على رغم ان الادارة الاميركية ستواصل الاتصال بالرئيس الفلسطيني، إلا أنها غيّرت نظرتها اليه ولم تعد تعامله إلا بالشروط والمطالب. قبل شهور كان موظفوها يقولون: عرفات خط أحمر، وهذا ما أبلغناه لشارون. لم يعودوا يقولون ذلك، لأنهم لم يعودوا يعتقدونه. هناك شيء منذ 11 ايلول سبتمبر في المزاج الاميركي "الجديد"، وهناك ايضاً قصور في المبادرة، فهم يجهلون ما العمل ويرون السبل مسدودة، لكنهم يرفضون الاعتراف بأن شارون هو من ضيّق عليهم البصر والبصيرة وقلّص مجال الرؤية. هناك خصوصاً هوس الارهاب الذي جعلهم يعاملون الفلسطينيين وقيادتهم وقضيتهم و"عملية السلام" ! بالمعايير التي وضعوها للتعامل مع "طالبان". ما علاقة هذا بذاك؟ لا يعتبر الاميركيون أنفسهم مضطرين للاجابة، إنهم يتصرفون بما يقتنعون به آنياً. المشكلة ان شارون أنجز تسعين في المئة من خطته، وهو ماض الى استكمال المهمة لإعادة انتاج القضية الفلسطينية كأن شيئاً لم يحصل منذ مؤتمر مدريد حتى الآن. يريد ان يبدأ ما يسميه هو "السلام" من نقطة الصفر، ومن دون عرفات. وليس الاميركيون من سيعارضه ويثنيه عن تطرفه ويعيده الى الرشد، فقد كانت أمامهم فرص واجتهدوا بل تفننوا في اضاعتها. وليس العرب من يستطيع الآن، بعد كل هذا التهاون والتخاذل والحيرة والانخداع وحتى التهاوي المتهافت الى قفص الاتهام بالارهاب، ان يغير مسار شارون أو يعاقبه أو يردعه. فمن أقام "سلاماً" مع اسرائيل يريد ان يحافظ عليه بأي ثمن، ومن لا يزال يسعى الى "سلام" معها يتحرق انتظاراً لأي عرض يمكن قبوله. ولكنه، مع هزيمة الانتفاضة وانتصار شارون، كان وسيبقى سلاماً ذليلاً. ويبدو ان العرب المعنيين دخلوا ايضاً مرحلة "من دون عرفات" بدليل ان أياً منهم لم يطالب بإنهاء الحصار الاسرائيلي على الرئيس الفلسطيني. لا تستطيع الإدارة الاميركية ان تتجاهل الخدمة التي وفرها شارون، فهو عمق الإحباط العربي الناتج عن حرب الارهاب، وزاده رسوخاً. وفي جو الإحباط هذا يجول موفدون اميركيون، بعضهم بالفواتير، وبعضهم للتهديد، وبعضهم لإبلاغ التعليمات الأمنية والمطالب في ما يخصّ "معالجة" ظاهرة الارهاب وتقليم أطرافها. حتى ان وليام بيرنز، "الأميركي الجميل" كما يقول عارفوه - قبل ان يتسلم مسؤولية في الخارجية وطبعاً قبل 11 ايلول - لم يعد بيرنز الذي يعرفونه. أصبح، وهو الخبير في المنطقة، كأنه لا يعرفها ويزورها للمرة الأولى في حياته. هو الآخر لم تعد لديه أفكار، وانما مطالب و"لوائح" واختبارات لحسن السلوك. هذا مثال آخر على ان الخبرة شيء في السياسة الاميركية، والممارسة شيء آخر قد يكون عكسها تماماً. قد يعود انتوني زيني ولكن في ظروف مختلفة رأساً على عقب. ليس جورج بوش أو كولن باول من يقرر عودته، وانما شارون هو الذي يسمح بها أو لا يسمح. مهمة زيني الآن لا معلقة ولا مطلقة. وقف النار سارٍ غير سارٍ. انه الوضع المثالي لشارون - بيريز ولموفاز - بن اليعيزر، فهم لا يريدون وقفاً للنار، وانما يريدون إكمال العمل لكي لا تبقى سلطة فلسطينية، ولا يبقى شيء اسمه اتفاقات اوسلو. اسرائيل أبلغت واشنطن ان زيني لا يستطيع العودة للتفاوض على وقف النار مع سلطة تتهيأ حكومة شارون ل"تقرير مصيرها"، وهكذا أعطي زيني إجازة حتى اشعار آخر. الإدارة الاميركية موافقة على انهاء السلطة الفلسطينية، ليس فقط لأن شارون استوعبها وانما لأنها مع الطرف الذي يستطيع ان يخترع خيارات جديدة. وهي، اي الادارة، ليست لديها "رؤية" اخرى على رغم "الرؤية" الفخمة التي خدع بها كولن باول العالم العربي جهاراً نهاراً، بل انتقل بالطائرة الى مدينة لويزفيل ليتلفظ بها في صرح جامعي. يا للسخرية! ما يحصل أفظع من ارهاب، ومن ارهاب الدولة، انه ارهاب دولي تضفي عليه الولاياتالمتحدة "شرعية" من قوتها العسكرية. العرب لا يزالون يطالبون بتعريف الارهاب، أما شارون فقد عرّفه وطبقه ونال عليه مباركة اميركية. تحدث باول عن احتلال اسرائيلي فأجبره شارون على تأييد هذا الاحتلال حتى وهو يشرد مئات العائلات في رفح. وبعدما شككوا في قصة "سفينة الاسلحة" ها هم الاميركيون يجيزون لشارون إلغاء السلطة الفلسطينية عقاباً لها على تورطها في تلك السفينة. غداً سيقول الاميركيون، باسم محاربة الارهاب، مثلما قال اسرائيليون عديدون من قبل "ليس هناك بلد اسمه فلسطين ليكون هناك شعب فلسطيني".