يجري على النظم السياسية ما يجري على الأفراد عبر مسيرة حياتها، فالنظم السياسية كيان حي يزدهر في شبابه ويترهل في شيخوخته، وليس ذلك امراً جديداً فحتى الحضارات الكبرى في التاريخ مرت بدورات انتعاش وانكماش وموجات صعود وهبوط إلى أن اعتراها الوهن وأصابها الجمود، ولعلي أبادر فأوضح أن شيخوخة النظم السياسية ليست أمراً يتصل بالتقادم الزمني لأعمارها ولكنه يرتبط بانعدام قدرتها على تجديد ذاتها وافتقادها للحيوية التي تعطيها القدرة على المضي مع روح العصر والتكيف مع مطالب الأجيال الجديدة لدى الشعوب التي تحكمها، ومع ذلك فإنني أزعم أن أسراً عربية حاكمة نجحت في إحياء شخصيتها وتجديد هويتها ومسايرة العصر والاستجابة إلى مقتضياته ومطالبه بينما عجزت نظم سياسية أخرى عن تحقيق ذلك رغم الشعارات الديموقراطية والأقوال المتكررة عن إصلاح النظام السياسي وتحديثه، وينبغي أن يكون واضحاً أن تجديد النظم السياسية لا يرتبط بالضرورة بتغيير الشخوص، ولكنه يرتبط أساساً بدوران النخبة السياسية وتبادل مواقع السلطة وتوسيع دائرة المشاركة والدفع بأفكار جديدة ومبادرات بناءة تصب كلها في قناة التطور الطبيعي الذي يصاحب حركة الأجيال الصاعدة، وإلا أصبحت تلك النظم كالمياه الراكدة التي يصيبها العجز عن مواكبة التطورات وملاحقة التغييرات، ولعل هدفي من كتابة هذه السطور هو أن أوضح أن عملية تطوير السياسات وبث روح جديدة في الأفكار والسماح بدخول عناصر شابة إلى مواقع السلطة تمثل في مجملها عوامل أساسية تدفع بالنظم السياسية إلى الأمام وتعطيها الرغبة في استمرار الحركة ومرونة الفكرة واستيعاب المستجدات الوافدة واستلهام القدرة على المواجهة وفقاً للظروف المحيطة والأحداث الجارية. ولقد ظهرت مساحة من الفراغ الذي يفصل بين بعض النظم العربية وجماهيرها في مناسبات مختلفة بحيث غاب التواصل واتسعت الهوة وانعدمت الرؤية، وليس ذلك امراً ننفرد به في منطقتنا العربية ولكنه تجسيد لظاهرة معروفة في التاريخ كله، وأنا شخصياً ممن يؤمنون بأن من لا يقدر على التغيير فسوف تغيره حتمية التاريخ ومسيرة الزمن، ويجب أن أعترف هنا أن كثيراً من النظم العربية حاولت أن تفعل شيئاً في اتجاه حركة التطور ولكنها لم تتمكن دائماً من مواصلة الطريق فضلاً عن أنها عمدت أحياناً إلى الاكتفاء بتغيير الأشخاص دون السياسات وهو أمر أدى بها إلى نوع من العزلة خصوصاً عن الأجيال الجديدة، ولعلنا نرصد هنا العوامل الثلاثة الرئيسية التي تؤثر في شخصية النظم السياسية المعاصرة وتعطيها ما لها وتحدد في الوقت ذاته ما عليها وهي: - أولاً: إن قضية الديموقراطية هي القضية الحاكمة في تحديد طبيعة النظم واكتشاف هويتها وهي السبيل إلى توسيع دائرة المشاركة السياسية وإدخال القوى الفاعلة على المسرح السياسي في عملية صنع القرار بحيث تصبح القوى الموجودة فعلاً في الشارع ذات تمثيل في مواقع السلطة يعطيها رصيداً شعبياً في الشارع يجعل الارتباط بين النظام السياسي وحركة الجماهير أمراً يومياً محسوساً تعبر