سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
باحثون فرنسيون في حركات الإسلام السياسي المعاصرة يناقشون "الإسلاموية" و"ما بعدها" . غلبة الدولة الوطنية على الأمة ، والبرلمانية على الثورة ... تعقل العنف وتمهد طريق الديموقراطية ؟
منذ مطلع العقد السابق، العقد العاشر من القرن العشرين، زعم بعض دارسي الإسلاميات الفرنسيين ان الحركات الإسلامية السياسية الأصولية في قول، أو المتطرفة في قول آخر، أو الغالية في قول ثالث دخلت طور الأفول أو النزع. أما القرينة على ذلك فهي، على قول احد هؤلاء الدارسين، أوليفييه روا - وهو اختص في دراسة آسيا الوسطى الأفغانية والتركية والفارسية الإيرانية - إخفاقُها، غداة ثلاثة عشر عاماً على استيلائها على حكم ايران يومها، في 1992، سنة طباعة كتاب أوليفييه روا "إخفاق الإسلام السياسي" في صوغ نظام ترسو عليه السياسة والدولة "الإسلاميتان" ويزاوج التراث والحداثة، ويصبغ دولة الإسلاميين بصبغة الإسلام وتاريخه من غير ان يكبلها بأحكام بائدة او يحملها على الانطواء على نفسها والنفور العنيف والمرير من العصر ومجتمعاته وقيمه. وذهب دارس السياسات الإسلامية المعارضة هذا الى ما ذهب إليه في ضوء الفحص عن الحركات السياسية الإسلامية، اجتماعيات ومقالات وأعمالاً، في العقد التاسع المنصرم. وهو عقد ملأته جلبة الخمينية، أصلاً إيرانيا وفروعاً عربية وآسيوية و"أوروبية" جاليات المهاجرين والمستوطنين المسلمين، وحروبها الدامية بين البصرة وعبادان، وعمليات "جهادها" في الجو والبر، واحتجازها الرهائن. وملأت العقد كذلك، من وجه آخر متصل بالأول، حرب الأفغان على الاحتلال السوفياتي، وتتويجهم حربهم هذه بإجلاء القوة السوفياتية عن ارضهم، وهزيمتها في حرب برية جددت "المعنى" الفيتنامي قبل ثلاثة عشر عاماً في 1975 - ومفاد المعنى هذا ان القوى العسكرية العظمى لا تنفعها قوتها العسكرية في إخماد حركة وطنية واستقلالية حسنة التنظيم إذا كانت العلاقات الدولية تقيد الحرب على خلاف أحكام "الطريدة البرية" أو "البحرية" الاستعمارية وتقر بحق الشعوب في تقرير المصير، على ما هو شأنها منذ الحرب العالمية الأولى أو قبلها. ويعود الباحث الفرنسي اليوم في دورية "إسْبري" الفرنسية الشهرية، آب/ اغسطس - ايلول/ سبتمبر 2001 الى مقالته هذه. وهو في الأثناء، اي في غضون العقد الذي مضى، أثبت قسماتِ ما سماه "الخلافة على الإسلام السياسي" أو "ما بعد الإسلام السياسي"، في 1999 في عدد دورية "مجلة العوالم المسلمة والمتوسطية"، ووصف هذه القسمات. وفي العام نفسه كتب، مع إيراني مهاجر الى فرنسا هو فرهاد خوسروخافار، كتاباً في "إيران: كيف الخروج من ثورة دينية؟". واتفق هذا، وقتاً ومقالة أو مضموناً، وطباعة كتاب كتبه دارس آخر في السياسيات الإسلامية، أو سياسيات الإسلاميين السياسيين، هو جيل كيبيل ويعرف قراء العربية كتابه الأول في "النبي وفرعون" الذي تناول فيه حركات الإسلام السياسي المصرية، وأعمال ندوة في المثقفين