وجه الخصوص، حكاية اهل الجبل اللبناني، وتشتت المسيحيين منهم عن قراهم وبلداتهم، عن دير القمر وبيت الدين. إنها جرّاء هذا التشتت حكاية الأمكنة التي بحثوا فيها عن عيش ورزق لهم: في بيروت مدينة التجارة والفنادق. وفي مصر "حيث التجارة بتقدم وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة لأصحاب الكفايات" كما جاء في الرواية على لسان روزه في حوارها مع عزيز. ليست الحكاية التي ترويها الرواية حكاية بطل، بل حكاية اشخاص يلتقون، شأن الناس في مصر وبلاد الشام في ذلك الزمن. يتنقلون فيفترقون ويلتقون لتجمع بينهم ظروف العمل المشترك، وتنشأ بينهم علاقات الصداقة والتنافس والحب. نقد نجم والرواية بكل هذا ليست كما يقول الدكتور محمد يوسف نجم: "من أولها الى آخرها دفاعاً عن المرأة". فقصة الحب بين عزيز وروزه هي أولاً وقبل كل شيء، قصة الغربة عن البلد والذات بعد ان شرّدت احداث الجبل اللبناني عزيز عن ابيه وحرمه الموت من امه. وما يصيب روزه من مأساة ليس لأنها امرأة فقط، او بسبب "عزيز" لأنه رجل، بل هو يعود الى هذه البداية، اي الى ما وقع لأبيه حبيب نصر الله وأمه فاتنة. اي هو يعود الى حال البلد وظروفه التي تتمثل في نسيج العلاقات بين الشخصيات، وفي سلوكاتهم كما في حّلهم وترحالهم. اكثر من خيط ينسج قصة هذا الحب بين عزيز وروزه، ثم بين عزيز وماري. والقصة بهذا النسيج مرفوعة على معنى عميق للرواية يحيل، بشكل غير مباشر، على الفتنة وما اصاب المسيحيين. وإذ تبدأ الرواية بحكاية حبيب نصر الله، والد عزيز، ولقائه بفاتنة التي احب وتزوّج، إنما تضعنا في قلب الحدث، الفتنة، وتضع حكاية الحب في زمانها وشرطها، وتجعل لمجريات الأمور، بين الشخصيات، منطلقاً يفسرها في الوقت الذي يبلور فيه المسار الروائي هذا المنطلق: تلقي البداية اضواء على الفوضى التي عمت جبل لبنان. المسلحون يهاجمون حبيب وفاتنة بدوافع غير وطنية، فيتشرد احدهما عن الآخر. وتنطوي هذه البداية على موقف فكري نقرأه في تسمية الأحداث "فتنة" ولا يردّها الى تعصب ديني. هكذا تحكي الرواية عن حُسن معاملة اسرة جنبلاط، الدرزية، ل"فاتنة" المسيحية. سيد المختارة يؤوي ام فاتنة إثر مقتل زوجها عام 1841 في دير القمر. وعندما تموت الأم تبقى فاتنة الطفلة في رعاية اهل القصر، تعامل باعتبارها ابنة الأمير. حبيب المسيحي الذي احب فاتنة احبها بصفتها درزية، وقبل ان يعلم بأنها اساساً مسيحية. ان قصص الحب في "قلب الرجل" تنسج، بالحب، دلالات اللاتعصب، ولقاء المحبين فيها ليس رهين الصدف شأن معظم روايات ذلك الزمن. وهذا ما يميّز هذه الرواية، ويشير، في الآن نفسه، الى ريادتها في تاريخ الرواية العربية. إن لقاء عزيز بروزه مثلاً هو، اساساً، لقاء بين رجال اعمال كانوا يأتون من مصر وبيروت الى فرنسا وإنكلترا لشراء السلع. يلتقي عزيز بيوسف روفائيل في القطار بين باريس ومرسيليا. كانت روزه عائدة وابيها من باريس حيث كانت تدرس. الحب الذي ولد في القطار وأتيح له ان يستمر في الباخرة بين مرسيليا والاسكندرية والتي كان هؤلاء التجار يتابعون رحلة عودتهم بها، هو حب علامته التشتت ومصيره الفراق. وإذ تتداخل الأحداث في الرواية، انما لتنسج فضاءات الأمكنة وهوية الشخصيات ومصائرها المحكومة بشرطها التاريخي. هكذا يُفضي بنا السرد الى اكتشاف جراح قلب رجل هو عزيز كان يعيش فقدانه لأهله وبلده، ورحلة بحثه عن ذاته. تبدو لبيبة هاشم وبالنظر الى زمنها رائدة حداثية. فهي تمتلك مقدرة فنية لافتة على حبك الأحداث وخلق شخصيات حية، ونسج خيوط العلاقات بينها، مع حرص على إضاءة الواقع المرجعي المحلي وسعي لإبداع متخيلة الروائي بلغة نثرية وثيقة الصلة بالكلام.