عنه ظاهرة رأي عام ناضج يربط بين من يحكمون وشعوبهم، والأمر في ظني لا يقف فقط عند حدود وجود مؤسسات دستورية قد يكون أولها المؤسسة البرلمانية القائمة على الحياة الحزبية وآخرها التنظيمات الشعبية في الوحدات المحلية مروراً بمؤسسات المجتمع المدني من نقابات ومنظمات غير حكومية بحيث تبدو المنظومة من حيث الشكل شبكة متكاملة الأبعاد ولكنها لا تؤدي إلى النتيجة المطلوبة وكأنما هي فرقة موسيقية كاملة الترتيب فيها كل الأوتار والأنغام والأجهزة الفنية والصوتية ولكن النغمة في النهاية نغمة نشاز لأن "النوتة الموسيقية" مفقودة وهي التي تنظم اللحن النهائي وتضبط الإيقاع العام، وهذا ينقلنا إلى العامل الثاني. - ثانياً: إن النظرية السياسية الواضحة التي تقوم على فلسفة اجتماعية تواضَع عليها الجميع واتفقت حولها كل القوى داخل المجتمع تمثل هي الأخرى مسألة جوهرية في تحديد قدرة النظام السياسي على مواصلة الطريق ومواجهة العقبات وارتياد المستقبل، ونحن هنا لا نشير إلى النظرية بمعناها الجامد ولكننا نتحدث عنها كإطار فكري مرن يقبل التجديد ويستجيب للتطوير ويستلهم التغيير من كل ما يجري حوله دولياً وإقليمياً. فالنظرية الجامدة تؤدي بالضرورة إلى حالة من التوقف والجمود تدفع بالنظام السياسي إلى الشيخوخة المبكرة وتعدم رؤيته للمستقبل وتنهي قدرته على الاستمرار، وألفت النظر هنا إلى أن الواقع الاقتصادي يمثل هو الآخر ركيزة أساسية في إطار النظرية السياسية وهو أمر يقودنا إلى العامل الثالث. - ثالثاً: إن الجماهير في كل شعوب العالم لا تقتات الشعارات أو تكتفي بالأيديولوجيات إنما تحكمها بالضرورة حاجاتها اليومية ومطالبها في الحاضر والمستقبل، فلو حاول نظام سياسي أن يكتفي بالحديث عن أمجاده واستثمار تاريخه من دون أن يعتني بالركائز المطلوبة لوجوده في الحاضر أو يقدم أوراق اعتماده للمستقبل فإنه يكون اصبح باهتاً تنصرف عنه الجماهير وتسعى حتماً إلى تغييره، فالازدهار الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة ورقي أداء الجهاز الإداري للدولة كلها عوامل تعطي للنظام السياسي هيبته وتحدد مكانته، فالسياسة بغير اقتصاد دوران لا طائل من ورائه، إنها تذكرنا ب"الاتحاد السوفياتي السابق" فعندما سقط القناع الايديولوجي بدت دوله جزءاً من العالم الثالث تطلب المعونات الخارجية وتتطلع إلى وضع أفضل من ذلك الذي عاشت فيه عشرات السنين، لذلك فإنه يجب على المعنيين بالنظم السياسية أن يدركوا دائماً أن الجماهير لا تريد السياسة وحدها ولكنها تتطلع إلى المعيار الاقتصادي للحكم على الأنظمة وتقويم الحكومات. إذا كان هذا تصورنا لطبيعة النظم السياسية وتطورها فإن الواقع العربي الراهن يضيف إليها أبعاداً أخرى ويضع أمامها آفاقاً جديدة. فلقد أثبتت ردود فعل أحداث انتفاضة الأقصى والمواجهات الدامية بين الفلسطينيين وإسرائيل أن النظم العربية باتت تعبيراً تقليدياً عن الوضع العربي العام وليست تعبيراً عن الواقع العربي الهادر بالمشاعر والانفعالات مع