قال سفيان بن زياد : قلت لامرأة من عذرة رأيت بها هوى غالبا خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا،وإنا نرى عيوناً لا ترونها. هذه الحكاية التي ترد في كتاب الطاهر لبيب " سوسيولوجيا الغزل العربي" هي جزء من مرويات عربية كثيرة، يقلّب من خلالها الباحث درسه في الحب العذري. وعلى ما كُتب عربياً عن شعر الحب، يبقى كتاب لبيب مبحثا لا يضارع ، وهو في الأصل رسالة جامعية بالفرنسية،تُرجمت إلى العربية ثلاث مرات منذ مطلع الثمانينات، وها هو المؤلف يعيد ترجمتها، لتصدر حديثاً من المنظمة العربية للترجمة التي يديرها. وفي موضوع جديد عن الحب نشره المؤلف نفسه السنة الماضية، يرى أن الوضع العربي لم يعد يتسع للتعبير عن الحب، فعندما كانت الحضارة العربية الاسلامية ترفل بحلل المجد، عبّر العرب عن الحب في أرقى صوره، بل مدّوا الخيال الأوربي بصورة منه نجدها بارزة عند شعراء " التروبادور" ولكنهم الآن تراجعوا عنه، بل غدوا على ضيق من وجوده. ولكن هل تراجع حقاً كلام الحب في لغة العرب اليوم؟ بمقدورنا أن ندرج تصور لبيب في باب التأسي على الأزمنة السعيدة، وهي نزعة يكاد يتشارك فيها كل الكتاب وفي كل العصور، فما كف الحب عن أن يكون موضوعاً أدبياً وفنياً عند العرب، وحتى في فترات طغيان الديباجة الثورية، أو التعصب الديني ونكبات العرب الكبرى، كان هناك شعراء حب وايروتيكا. ولو استطاع أحدهم إحصاء إصدارات الحب في زمننا روائيا وشعريا، لوجد أن كبار السن من الروائيين والشعراء هم الأكثر اهتماما بأدب الحب، في حين تدرج قصائد الشباب والكثير من رواياتهم وقصصهم ضمن أبواب منوعة. أودونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وسواهم من المشهورين، أصدروا قصائد ودواوين ايروتيكية في مرحلة متقدمة من أعمارهم، ولم يحتل موضوع الحب في السابق إلا حيزاً محدوداً في قصائدهم. كما أن التخمينات تدفعنا الى الاعتقاد بأن النساء أكثر تدويناً لأدب الحب من الرجال، بل يكاد الحب يحتل مواضيع الكتابة النسائية شعراً ونثراً.ربما لأن هذا الموضوع غدا في عصرنا، قناعاً لمواضيع أخرى منها التعبير عن الحرية والفردانية. لعلنا نبحث في كتاب طاهر لبيب الذي نعيد قراءته اليوم، عن ما حسبته النسويات إشكالا في العلاقة المختلة بين إسراف العرب في الكلام عن الحب، وثقافتهم التي تقوم على فوبيا النساء، وأعرافهم التي تتفنن في نفي المرأة من عالم الفعل الحقيقي؟ لبيب في بحثه يتجنب هذا السؤال أو يراه مواربا في ذكورية قوم تبرز فحولتهم في لسانهم وقواعد نحوه، فالنحو العربي يقّدم التذكير على التأنيث،أو يجعل التأنيث فرعاً من المذكر، ولكنه يخرج في فصله الأول باستنتاج يقول إن البلاغة العربية مشحونة بالكلمات والتعابير المستعارة من مجال الجنس لتسمية أوجه الأسلوب،الأمر الذي دفع المستشرق ماسنيون إلى فهم الأضداد في اللسان العربي باعتبارها حالة فرويدية. فالتضمين والتخريج والتضاد والطباق ومنه المزاوجة، أي إثراء المعنى وإخصابه،كلها تدرج في حالة التقابل بين الجنسين،وستبقى المقارنة بين المرأة والرجل خاضعة إلى قطبية السلب والإيجاب، فالذكر يتحلى بكل سمات القوة والعقل والحكمة، والمرأة لا تملك منها شيئاً.ولكن هذا التقرير في واقع حال اللغة العربية، يبقى متبدلا تبعا لأزمنة القول،فقد أبقت الأرستقراطية الأموية للرجل تلك المكانة المتفوقة في الشعر الإباحي، ولكن مجالس الأنس التي تحوي الجنسين كانت تخرق هذه القاعدة، كما يقول لبيب. ما تبقى من تلك المجالس، مفاكهات الجواري وشذرات من أقوال بنات السادة، ولم تخلف لنا شاعرة عدا ليلى الأخيلية، شعرا عن الحب والجوى، ولعلها الشاعرة الوحيدة المشكوك بحكاية وجودها. لا نعرف لماذا لم يقرأ لبيب ظاهرة ليلى الأخيلية وقد ظهرت على عهد مروان،فشعرها يمثل الرواية المعكوسة للحب الممتنع،أو الحب العذري، فهي قد تغزلت وبكت حبيبها توبة بعد أن مات، وكانت متزوجة برجل غيره. ترك العرب في العصر الأموي، كما يقول لبيب، ضربين من الحب: الإباحي والعذري، الإباحي ممثلا بشعر عمر بن أبي ربيعة،حيث كان نتاج تراكم الثروات عند الارستقراطية العربية، فهو يتغنى بنفسه، وبمكانته عند النساء، أي بفحولته. أما الشعر العذري، فهو حصيلة الهامشية التي تعيشها بعض القبائل وبينها بني عذرة، هامشية اجتماعية وأيديولوجية إزدادت وطأتهما بعد الإسلام، الأمر الذي حوّل المرأة عند العذريين إلى شخص ممتنع، غير قابل للتملك، وهي في الغالب مُلك الرجل الغني. المرأة عند شعراء الحب العذري، كما يخرج كتاب لبيب باستناج، هي بغير جنس، رغم الشهوة التي تتبدى في قصائد بعضهم مثل جميل بثينة وقيس بن الملوح، ومنها من تتحدث أبياته عن لقاءات وقُبل وتقارب جسدي. تعرضت حكايات الحب العذري إلى طعون كثيرة،ومن المؤرخين من قال أن أكثر هذا الشعر منتحل، وان أسماء شعراء الحب العذري وحبيباتهم من صنع المخيلة. وشأن كل الحكايات الجميلة والحزينة لابد أن تكون حكاية الشعر العذري قد خضعت إلى تحوير وإضافة. أسطورة الحب العذري انتشرت،حسب ماسينيون، بين اليمنيين في جند الكوفة،أي أنها من إختلاق العراقيين،كما يرى الطاهر لبيب،أي أن لها علاقة بتأسيس أول جيش نظامي كان أبو مسلم الخرساني قد منع وجود النساء فيه. وأيا كانت حكايات الحب العذري وأساطيره، فأبطاله ينفون أنفسهم خارج الفحولة العربية وتقاليد حب النساء فيها، وهي تقاليد أغلبها تفتقد إلى الفروسية،في حين يتخلى الشاعر العذري عن كل شئ من أجل حبيبته، ويقبل فكرة الجنون أو الموت إخلاصاً لذكراها. وبعد كل هذا، ألا يحق لنا التخيل ان أسطورة الحب العذري من صنع مخيلة نسائية، أو أنها في أحسن أحوالها، دليل على قدرة الشاعر العربي على تزييف الواقع؟