أتحدّث هنا عن الاستقرار السياسي الذي يعني دوام حركة سلميّة للأحداث والتطورات ونمواً وتهدلاً في العلاقات بين الوحدات السياسية بأخذها الى مجالات أوسع للتعاون مغلّباً عوامل الالتقاء وتبادل المصالح على نوازع القلق والاختلاف، وهي الحال الوحيدة التي يمكن أن تضمن لمنطقة كالعالم العربي أو الشرق الأوسط بجملته حركة متواصلة من التغيير السلمي الى الأفضل مع قدر من الثبات للنظم والعلاقات والمؤسسات حينما توجد. والاستقرار لا يتحقق ببقاء الأوضاع والعلاقات على ما هي عليه، فذلك هو الجمود والتخلف، وإنما يتحقق بضمان حركة تغيير مستمرة ولكن بأساليب سلمية متواصلة لا يؤدي إتباعها الى تقويض الأوضاع الأمنية أو انهيار البناء السياسي برمته. فاستقرار أي شيء يحتاج الى السماح لعوامل التغيير أن تعمل تماماً كما في جسم الإنسان الذي لا بد له ليستقر ويستمر من أن يضمن لنفسه تجديداً متواصلاً ومنطقياً لجميع المكونات فيه. ونحن اذا ما اتفقنا على أن الاستقرار عموما والسياسي منه على وجه الخصوص لا يتحقق إلا بإطلاق عوامل التغيير والتجديد، فإنه لا بد لنا من أن نسرع الى الحكم على الشرق الأوسط بما فيه العالم العربي بعدم الاستقرار. نلاحظ أنظمة سياسية غير مستقرة وصلت الى السلطة من طريق المغامرة حاملة في ذاتها بذور مغامرة أخرى، ونلاحظ أنظمة تواجه صراعات محلية تتعارض مع أي استقرار، وقد جرّ بعضها على نفسه تلك الصراعات عندما أغلق الباب أمام عوامل التغيير الطبيعية أو السلمية، كما نشاهد أنظمة تتربص بأخرى ومن لم يفعل فهو يستعد ليوم فعل، وبالجملة فإن حال العلاقات بين بعض الحكومات وشعوبها هي على القدر نفسه من الاضطراب الذي عليه حال العلاقات بين الأنظمة الحاكمة. ومع أن أسباب الاضطراب متعددة ومتشابكة بين الداخلي منها والخارجي فإن أبرزها في مجال علاقات الحكومات بالشعوب هو عينه المشاركة في اتخاذ القرار وإغلاق أبواب تحقيق الطموحات السياسية للأفراد والجماعات، كما أن أكثرها وضوحاً في العلاقات بين الأنظمة هو سيكولوجية بعض الحكام واقتناعهم بأنهم أصحاب رسالات تعطيهم الحق في هدم أنظمة الآخرين. والغريب أن الشعوب التي تربطها مقومات أمة واحدة مثل العرب أو حتى الشعوب التي لا ترتبط إلا بعامل الجوار غالباً ما تتقارب وتختفي خلافاتها، إذا ما واجهت عدواً واحداً. لكن ما حدث، ويحدث في العلاقات العربية هو عكس ذلك بالتمام، فظهور اسرائيل كان سبباً في تشرذم العلاقات العربية بدلاً من ان يقرب بين وحدات الحكم والزعامات بما يمكن معه القول بأن عوامل التقريب لا تؤدي عندنا إلا الى مزيد من عدم الاستقرار. ولا يملك المرء عندما ينأى بنفسه عن الشعارات ويلقي نظرة متجردة على واقعنا السياسي إلا أن يتوقع مزيداً من القلق وعدم الاستقرار، خصوصا أن طموحات وقضايا كثيرة لم تحسم بعد في هذا الجزء من العالم، بل لا يبدو أنها قابلة للحسم في مستقبل منظور. ظلت حكومات ودول العالم تتدافع وتتقاتل من زمن بعيد، إما من أجل مصالح الشعوب أو من أجل شهوات الحكام. لكن مسيرة التاريخ الإنساني دفعت بالعلاقات بين الدول في بعض مناطق العالم الى مستوى من التحضر يضمن لها كثيرا من الاستقرار وإن بعد دفع ثمن فادح من الدم والدمار، ولا جدال في أن الحكومات المتقدمة ترى اليوم في الحروب أمراً كريهاً، وفي الاضطراب أمراً غير مقبول. حقاً لم يتحقق الاستقرار أخيراً في هذا العصر إلا للمنطقة الاوروبية، وإن أمكن التسليم بأن استقرارات نسبية تسود مناطق أخرى من الكرة الأرضية، ولعله من المفيد لنا ان نجري مقارنة بين حال الاستقرار الأوروبي العصرية وأوضاع القلق التي تسود أمتنا العربية وشرقها الأوسط حتى نستجوب واقعنا ونرى ما يمكن ان يجود به علينا من إجابات. تفوقت أوروبا عبر التاريخ الحديث على جميع القارات في القدر الذي أسالته من دماء ابنائها والقدر الذي اهدرته من إمكاناتها حتى أمكن لنظمها السياسية ان تقتنع بعد الحرب العالمية الثانية بأنه من الأفضل لها أن تنعم بالاستقرار، وأن ذلك الاستقرار لا يتحقق إلا بسلوك طريق التغيير السلمي المتواصل لعلاقات الحكم بالناس وعلاقات الحكام بالحكام، وانجزت اوروبا بالفعل علاقات مستقرة تسمح بالتغيير والتطوير بغض