بعد يومين من زفاف وحيدها، وجدت تيريزا البلهاء ميتة تحت شجرة السنديان الهرمة الوحيدة في الحديقة الصغيرة قرب بيتها، تحديداً الغرفة الحقيرة التي عاشت فيها ربع قرن مع ابنها. اختلفت الآراء على وفاة تيريزا البلهاء، منهم من رجّح انها انتحرت، مستحضرين فرويد الى اذهانهم الذي سيعتبر - كما يحلو لهم ان يفسّروا - زواج ابنها نهاية لحياتها من جهة، وتكثيفاً شديداً للحادثة التي صبغت مستقبلها الى الأبد، حين حملت بابنها وهي في الرابعة عشرة، وتنصّل الأب من الاعتراف بأبوته للجنين. واعتقد بعضهم ان تيريزا البلهاء توفيت بسرطان الثدي الذي تعانيه منذ سنوات، وترفض العلاج. اما ابنها الذي بكاها بدموع من نار، فكان يهذي وسط دموعه بأنها توفيت من الحزن، وبأن الحزن حين يزيد عن حد معين يصبح قاتلاً. لم يشيع تيريزا البلهاء الى مثواها الأخير سوى نفر قليل من الناس. اختاها الوحيدتان من دون زوجيهما، اللذين كانا متبرئين من تيريزا الساقطة، ابنها وزوجته، ومالكة الغرفة التي استأجرتها تيريزا لتعيش فيها مع ابنها. التصقت بتيريزا صفة البلهاء مذ كانت في الرابعة عشرة. كانت كبرى اخوتها، ومسؤولة عن العناية بهم لأن امها مضطرة الى العمل من الصباح حتى المساء خادمة في البيوت لتعيلهم، فيما والدها هائم منذ سنوات في مصح للأمراض العقلية. كثيراً ما حلمت تيريزا بزيارة والدها، لكن امها كانت تزجرها كل مرة، تنهاها عن ذكره، فما كان من هذا النهي القاسي إلا ان يزيد اضطرام اشواقها وأفكارها نحو والدها. كان غيابه يجعل حبها له شفافاً ونقياً لا تشوبه كلمات البشر الفظة القاسية، ولا تصرفاتهم الخالية من الرحمة، وكثيراً ما كانت ترنو الى البعيد وتتخيل انها تركض مسافات ومسافات لتلقي بجسدها في حضنه، فيضمّها بقوة الى صدره وتمتزج دموعهما، وهو يعدها انه لن يتركها ابداً... كانت صديقاتها يسخرن منها حين يضبطنها تبتسم وتبرطم بكلمات وحدها، فيقلن لها: المجانين فقط يتحدثون مع انفسهم، لكنها كانت تبتسم ولا تعلّق بكلمة. فهي تحب صديقاتها من كل قلبها حتى لو سخرن منها وتهامسن بأنها بلهاء. ما كانت تفهم فن الكذب، ولا فلسفة الغش، انها تعبّر عن كل ما تحسه بالقول والفعل على الملأ. ما كانت تفهم لماذا يداري الناس سلوكهم، ولماذا يكونون بأقنعة عدة. ذات يوم حين زارتهم جارتهم، أدهشها ترحيب امها الحار، فانبرت تيريزا تقول بسذاجة: أمي، أليست هذه جارتنا التي تقولين عنها بخيلة وثرثارة ولا يهمها سوى اصطياد زوج ثري لابنتها. انقطعت العلاقة بين المرأتين بسبب تيريزا البلهاء، وعلى رغم العتب القاسي الذي تعرضت له تيريزا من أمها، فإنها لم تفهم لماذا اعتبرت مذنبة؟! بقيت على تساؤلاتها الساذجة: لماذا لا يقول الناس كل شيء امام بعضهم؟ لماذا يكذبون؟ وما معنى الكذب؟ فرحت بجسدها اللدن الرشيق، الذي اخذ يتكوّر، ويشع حرارة جديدة، أشبه بتيارات مائية ساخنة تدغدغ جلدها وأحشاءها، كانت تضحك لصورتها في المرآة، وهي تكتشف تلك المشاعر اللذيدة وتتساءل: لماذا لم تشعر بها من قبل؟ كانت تقضي ساعات تتأمل نهديها الشامخين، وتمرر يديها على وركيها وبطنها وفخذيها، منتشية بالتحول الجميل والمدهش في جسدها، كانت مزهوة بتفتح ازهارها، بالثمار اليانعة الشهية التي ترغب في ان يتماوت الناس ليتذوقوها، وكانت تبكي بدموع سخية وهي تسمع اغاني عبدالحليم حافظ الذي احتل احلام يقظتها التي لا تنقطع إلا عند الضرورة. في الثالثة عشرة سقطت تيريزا في شرك الحب، كل الحارة شهدت حبها للشاب الجميل الذي يقود سيارته الفخمة البيضاء، ومن دون ان تتلفت خائفة وأمام العيون المتلصصة من الشقوق والثقوب، كانت تيريزا تركض الى حبيبها، وتجلس الى جانبه في السيارة ليأخذها الى الشقة التي استأجرها لغرامياته. دهشت تيريزا حين انفضت عنها صديقاتها، وصرن يرمقنها باحتقار ويتهامسن حين تمر بجانبهن، كانت تتساءل بدهشة وحزن: لماذا تغيرت نظراتهن؟! ما كان لها ان تفهم ابداً نظرة الاحتقار، فهي لم تختبر هذا الشعور، ومادة روحها النقية غير مؤهبة للإحساس به. اخذ بطن تيريزا يتكوّر، ويزداد حجماً، ادهشها انها غدت بدينة، مع انها لا تأكل زيادة عن عادتها! وبأن تنورتها الوحيدة ما عادت تحيط بخصرها، حتى الشهر الخامس لم تلحظ الأم حمل ابنتها! في الواقع لم تكن تراها، لأنها تعود الى البيت حطام امرأة، متهالكة من التعب، تمسح اولادها بنظرة، تغط في النوم، تاركة صغارها يكبرون برعاية تيريزا البلهاء والعناية الإلهية، وصدقات الجيران. ذات يوم تحلقت صديقات تيريزا حولها وسألنها: تيريزا، ألا تلاحظين ان بطنك يكبر؟ ويتغامزن وينفجرن ضاحكات. فتلمس تيريزا بطنها متعجبة وتقول: اجل انه يكبر. فيسألنها: تيريزا من والد طفلك؟! تحملق تيريزا في وجوههن وتتساءل بدهشة طفولية: طفل، أي طفل! تقول احدى صديقاتها: من تعاشر رجلاً تحمل بطفل. كانت تيريزا تفسر كبر بطنها، بسبب انقطاع الطمث، فالدم يتجمع في الداخل، ويجعل بطنها يكبر، كانت مقتنعة كلياً بهذا التحليل الدقيق لكبر بطنها، ولم تكن تقلق، فذات يوم سيتدفق كل هذا الدم الى الخارج ويعود بطنها الى حجمه الطبيعي. ضربتها أمها بوحشية وهي تسألها: منذ متى تعاشرين هذا الكلب؟ وكانت تيريزا تبكي وترتعش ولا تتفوه بكلمة، استدعت الجلادة القابلة لتكشف على ابنتها، وبعد الفحص رفعت القابلة عينين زائغتين بالدهشة وأدلت بتقريرها: الفتاة حامل في شهرها الخامس، لكنها لا تزال عذراء!! اقتحمت ام تيريزا منزل الشاب الثري وواجهت اسرته بحمل ابنتها، طردت الأم واختفى الشاب عن الانظار. استدانت الأم المنحوسة - كما غدا اسمها في الحارة - المال، وأقامت دعوى على الشاب لتضطره الى الزواج من تيريزا والاعتراف بابنه، لكن الشاب نفى أبوته للطفل، وقال