غياب ظاهرة رأي عام واعية تستطيع أن تكون همزة الوصل بين القيادات والجماهير. ونحن هنا لا ننكر أن كثيراً من الأنظمة العربية تفاعلت وشاركت وتحمست ولكنها ظلت بعيدة عن نبض الجماهير أحياناً بل وقلقة من حركتها أحياناً أخرى. وهو أمر لا يجب أن يؤخذ على إطلاقه، فالحكومات تقيدها ارتباطات والتزامات قد لا تهتم بها الشعوب ولا تعيرها الجماهير التفاتاً إذ أن الأمر يختلف بالنسبة إليها، فهي تملك رفاهية الغضب، وتتحرك في مساحة مفتوحة من الانفعال من دون أن يكون ذلك مؤثراً على الأحداث ذاتها لأنه لا يوجد ضابط يمنع أو رابط يجمع فضلاً عن أن الشعارات المتشددة تبدو في الغالب ذات بريق أخاذ، كما أن الأصوات العالية تشد الانتباه، فنحن أمة عشقت "ديوان الحماسة" في تاريخ الشعر العربي ولن يلتفت الناس في الغالب حول صوت العقل ولكنهم سوف يطربون دائماً لحنجرة العاطفة، من هنا تبرز المعادلة الصعبة بين مسؤولية من يحكم وحماس مواطنيه الذين لا تقيدهم التزامات ولا تكبلهم قيود. إنني أقول صراحة إن المحنة التي تمر بها أمتنا العربية منذ قرابة عام كامل عندما اندلعت المواجهة الدامية بين أصحاب الحق الفلسطيني والدولة العدوانية التي تنتهك أرضه ومقدساته وحياة المدنيين من شبابه وأطفاله، منذ ذلك الوقت ونحن نرقب من بعيد اتساع الهوة بين سياسات الأنظمة في مواقع الحكم وانفعالات الجماهير في الشارع العربي. ولا استطيع هنا أن أتصور أن الحكام العرب ليسوا مواطنين بالدرجة الأولى، بل هم كذلك ولكن الأقدار قذفت بهم إلى مواقع الحكم بالميراث أو الاجتهاد أو بهما معاً. إن ما أريد أن أصل إليه من هذا المقال هو أن أضع علامة استفهام كبيرة حول العلاقة بين النظم السياسية العربية المعاصرة وجماهيرها ولست هنا، مشيراً إلى نظام بعينه أو بلد بذاته، ولكنني ألفت النظر إلى أن قضية المشاركة السياسية وإدخال القوى كافة إلى دائرة الضوء هي أمور لازمة بل وحاكمة في تحديد مستقبل تلك النظم ودرجة استقرارها ومدى صدقيتها، وأنا لا أنكر هنا أن كثيراً من تلك النظم قطع أشواطاً على طريق الاصلاح السياسي بعد الاصلاح الاقتصادي، كما أنني لا أنكر أيضاً أن بعض النظم العربية لا يزال في مقدم الجماهير وليس وراءها، ومع ذلك فإن الظاهرة تظل باقية وتتلخص في ضرورة ملء المساحة الواسعة من الفراغ السياسي والفضاء القومي على امتداد خريطة الوطن العربي كله، لذلك نرحب في هذا السياق بالأفكار الجديدة والاجتهادات الواعية والسياسات الرشيدة ولكننا نرفض حال الجمود ونقلق من درجة التخبط بل ويصيبنا الإحباط عندما نكتشف أن الخطاب السياسي لبعض الأنظمة العربية لا يزال امتداداً لفكر منتصف القرن الماضي. دعنا نتطلع جميعاً إلى يوم تقل فيه المسافة بين النظم والشعوب، وتنكمش مساحة المتروك بين الحكم والجماهير. يومها ستلعب "النوتة الموسيقية" دورها مستمدة من فكر قومي واضح كما أن "المايسترو" سيقود بشعبية حقيقية وقبول طوعي ورضاء جماهيري. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.