الإسلاميين والحركات السياسية تولى تنسيقها ووسم الباحث كتابه، وهو طبع العام الفائت، بعنوان "الجهاد. فتوح الإسلام السياسي وأفوله". إسلام... الدولة وعلى رغم توارد بعض آراء الباحثين روا وكيبيل، لا سيما في قضية سلمان رشدي، وكتابتهما فيها مقالاً مشتركاً في 1989- الى تعاطي الاثنين التدريس والكتابة في حقل "العلوم السياسية" المعاصرة و"تطفلهما" تالياً على الدراسات الشرقية والإسلامية، ومخالطتهما الإعلام ومنابره الصحافية والتلفزيونية على نحو ظاهر -، على رغم هذا الذي سوغ الجمع بينهما في باب واحد، وهو "إعلامي" نجمي و"علمي سياسي" في آن، ينزع الرجلان منزعين مختلفين. فيذكر احدهما، أوليفييه روا، رداً على توحيده بزميله انه حين كتب "إخفاق الإسلام السياسي" في مطلع العقد العاشر كتب قرينه المفترض أو المزعوم كتاباً وسمه ب"ثأر الله". وذهب فيه الى غلبة النزعات "الأصولية" على التدين والاعتقاد في أربع جهات الأرض، وفي الجماعات الدينية كلها. ويلاحظ روا ان مثل هذا الافتراق، قبل نحو عقد من السنين، ينبغي ألا يسوغ حمل الالتقاء، اليوم، لا على حقل البحث ومناهجه "العلوم السياسية" ولا على نازع "إعلامي" مزعوم، يشخصه دارس آخر هو فرنسوا بورغات كتب "الإسلام السياسي وجهاً الى وجه"، أو "تصفح الإسلام السياسي"، في 1996. فالمناقشة المجدية والمجزية يجب ان توضع على المسألة، أو على المسائل نفسها وهي احوال السياسة وحركاتها وتياراتها في المجتمعات التي تُحمل ويحملها أهلُها أو معظمهم على الإسلام وتاريخه وثقافته. فما صنعته الدراسات الغربية أو الفرنسية والسياسية في العقد التاسع من القرن العشرين هو إثباتها، على وجه التقرير والوصف وعلى وجه التأويل و"التركيب" معاً، انقلاباً سياسياً إسلامياً في العمل والنظر. فقامت ثورة شعبية ونخبوية في إيران تحت لواء إسلام شديد الاختلاف عن دعوة الإسلام التقليدي، إصلاحياً كان أو محافظاً. والفارق هو ترك الإسلام السياسي الخميني، ومعه أحزاب سياسية في تركياوالجزائر ومصر وتونس واليمن والأردن والعراق ولبنان فلسطين وسورية وغيرها الدعوةَ التقليدية الى العودة بالمجتمعات الى الشريعة وأحكامها من غير ايلاء الدولة، أو الكيان السياسي المحدث عن يد التوسع الأوروبي، المكانة الممتازة والبارزة التي أولاها إياها الإسلاميون منذ بعض الوقت. ف"الفكرة الواحدة" والمشتركة مبناها تمييز ما هو مسلم، نزولاً على حكم العادة السائرة والمتواترة أو التقليد، مما هو من الإسلام، حقيقة وفعلاً ويردّ هذا لفظاً ومعنى الى خبر رواه أبو جعفر الطبري عن حركة من حركات الخروج بالعراق في اوائل القرن الرابع للهجرة، فقال ان أحد أنصار الحركة الغالية قال لأمه: "ليس الإسلام ما نحن عليه اليوم"، فقالت الأم مرتاعة ومستعظمة: "ويحك! وما يكون ما نحن فيه إذاً؟". وما أنكره الإسلاميون يومها هو، والحال هذه، صدق نسبة المجتمعات المسلمة، بديهة وتقليداً وتراثاً أو "سوسيولوجياً"، على قول الفرنسيين، الى الإسلام "الصحيح". والمشهور ان الإسلاميين، على أثر سيد قطب، الإخواني المصري، نفوا المجتمعات التي غلب عليها الإسلام وتاريخه ومعتقداته وشرعه، من الإسلام، وقضوا فيها بالتبديع والعودة الى الشرك، أي ب"عبادة" الدولة الإقليمية وقوانينها وسننها مع الله ودينه وشرعه. ولازم الإسلاميون، على خلاف مسلمي التيارات الإحيائية، بين تمييزهم القاطع والصارم هذا وبين طلبهم الاستيلاء على الدولة، واشتراطهم هذا الاستيلاء، فوق الأخذ بالشريعة وتطبيق احكامها، شرطاً لنسبة المجتمع الى الإسلام. وهم يعلون من شأن الدولة والسياسة "سياستنا هي عين ديننا، وديننا هو عين سياستنا"، على قول خمينيٍ مأثور، ويحلونهما والدين محلاً واحداً أو مشتركاً، جراء المكانة التي يولونها الدين، اي الإسلام. فلا يعقل، على ما ذهب إليه ابو الأعلى المودودي وسيد قطب وروح الله خميني، وأصحابهم، ان يكل الإسلام وهو دين "التوحيد" المتشدد في الأمور كلها تدبيرَ شؤون الدنيا وسياستها الى مذاهب وأحكام وسنن ليست من الإسلام والمسلمين في شيء. وترتب على هذا بعض ما ينسب الى دارسي مجتمعات المسلمين المعاصرة من تجديد أو "ابتداع" غربي أو أوروبي. فالإسلامي المعاصر، وليس الباحث الغربي المستشرق أو المستعرب، هو من يُحلُّ ا لدولة، أي السلطة العليا في تصريف وجوه اجتماع وطني وإقليمي ولو مؤقتاً في انتظار اجتماع عقد "الأمة"، وهذه بدورها جزء من "ناموس الأرض"، على قول الألماني كارل شميدت، ومجتمعها الدولي"، المحل الأول. وهو من يرى استيلاءه على زمام دولة بايران مثلاً علامة من علامات الزمان وفرج صاحب الزمان. والإسلامي المعاصر هو من يريد قسر الأوروبي الغربي، باحثاً أو سياسياً أو مواطناً "متوسطاً"، على الإقرار بإلفة الإسلام، ومجتمعاته، مع المجتمع المدني، والحريات العامة، والمجادلة بالتي هي احسن أو "حوار الحضارات" الخاتمي. ويذهب صاحب "إخفاق الإسلام السياسي" الى أن الدولة الإسلامية هذه، وما يصاحبها من هيئات منتخبة وقوانين وتنظيمات ومن إدارة معقلنة ومختصة في ميادين بعينها ومعايير موضعية ومستقلة، انما هي وليدة إقرار الحركات السياسية الإسلامية والمجتمعات تالياً؟ على ما يلمح من غير ان يصرح بافتراق "مستويات" السياسة، بل السياسي، والاجتماعي والاقتصادي بعضها من بعض، وانفصالها وتمايزها، على مثال ما يسمى "علوماً إنسانية" أو "حكميات"، على ما اقترح الأب فريد جبر على مثال: "كتاب ما للهند من حكمة" حُملت على "الغرب" وحده الى وقت غير بعيد. وبرهانه، أو أحد براهينه على مقالته ان روح الله خميني، في رسالته في الاجتهاد، يتكلم على "البيع والشراء"، ولا يكتب "الاقتصاد" ابداً، على حين أن الفقيه نفسه يتكلم على "الاقتصاد"، ويكتب اللفظة غير مرة، في اعقاب ثلاثين سنة على الرسالة. ولا تحصى الكتب والمقالات الإسلامية في "اقتصادنا" الإسلامي ومصرفنا ومعاملاتنا المالية وغيرها. وهذا الى منزلة "الثورة" من مقالات الإسلاميين، وحمل الإسلام على إيديولوجية و"فلسفة". الطعن في "الإخفاق"... وعلى هذا انتفى الفرق بين الباحث الغربي وبين موضوع بحثه أو مبحثه الإسلامي أو الشرقي المحلي. وارتفاع هذا الفرق - ويعزوه الباحث الفرنسي الى دخول الغرب عوالم الإسلام والمسلمين، ومهاجرة المسلمين جماعات غفيرة الى أقاليم الغرب ومجتمعاته، وشيوع حدي الفعل - يسميه الباحث "انصرام الاستشراق" ونهايته. وهو يدرج نفسه في هذا الفصل من فصول الدراسات الغربية الموضوعة على المجتمعات غير الغربية. وينكر تالياً مقالة من يذهبون، على غرار فرانسو بورغات وآلان روسِّييُّون وهو باحث آخر كتب في عدد المجلة الذي يتناوله "التحقيق" الى ان مقولة "الإسلام السياسي" - أو الإسلاموية، بحسب ترجمة تغفل عن مدلول اللفظة المحلي ووقوعه تحت نظرها - و"خلافته" و"ما بعده"، إنما هي إنشاء مصطنع، "استشراقي"، ومقحم على المجتمعات الإسلامية. ويحتج أ. روا لرأيه بقرينتين تتفرعان عن ملاحظته على الإسلاميين مذهبهم المحدث في الدولة. فيروي انه حين دعي الى مناقشة كتابه الأول 1992 في جامعة المفيد الدينية بقم، لم ينكر المناقشون عليه مقولات استدلاله، ولا مفهومات بحثه الاجتماعية والسياسية والتاريخية، بل أنكروا أشد الإنكار وأقواه، مقالته في "الإخفاق" والفشل والإحباط. وعلى هذا، فما ينعيه الإسلاميون على الدارسين الغربيين ليس أبواب "علمهم" أو "معرفتهم"، بل العجرفية التي ينسبونها إليهم والاستكبار الذي يحملونه عليهم. أما القرينة الثانية فهي سعي الإسلاميين في نفي الخصوصية عن الإسلام، وعن مجتمعاته وتاريخه. فهم لا يطلبون، على زعم صاحبنا، للإسلام فرادة أو مباينة تعصى "العقل" العام أو الغربي ومعارفه وعلومه. وما يطلبونه للإسلام قد لا يتفق وبعض مقدمات الاستشراق التقليدي كما لا يتفق ومذاهب نقاد الاستشراق، الأوروبيين والأميركيين والمحليين. فالمستشرقون، ونقادهم، يحملون الدين على مفتاح كل أبواب الاجتماع والتاريخ "الإسلاميين"، فناً وعمارة ومدينة واقتصاداً وأفكاراً وغيرها. ومصدر الحد والتعريف، أي التخصيص، في تناول الأبواب والوجوه هذه هو دين الإسلام، على نحو ما حفظته النصوص الأم وما يفهمه علماء الإسلام. فإذا وضع البحث على "إسلام افريقي" اقتصر على تنويع أو تفريع طارئ على أصل واحد. ولم يرضَ كثرة المسلمين شأن مدير عام دار الفتوى اللبنانية الراحل، حسين القوتلي بافتراض البحث ما قد يزيد على التفريع، أو وقوعه على هذه الزيادة ووصفه لها. وحين يوحد فرانسوا بورغات الإسلام ب"هوية" المسلمين، المقهورين والمستعمرين، وبردهم الجواب على صور القهر والسيطرة والاستلاب ومقاومتها، فهو ينحو نحو تعليق المجتمعات الإسلامية، وتعليق جماعاتها وأطوارها ومنازعاتها المختلفة على "مشجب" نسب واحد وثابت على قول جاك بيرك في القبيلة العربية وروايتها أنسابها. ويتوسل بورغات، على ما يكتب هو، بتقديم الوجه أو البعد الثقافي والهُوِّي والقومي أو الوطني، الإسلامي على البعد الديني المحض، الى تهميش القلة المتطرفة من الإسلاميين، من وجه، وإلى الطعن في