تشيخ الأنظمة وتتقادم السلطة ويهزم سلطان الزمن سلطان البشر، ويعصف الخريف بكل الأوراق التي ازدهرت في ربيع عمر الأنظمة وسنوات ازدهارها، والحكم الرشيد هو الذي يعرف القائمون عليه لحظة الانصراف المناسبة أو توقيت التجديد الحاسم الذي يسمح بتدفق الدماء الشابة والعمل على ضخ روح تتميز بالحيوية وتسمح بالاستمرار، وواقع الأمر أن الأنظمة إذا عجزت عن ذلك، فإن الشعوب تتولى المهمة وقد يأخذ الأمر شكل «ثورة شعبية» أو «تمرد عام» أو رفض كامل لما يدور، فيجب أن ندرك هنا أن الشعوب لا تشيخ وأن الأمم لا تفنى وأن المجتمعات لا تستقيل، فالأصل في التغيير - سواء بالثورة أو الإصلاح - إنما يأتي من جوهر حركة الشعوب ذاتها ومن ضمير الأمم قبل غيرها، ولا بد من أن نسجل هنا أن الدول التي واجهت التغييرات المفاجئة قد اتخذت شعوبها قرارات بالتغيير بل وربما الانتقال المفاجئ من خريف الحياة السياسية إلى ربيع الحركة الوطنية. والآن نناقش هذه القضية من خلال طرح المحاور الآتية: أولاً: لا نظن أن هناك دولة على الأرض أو قطراً في عالمنا المعاصر يبدو معزولاً عن سواه، فالجماعة البشرية متماسكة تتبادل أطرافها التأثير والتأثر في شكل ملحوظ، ولا أظن أن الربيع العربي قد جاء مقطوع الصلة عن الأحداث العالمية والتطورات الإقليمية، بل قد يكون متفاعلاً معها متأثراً بها، ولا أود أن أضيف أيضاً بل ومنطلقاً منها. فنحن نتذكر جميعاً موقع «ويكيليكس» والآثار الناجمة عنه والملفات التي فتحها والحقائق التي طرحها، مما جعل الكثيرين من القادة والحكام يفركون عيونهم دهشةً وقلقاً ويتباكون على عصر الخصوصية والحجرات المغلقة والكواليس المحرمة. إننا أمام عصر جديد يبدو كل شيء فيه مختلفاً. ألم تشهد ساحة الوطن العربي في شهور قليلة ما لم تشهد له مثيلاً في عقودها الطويلة؟ ثانياً: يتحالف ثالوث الاستبداد والفقر والفساد لكي يعصف بهدوء الشعوب واستقرار الأمم ويحيلها إلى بركان جامح يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه، فالاستبداد هو الأب الشرعي للفساد وهو الغطاء الذي يغطي مظاهر الفقر ويعتمد سياسات القمع والقهر والإذلال، لذلك لا يتصور أحد أن الثورات الشعبية أو الانتفاضات القطرية هي بنت ظروفها فقط ولكنها أيضاً جزء من إحساس كامن نتيجة المقارنة مع الآخر والتطلع إلى شعوبٍ تعيش حياة أفضل بما يؤدي إلى الشعور بالفجوة وتكريس الإحساس بالظلم والاندفاع نحو الرغبة العارمة في التغيير السريع، حتى وإن لم يكن محسوباً بالقدر الذي تحتاجه «حدائق الربيع» بعد خريف طويل وشتاء عاصف! ثالثاً: إن حالة العزلة في عصرنا الحالي أصبحت مستحيلة، إذ لا توجد أسوار عالية تحجب الداخل عن الخارج. فالعالم المعاصر يدس أنفه في الشؤون الداخلية للدول والشعوب ولم تعد هناك أسرار محجوبة أو مواقع مجهولة، فكل شيء معروف وكل موقف مرصود وليست هناك دولة تستطيع أن تتخذ قراراً في معزل عن السياستين الدولية والإقليمية، ولا شك في أن المفردات الجديدة التي وفدت في العقدين الأخيرين على المستويين الدولي والعالمي ومنها الصحوة التي شهدتها منظمات حقوق الإنسان والتي تضمنت الحديث عن رعاية الأقليات والاهتمام بشؤون البيئة وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وقيام دولة القانون على أساس ديموقراطي سليم فضلاًَ عن التطور في مفهوم القانون الدولي الإنساني، كل هذه المظاهر الجديدة أدت إلى اتساع مساحة الوعي بالمتغيرات والتجاوب معها وأصبحت مثل وقود التدفئة في الشتاء البارد الذي يمهد للربيع المقبل. رابعاً: إن طول بقاء الأنظمة واستمرار قيادات بذاتها لبضع سنوات زائدة أو لعقود عدة كاملة قد أدت كلها إلى حالة من الترهل السياسي والجمود الفكري، بل إنها وصلت إلى حد تصلب الشرايين العقلية للسلطة، فأصبحت هناك حالة إنكار للواقع وعدم اعتراف بالحقيقة مع وهم دائم بضرورة دوام الحال وفهم مغلوط عند استشراف المستقبل، وليس ذلك جديداً، فكل فرد عندما