النظر عما إذا كانت تلك العلاقات قادرة على تحقيق وحدة سياسية بين الاعضاء او لم تكن. استخلصت اوروبا استقرارها من بين انياب الصراعات التي خاضتها واتاح لها التاريخ فرصاً متكررة ساعدتها على حسم معاركها حرباً وسلماً وإفراغ ما في جعبتها من القلق، ففرغت من كل المعارك التي تضمرها، أو لنقل فضفضت مآسيها ونظفت عقلها من طموحات المتخلفين. ونحن إذا سمحنا لأنفسنا بأن نصنف امة العرب الشرق اوسطية في الخانة التي شغلتها اوروبا المتقاتلة في القرن الثامن عشر يصبح في إمكاننا توقع استمرار القلق وتواصل عدم الاستقرار السياسي في المنطقة كلها، وبكل ما له من انعكاسات على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ذلك ان وحدات الامة العربية لم تحسم بعد ما تنويه من معارك ولم يتخلص بعض أنظمتها حتى الآن من أوهام الرسالات ولم تفرغ أنظمة أخرى من ممارسة هواية افتعال البطولات. نحن نعرف ان بعضاً من زعمائنا لا يتاح له البقاء في السلطة زمناً يكفي لانضاج مفاهيمه الساذجة، وأن بعضاً آخر وصل الى الحكم حاملاً معه قدراً من الوهم لا يملك الخلاص منه ما دام على قيد الحياة، ونحن نعلم ان حكاماً مؤهلين عندنا دفعهم نشاط الحكام المغامرين الى الخوف من الجيران والارتياب في ابناء العمومة، واضطروا الى صرف مؤهلاتهم في توفير اسباب الوقاية من المؤامرات، بل دفع بعضهم الى اكتشاف ان الاحتماء بأبناء العمومة لا يسعف عندما يصبح الرأس نفسه موضع التهديد. ومن المكابرة بمكان، أن نتحدث عن وحدة صف أو وحدة هدف، وحال العلاقات السياسية العربية على ما هي عليه، وما الخوض في المصالحات الا تسكيناً لجراح غائرة، وليس اغرب من حديث المصالحات الا الحديث عن امن قومي عربي لا تهدده إلا أنظمة عربية. نحن العرب لم نحسم معاركنا بعد، ولأن وسائل الحسم العصرية السلمية غير متوافرة، فلا يبقى في متناولنا الا وسائل القرن الثامن عشر. وسائل الحسم العصرية هي الديموقراطية في الداخل والمفاوضات والتسويات المسؤولة بين الاقطار، وهي الاعتماد على حكم المؤسسات في علاقات الحكومات بدلاً من مواهب زعماء افراد، وهي وسائل نفتقر اليها. ونحن إذ لا نملك وسائل العصر لبناء الاستقرار، وليس عندنا إلا وسائل القرن الثامن عشر التي هي القوة والمؤامرة والصراع المسلح، فإن الأمل في استقرار علاقات السياسة بيننا مجرد سراب، ذلك ان عوامل خارجية بعضها له صلة بالمصالح وبعضها الآخر انساني صرف تحول اليوم بيننا وبين استخدام تلك الوسائل القديمة. من الأنظمة العربية ما لا يمكن صرفه عن توسيع سلطته او تعميم نظامه، ومنها ما وهب مقدراته لتحقيق وحدة قهرية مع جار من الجيران، ومنها ما لا يمكن ان يتحمل وجود حاكم آخر لمجرد أن اسمه لا يليق. نعم في الامة حكام لم يتوقفوا عن زرع القلق وخلق الاضطراب وهم لا يستسيغون أي نوع من الاستقرار يحولهم الى مجرد مديرين لمصالح الناس لأنهم أصحاب "رسالات"، وبما ان الامة تفتقر الى وسائل حسم الصراعات التي لا بد من حسمها ليولد الاستقرار، وبما ان العالم لم يعد يسمح، على الأقل في هذه المنطقة، بحسم الأمور من طريق القوة، فالأمة مرشحة لأن تبقى رهينة مأزق القلق وعدم الاستقرار. حال المجتمع الدولي ويحول بين بعض النظم وتسوية صراعاتها مع الآخرين، وفيما تكمن خلف بعض حالات تلك الحيلولة مصالح أنانية تكمن دوافع إنسانية من الاشفاق خلف حالات اخرى، وسواء هذه او تلك فإن المجتمع الدولي لن يسمح بحسم صراعات بعض الأنظمة العربية بالأساليب القديمة، لذلك تبقى حال القلق وعدم الاستقرار، قابلة للاستمرار الى ما شاء الله. إن منطقة كمنطقتنا حافلة بأنظمة مغامرة لا يهدىء من اندفاعها الا تحقيق مغامراتها وتضم حكاماً يثير الهدوء اعصابهم، ويشكل عدم الاستقرار جزءاً من تكوينهم، ولها نصيبها من المغامرين أفراداً وجماعات، منهم من تفتحت براعمه ومنهم من لم تتفتح بعد منطقة كهذه لا يمكن لها ان تتوقع الاستقرار وما عليها الا ان تتعود العيش في ظل القلق الى ان يقضي الله في امرها ما يراه. وأخيراً ألا يبدو بعض أنظمتنا وكأنه مجموعة من الملاكمين استعدوا ثم لم يسمح لهم بالتلاكم، وهم لا يفكرون في حسم أي مباراة لهم بالنقاش؟ * كاتب، ورئيس وزراء ليبي سابق