حمل لواء الإسلام على الضد من ديناميات التجديد والتحديث الاجتماعيين، ومن دينامية الليبرالية السياسية. وهو يخلص من توحيده الإسلام السياسي بحركات المعارضة الاجتماعية والسياسية والثقافية الشعبية والعامة، الى إنكار تعليل الإسلام السياسي، على ما يصنع الباحثان روا وكيبيل على زعمه، بخلل اقتصادي طرأ على المجتمعات، وأنتج جماعات مهمشة أخرجها التغيير الاقتصادي من دورته فزاودت على هامشيتها الاقتصادية والاجتماعية بهامشية سياسية غذت تطرف الجماعات وحملتها على العنف والتطرف. فيدعو الى فك لغة الإسلاميين وتأويلها من طريق "حملها على المعنى"، على قول النحويين. فما يقولونه في "لغة" الدين يتناول، حقيقة، وجوه السياسة والاجتماع والثقافة كلها، ويوجب صيغة الجمع والتأليف بين الوجوه المحلية وبين الديوقراطية، على ما لا يشك بورغات. وفي هذا الضوء لا يرى صاحب "الإسلام السياسي وجهاً الى وجه" جواز الكلام على أفول، ويعزوه أي الكلام الى سعي حكومي ودولي في تجريم حركات المعارضة الشعبية في البلدان الإسلامية الكبيرة من تركيا الى تونس والمغرب. ويرد أوليفييه على فرانسوا بورغات بإثبات "مسرح" سياسي يخص كل بلد أو مجتمع من البلدان والمجتمعات التي يغلب عليها المسلمون. ويصبغ المسرح هذا بصبغته الحركات الإسلامية السياسية وحركات "الأسلمة"، إذا جازت الترجمة التي نُعِيت على الغير للتو. ولكن الصبغة هذه - وهي تصح في الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائر وحزب الفضيلة التركي، المحظور بعد الرفاه و"النهضة" التونسية وحركة الإصلاح اليمنية والإخوان المسلمين في "أوطانهم"، على نحو ما تصح في "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني وجمعية العدل والإحسان المغربية - هذه الصبغة المحلية والمتفرقة لا تحول محليتها، ولا يحول تفرقها دون غلبة قاسم مشترك عليها. وهو استواؤها حركات سياسية يسوقها "تدبير امة - دولة حديثة"، و"تزاوج أدلجة الدين وطلبَ السلطة والتحكمَ في معرفة تكنوقراطية". ولا يقتصر الإحياء الإسلامي على الإسلام السياسي هذا. ولكن لا ريب، من وجه آخر، في أن الإسلام السياسي غلب على الحقل السياسي والاجتماعي الذي يرعى فيه الإحياء الإسلامي، وأثر أثراً قوياً في صور الإحياء هذا وعباراته. وأدت هذه الغلبة، وكان هذا ربما ثمنها، الى قبول معظم حركات الإسلام السياسي بالبرلمانية طريقاً ونهجاً الى المشاركة في السلطة، على نحو ما أدت الى التزام جانب محافظة حقوقية تشريعية وقانونية وثقافية تناولتها الحركات السياسية الإسلامية، في مخاض الولادة والابتداء، بالنقد والإنكار. فائتلف من هذا كله، في غضون العقد العاشر المنصرم، نازع إسلامي سياسي يرى أوليفييه روا انه يشبه التيار الديموقراطي المسيحي الأوروبي في صيغته المتشددة و الفاتيكانية والتكنوقراطية. فخرج الرد الى الإسلام، في حقل السياسة، من العام الى الخاص الوطني المحلي، ومن القدس أو المقدس الى الإنسي والدنيوي. وغلبت السياسة