يواصل عملاً واحداً ويمارس دوراً مكرراً لعشرات السنين سيصيبه ما يصيب الحكام والأنظمة من لا مبالاة وإحساس مبالغ فيه بالذات وحساسية مفرطة للنقد. كل هذه سمات للأنظمة عندما يتقدم بها العمر ويطول بها الزمن، والذي يريد الخير لدولة بذاتها عليه أن يتمنى لها التداول المنتظم للسلطة مع دوران النخب بانتظام. خامساً: إن ذلك «الفيروس» القاتل الذي طرأ على بعض الأنظمة العربية في الجمهوريات المستقلة أدى إلى حالة من الانتكاس لأنه اتجه بتلك الأنظمة إلى مرحلة من الارتباك نتيجة ظهور ما يسمى بملفات «التوريث» عندما ظهرت علامات شهوة الحكم والاستمرار فيه لدى بعض الرؤساء العرب، فتوهموا أن لا فرق بينهم وبين الملوك وأن تولّي أولادهم من بعدهم هو صيانة لأسمائهم وحماية لظهورهم وضمان للخروج الآمن ولو بعد حين، وفي ظني أن ذلك الأمر أدى إلى مخاطر كثيرة في المنطقة العربية وتداعيات مؤسفة على الأنظمة ذاتها، فلو أنها كانت ممالك واضحة وصريحة من البداية لاحترمها الناس، أما أن تأتي في ظل نظام جمهوري وترسّخ قاعدة التوريث، فذلك أمر غير معهود ولا مقبول في عصرنا الحالي، ولعل النموذج المصري هو أوضح مثال على ذلك حيث دفع الرئيس السابق مبارك تاريخه واسمه وحاضره ومستقبله ثمناً لحماقة التوريث والرغبة في استمرار الحكم نتيجة سقوطه أسيراً في يد مطالب أهل بيته وأفراد أسرته قبل أن يلبي مطالب شعبه وأمته!. سادساً: إن غياب الديموقراطية وبروز مظاهر التخلف السياسي وتزاوج السلطة مع الثروة والفساد الإداري والمالي، كل هذه المظاهر التي عرفتها بعض الأنظمة العربية قد عجلت بالضرورة في شيخوخة تلك الأنظمة وتقريب موعد نهايتها، ولا يجادل أحد في أن التفاوت الطبقي وغياب مظاهر العدل الاجتماعي قد أديا إلى إحداث تراكم سلبي زاد من حجم الانتقاد لتلك الأنظمة ورفض ممارساتها، ودفع بالطبقات الأكثر عدداً والأشد فقراً للخروج إلى الميادين الكبرى، ترفض البطالة وتصرخ ضد الظلم وتقاوم الفساد ثم تختتم ذلك كله في النهاية بعبارتها الشهيرة «الشعب يريد إسقاط النظام». سابعاً: إن الفهم الملتبس للعلاقة بين الدين والسياسة يمثل هو الآخر أحد مظاهر الصدام بين القوى المختلفة في المجتمعات العربية والإسلامية، ففي تونس ومصر حصد الإسلاميون رصيداً كبيراً للثورتين اللتين أطاحتا نظامي الحكم فيهما، وتحول جزء كبير من مكاسب الثوار ليصب في خانة الاتجاهات السياسية ذات الطابع الديني، صاحبة الخبرة الأكبر في التعامل مع الشارع والتأثير في الجماهير، ويكفي أن نتذكر تجربة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بكل رصيدها الطويل وإمكاناتها المتراكمة وخبرة ما يقرب من خمسة وثمانين عاماً من العمل في الشارع السياسي والاحتكاك بالحكومات المتعاقبة والنظم السياسية المتتالية، وكيف أن حصاد تلك التيارات الدينية لنتائج الثورات كان أمراً مؤكداً وتأثيره فاعلاً. هذه قراءة موجزة في ملف الثورات تنقلنا فيه بين أشجار الربيع العربي وأزهاره وألقينا نظرة على غيوم الخريف القومي وأعبائه لكي ندرك في النهاية أننا ننتمي إلى عصر كل ما فيه يتغيَّر وكل ما به يمضي ولا يتوقف. إنه عالمٌ يبدو كل ما لديه جديداً، حتى أن بعض الأجيال بدأت تشعر بنوع من الغربة فلا يمكن أولئك الذين تربوا في عصور التنظيمات الأحادية والنظم الديكتاتورية أن يواجهوا ببساطة عصر الانترنت و «الفايسبوك» و «تويتر» وكل مقتنيات تكنولوجيا المعلومات التي ساهمت إسهاماً مؤثراً وواضحاً في ثورات العصر ودفعت بميلاد الربيع العربي الذي جاء بعد «خريف الغضب» و «شتاء التمرد». لقد أصبحنا جميعاً أمام تحولاتٍ كبرى وانتقلنا بالفعل من عصر إلى عصر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يستمر الربيع مزهراً تورق أشجاره وتزهو وروده أم أن ثماره ستتساقط وأن توهجه قد يتحول إلى حريقٍ مدمر ما لم تكن القيادة للعقل والإرادة للضمير والرؤية بالوعي القومي فوق أي اعتبار؟ * كاتب مصري