في المحكمة ان تيريزا عاهرة وتعرف الكثير من الرجال غيره، وذكر اسماء خمسة من اصدقائه وأصدقاء والده على انهم عشاق لتيريزا، وأصرّ على استدعاء هؤلاء العشاق وسماع شهاداتهم في تيريزا، عارفاً انهم سيذكرون جميعاً الوحمة البنفسجية في جسد تيريزا. وحين واجه محامي تيريزا المحكمة بتقرير طبي يثبت ان تيريزا لا تزال عذراء، وبشهود من الجيران، يؤكدون ان الفتاة لم تخرج سوى مع الشاب الثري، استمر الأب في نكرانه، وانتهت الدعوى بأن دفع الشاب مبلغاً كبيراً لصاحب السيادة كي يُبرّأ من أبوة الطفل الذي تحمله البلهاء في بطنها. كان على تيريزا ان تعرف دفعة واحدة معنى الألم والتخلي ونبذ الناس لها واحتقارها، الذي أحسته يؤلمها كوخز الإبر. كان عليها ان تعرف دفعة واحدة معنى الوحدة وموت المشاعر البكر الطاهرة التي كانت تدفعها لتأمل جسدها بافتتان وللإرتماء في أحضان الحبيب مكتشفة جسدها في جسده، وسعيدة بأن يكتشف جسده في جسدها. انقضت كل تلك المشاعر الوحشية القاسية على تيريزا، وأحاطتها كدائرة من نار وهي تتمخض معانية آلاماً لا تطاق، بينما لا تسمع كلمة واحدة تواسيها من أمها، او القابلة. فمن يواسي فتاة حملت سفاحاً؟ لكن تيريزا البلهاء غدت أماً بطرفة عين، ولدت انسانة جديدة في اللحظة التي قذف رحمها ابنها. خلال اشهر شاخت الصبية ذات الأربعة عشر عاماً، ماتت شهوتها وتحولت الى جرح سيظل مفتوحاً مدى الحياة، وضاع ذلك الشعور البهي المتوهج الذي لا تعرف ان اسمه الشهوة في غياهب الاهمال، أعطت روحها وكيانها لوحيدها، صار دنياها وعالمها. كانت ترتعد من قسوة النظرات ووحشيتها فتهرب الى دنيا صغيرها، انه الكائن الوحيد الذي يحبها ويقبّلها، ويَقْبلها كما هي، وحده لا يصدق انها زانية. كبر الصغير وكان صورة طبق الأصل عن والده، حاول البعض ممن يحتفظون ببقايا رحمة في قلوبهم ان يصحبوا طفل الزانية الى والده، ليفحموه بالشبه بينهما، لكن الأب استمر في النكران، وتزوج بفتاة من سويته المالية، وأنجب منها ثلاث بنات، لكن حرقة الصبي ظلت تلاحقه، فكان يقول في سره، أيعقل ان انجب ثلاث بنات في الحلال، فيما الصبي لا انجبه إلا في الحرام؟ استطاعت تيريزا البلهاء ان تنتزع شفقة الناس بعد سنوات وليس احترامهم. فالكل يشهد كم أحبت طفلها، ظلت تحمله حتى العاشرة من عمره، كانت تقضي ساعات الى جانبه تتأمله وهو نائم، تغني له اغاني عبدالحليم بصوتها الهامس العذب، وتمسح دموعها الخرساء. ما عادت تتذكر انها انثى. انحفر الرجل في ذاكرتها مدية تطعنها من الخلف، كانت دروس الحياة المبكرة والقاسية جعلتها تفقد ادنى رغبة في المقاومة. كان الاستسلام التام لكل ما جرى معها هو الحل الأكثر رحمة وتحملاً بالنسبة اليها. وقد قاومت بضراوة محاولة الشبان جعلها عشيقة، حتى ان احدهم قال لها غير مصدق انها لا تنوي معاشرة اي رجل: الى متى ستتظاهرين بأنك شريفة، وقد تعودت ان تباعدي بين ساقيك مذ كنت في الثالثة عشرة؟ تعودت تيريزا على ابتلاع الإهانات، واستمرت تقبر الأيام، يوماً بعد يوم، لا يعنيها سوى ابنها، وتمكنت بواسطة جارتهم الوحيدة التي تشفق عليها من الحصول على عمل في مؤسسة لبيع الخضر، وفي اوقات فراغها المستفيضة كانت تيريزا تبدع كنزات صوف رائعة تبيعها وتساعد نفسها على العيش. الصغير غدا كبيراً حين عاين جرح أمه، باحت له وهي ترتعد من شعورها بالعار من يكون والده، سربلهما صمت طويل لم تجرحه كلمات لأيام، كانت تعاني آلاماً لا تطاق، وتخشى ان تفقد احترام الرجل الوحيد في حياتها، لكنه بعد ايام دفن رأسه في صدرها قائلاً: أنت أروع أم في الدنيا. لكم أحبك يا تيريزا الرائعة، اما هو فأكرهه، أنا لا أب لي. كم كانت صادقة حين قالت له: لا تكرهه يا بني، لا تجعل الكره يعكر روحك. كانت تيريزا تعاني اشمئزازاً شديداً حين ترى رجلاً وامرأة يتغازلان على شاشة التلفاز، ظلت اسيرة مشاعر الإثم طوال حياتها، وساعد موقف اخواتها في رسوخ هذه المشاعر، فبعد زواجهن انقطعن كلياً عن زيارتها، فهمت من غير ان تسأل ان ازواجهن يمنعونهن من زيارة الأخت الآثمة التي انجبت من غير زواج. حين بلغ ابن تيريزا السادسة عشرة، فوجئت بعناية زائفة من أمها وجارتهم، ليقنعوها بالزواج من أرمل يعيش في الأردن، أكدتا لها ان هذا الزواج هو الوحيد القادر على اعادة الاعتبار ونفض الغبار عن كرامة تيريزا المعفرة في وحل الإثم منذ سنوات، فالرجل سيسجل ابن الحرام على اسمه، رفضت تيريزا بقوة وقالت أنها لا تطيق الرجال ولا تستطيع ان تقرب رجلاً. لكن الأم والجارة أقنعتاها بأن زواجها سيحول ابنها من ابن حرام الى ابن شرعي وأنها يجب ان تضحي في سبيل ابنها. قبلت تيريزا الزواج من الكهل، وسافرت معه الى عالمه الغريب، منتظرة اللحظة التي سيسجل فيها ابنها على اسمه، لكنه اخذ يتملص، بدا لها واضحاً منذ البداية انه يريدها خادمة، بل عاهرة... لم تستطع تيريزا الاحتمال، هربت منه بعد ان قال لها أنه يستحيل ان يسجل ابن الزانية على اسمه... عادت تيريزا الى غرفتها الضيقة تنشر احزانها على الجدران، واستأنفت حلمها الشاق الوحيد بأن يدخل ابنها كلية الهندسة. وأخيراً ابتسمت، وهي التي نسيت الابتسام، حين حصل ابنها على لقب مهندس، وخطب زميلة له في الجامعة، وترك امه تعيش وحيدة مع ذاكرة شوّهتها الآلام. تحولت تيريزا الى انسانة شبه خرساء، كانت تقضي اياماً لا تنفتح شفتاها عن كلمة، الجملة الأخيرة التي تفوهت بها قبل وفاتها بيومين لجارتها: أحس ان حياتي سراب. القلة الذين شاهدوا جثة تيريزا تحت شجرة السنديان الهرمة، انتابهم إحساس واحد بأنها كانت تحلم، ثمة ابتسامة ترفرف على وجهها، وسرب احلام يطوف حول عينيها. ترى بماذا كانت تحلم تيريزا البلهاء قبل ان تسلم الروح؟! * قاصة سورية