وملابساتها، والحال هذه، على رابطة الإسلام بالسياسة أو روابطه بها، على ما كان استشرف مكسيم رودنسون في تظاهرات العقدين السادس والسابع من القرن العشرين. وعودة الغلبة الى السياسة هي من دواعي الكلام على انصرام الإسلام السياسي، على صورته في الثمانينات، وعلى ابتداء فصل "خلافته" أو "ما بعده". وفي مقابلة غلبة السياسة - وبطلان زعم حركات الإسلاميين الانفراد بتمثيل الإسلام في المعترك السياسي واحتكاره، وخطو علمنة ضعيفة خطواتها الأولى - لم يبق في وسع حركة سياسية في بلد "مسلم"، من أي "مذهب" كانت، أن تقتصر على مقالات علمانية خالصة. فتُصدر بعضَ مقالاتها عن "روح" الدين ولا تستنكف من تأويله، على ما يصنع بعض المثقفين الشيوعيين والماركسيين العرب منذ بعض الوقت. وهذا إيذان، على زعم صاحبنا، بامتناع الدين من الحلول في السياسة، ومن استغراقه فيها. فإذا غلبت الدول الوطنية على "الأمة"، ورسخت قدم الحركة السياسية في الأرض المحلية، ونشأ عن الغلبة والرسوخ جسم سياسي وطني وشعب، وتقدمت المشاركة على المعارضة الانقلابية، فماذا يبقى من الإسلام السياسي السابق؟ والحق ان هذا يصادف، بل الأصح القول انه يتفق وضعفَ قوة الإسلام السياسي الثورية وانحسارها، وأزمةَ تعريفه صفة "عالمية" ابن لادن تتعالى عن الدول والأوطان. ولعل "قاعدة" اسامة بن لادن من الصيغ القليلة الباقية لمثل هذه "العالمية" الإسلامية، الى "جماعة التبليغ" التي تدعو مسلمي المهاجر الى الانطواء على إسلام حرفي وشرعي وإلى اعتزال المجتمعات المضيفة. اجتماعيات "ما بعد الإسلاموية" ويؤرخ جيل كيبيل، الفرنسي و"السياسي" الآخر، للإسلام السياسي وحركاته، من فتوحه الأولى وتوسعه الى ضعفه وفتوره، في ضوء عوامل اجتماعية و تاريخية استراتيجية، إذا صحت اللفظة. فظهور الإسلام السياسي المتشدد، على ما يلاحظ صاحب "الجهاد"، في مصر والجزائر اتصل بنكوص الدولتين "العلمانيتين" والمناضلتين "العالم ثالثيين" عن الوفاء بوعود الاستقلال. أما ما تشترك فيه مصر، وهي التي اغتالت حركتها الإسلامية رئيسها قبل عشرين عاماً، وإيران، وهي حضنت ثورة إسلامية، والجزائر على بعض التأخر زمناً فهو أزمة اجتماعية انفجرت حين بلغ سن الرشد جيلٌ لم تسبق له معرفة ولا خبرة بالسيطرة الاستعمارية، ولم يشهد معارك الاستقلال. وأتاحت الدول المستقلة هذه لجماعات كبيرة من الشبان والشابات تحصيل الدراسة في مدارس المدن، حيث رست جماعات المهاجرين من الريف والمتكاثري الولادات. وبلغ بعد هذا الجيل جيلٌ آخر كان شاهداً على الانهيار السوفياتي، وعلى هزائم الإيديولوجيات والحركات "القومية - التقدمية" في فلسطين ولبنان والعراق. ولم يعرف الجيل الثاني هذا غير الإسلام السياسي باعثاً ثورياً على العمل. ويعزو كيبيل انحسار الإسلاميين وحركاتهم، في ايران والسودان وأفغانستان، شأنهم في مصر والجزائر، الى إخفاق تدبيرهم الدول وأجهزة الحكم التي استولوا عليها، وانفردوا بتصريفها في الأحوال الثلاث الأولى، وإلى انسياقهم وراء القتل الأعمى وعجزهم عن الاستيلاء على الحكم في الحالين الأخريين. وخلف الأمران، الإخفاق والعجز، إقراراً عاماً بأركان الحداثة الغربية اي بدولة الحق والقانون، وبالديموقراطية والنوازع الفردية وفك دائرة العام من دائرة الخاص، وفك حقل السياسة من حقل الدين. ومهد هذا، وهو غير قليل، الى "حل إذابة الإيديولوجية الإسلامية في اقتصاد السوق". اما العامل الثاني في انصرام حركات الإسلاميين فداخلي. والسبب فيه هو إما المشكلات البنيوية الناجمة عن مباشرة سلطة إسلامية انجاز برنامجها المفترض، على ما هي حال إيران غداة الحرب العراقية - الإيرانية، أو تصدي اجهزة الدول القائمة للحركات الإسلامية وقمعها، والحؤول بينها وبين دخول الحياة السياسية و"الجولة" فيها، على ما هي الحال في سورية ومصر والجزائر، وعلى نحو آخر في تركيا. فلا مخرج، على زعم الكاتب، من الورطة الخانقة هذه إلا بإعمال الرأي في "العودة الى الإسلام" شعاراً ومشروعاً، على حين تمضي قلة "يائسة" على العودة المستحيلة هذه. ويمهد إعمال الرأي الى "تفتت الحقل السياسي" أ. روا، وتكاثر المراجع والصيغ. وفي الأثناء تنشئ القلات الأقليات المسلمة في اوروبا والبلدان "السوفياتية" في جوار روسيا القريب تديناً أهلياً أو فردياً بعيداً من طلب الدولة الإسلامية، ومقراً بكثرة منازع دائرة العلانية العامة والمشتركة. فيأتلف من هذا خروج كثرة الإسلاميين من الإسلام السياسي الثوري الى الشرعية الديموقراطية الغربية. وإذا خالف كيبيل وصف زميله أوليفييه روا بعض مناحي هذا الخروج ووقائعه وبلدانه وعلله، فهو يقر عموماً بحقيقته وبمحجته والحق ان كيبيل يصبغ المحجة هذه بصبغة اخروية وخلاصية تخالف "مزاج" روا الساخر والمتشكك. وعلى هذا فملاحظة آلان روسِّيُّيون على "مفارقة" اضطلاع الإسلام السياسي الغالي والمتطرف بإرساء شروط العلمانية ومقدماتها قد تصيب "ثغراً" من ترس صاحب "الجهاد" ودرعه المعدني، ولكنها تخطئ إصابة صاحب "إخفاق الإسلام السياسي" وزرده المرن. وتتوسل اجتماعيات الحركات الإسلامية السياسية بأركان ثلاثة استخرجها صاحب "النبي وفرعون" في عمله الأول هذا والمنقول الى العربية، على ما تقدم، وجردها زميله في "إخفاق الإسلام السياسي". والركن الأول هو جماهير النازحين الجدد الى المدن والفتيان الوافدين إليها، المتنازعين بين امل خائب في الارتقاء الاجتماعي وبين رغبات ضعيفة الحيلة في الاستهلاك و"الحيطيون" أو "الحيطيست" مثالهم. والركن الثاني هو "الطبقات المتوسطة" التي امتحنها التحديث المتسلط والقسري، في مرحلة اولى، وامتحنتها، في مرحلة ثانية، "ليبرالية" الانفتاح ثم الخصخصة او التخصيص. فحرمتها المحنة المزدوجة ريع استثمارها في تعليم اولادها. وبعض الطبقات الوسطى هذه يُنسب الى "التقوى" والإيمان، ويحدس في الإسلام الشرعي والحرفي حضناً وملاذاً من عوادي العصرنة والتحديث الغربيين. والركن الثالث هو "المثقفون الإسلاميون الجدد". وهؤلاء انقطعوا من الإيديولوجيات "التقدمية"، القومية والماركسية، وأداروا الظهر الى الغرب. وإذا كان المثال على هذا الصنف من الناشطين هو المهندس، المولود قرابة عام 1950 في المدينة لأبوين آتيين من القرية أو البلدة، فالإشاحة عن الغرب لا تحمل على ترك طلب الحداثة ولا تغفل عن إلحاح الحاجة العملية بل تدعو إليها. ويجمع الركن الثالث الركنين الأولين ويلحم بينهما من طريق الإسلام، ويغفل عن خلافهما وضعف لحمتهما. وكان إنجاز الخميني في إيران، والقرينة على "بركته" وهذا معنى كاريزما ومنها الكاريزمية، لحمَه بين "المستضعفين" وبين "البازار" وإقامته الملالي و"كوادر البناء" على ما سموا من بعد و"الطلاب في خط الإمام" وكان منهم عبدالكريم سروش ومحمد خاتمي وغيرهما قوامين على الحلف واللحمة. ومثل هذا الحلف يميل، بحسب غلبة مادة من مادتيه، إما الى القطع والثورة و الغلو إذا غلبت عليه جماهير المستضعفين، إما الى القطع والثورة والغلو إذا غلبت عليه جماهير المستضعفين، أو الى الاعتدال إذا غلبت عليه "البورجوازية التقية" - بحسب رسم لا يغفل آلان روسِّيُّيون عن ميكانيكيته الساذجة فيسأل عن محل أسامة بن لادن البعيد من الوسط والتوسط ثراءً وإيماناً منه. وينبه روسِّيُّيون نفسه الى خلو الرسم الاجتماعي هذا من الدولة، دوراً وسياسة. فالدولة، وسياستُها الجماعاتِ السياسيةَ عموماً والإسلامية خصوصاً، تضطلع بالدور الأول في حمل الجماعات على الاعتدال أو على التطرف. فهي، على قوله، مكّنت الأمر للإسلاميين المصريين، في وقت أول، وغضت النظر عن بسطهم سيطرتهم على مرافق الحياة اليومية، والمساجد، والتعليم، وعن عدوانهم على المصريين الأقباط. ثم رجعت، في عهد خلف السادات، عن إغضائها. ونازعت الإسلاميين حتى "المعتدلين" منهم، على دوائر نفوذهم، وأخرجتهم من هذه الدوائر. فكانت حملة الإسلاميين المتطرفين على السياحة والسواح "رداً" على المنازعة والإخراج هذين، وليست "السبب" فيهما، على زعم الكاتب. وهو ينسب الى دائرة إسلاميي السلطة دعوى الردة على نصر أبو زيد، ودعوى تكفير يوسف شاهين. وليس هذا الإغفال الوحيد. فمن الجزائر الى باكستان، ومن فلسطين الى أفغانستان، يلمح ناقد روا وكيبيل الى أن "بشرى" أفول الحركات الإسلامية المقاتلة والمتشددة لم تطرق بعد أسماع المقاتلين والمسلحين و"المجاهدين" ولم تستأذنها. وهو يشك في سماع هؤلاء وغيرهم هذا الخبر، وعملهم بموجبه ووحي منه، ما لم تتحول المجتمعات "الإسلامية" من طلب النماذج الحضارية والثقافية الى صانعة نماذجها. ولا يفي بالتحول هذا تبلور "مقالة محلية في الديموقراطية" على المثال الإيراني، ولا ظهور دور النساء على مسرح المثال نفسه. ولا ينبغي الخلط بين المشكلات والأزمات الحادة التي اصابت مجتمعات المسلمين وبين عبارة الإسلاميين عنها، وحملها على "حقيقة الإسلام" وقياسها على هذه الحقيقة. فجمع هذا كله في باب واحد، إسلاماً سياسياً أو خلافة عليه، تعمية وتمويه "استشراقيين محدثين"، على قول روسِّيُّيون وبورغات معاً. * كاتب لبناني.