} عادت "قصيدة النثر" الى ساحة السجال النقدي العربي بعدما رسخت معطياتها اللغوية والأسلوبية طوال نصف قرن. وإن كان المعترك الشعري العالمي تخطى مثل هذه القضية معتبراً قصيدة نثر نوعاً شعرياً بامتياز فإن بعض الأصوات العربية ما برحت تصرّ على التشكيك في شعرية هذه القصيدة وفي شعرية شعرائها وبعضهم فازوا بجائزة نوبل العالمية. هنا مقاربة لقصيدة النثر ضمن السجال الدائر راهناً. هل أصبحنا محكومين- في الأعوام الثلاثين الأخيرة- بإعادة إنتاج القضايا القديمة، وما تطرحه من أسئلة، وما قدمته من إجابات؟ لماذا نبدأ - دائماً، أو غالباً - من درجة الصفر في التفكير، كأننا نبدأ الكون، أو يبدأ بنا؟ ولماذا نميل دائماً إلى إصدار الأحكام القاطعة، الجازمة، النهائية، كأننا نملك صكوك الوجود والعدم، الإدانة والبراءة، بلا نقض أو إبرام؟ من أين انتحلنا - أو انتحل بعضنا - هذه السلطة الهائلة، التي تنطوي على وصاية وجودية جبرية، تلغي الآخرين تمامًا، وحقهم في الاختيار؟ وإلى متى سندور في حلقة مفرغة من القضايا الثقافية المفتعلة، التي حسمها "الواقع" الثقافي العربي، بعد أن حُسمت على المستوى الثقافي العالمي بأكثر من مئة عام؟ ولماذا يحول البعض قضايا شعريةً أو نقديةً أو جماليةً إلى قضايا أيديولوجية، وحربية تبرر استخدام الأسلحة في غير ميادينها؟ ما أكثر الأسئلة الغريبة التي تثيرها المقالات الأخيرة للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي حول "قصيدة النثر"، المنشورة في جريدة الأهرام القاهرية. فليست القضية أن الرجل إنما يدافع عن لحظته الشعرية "الذهبية"، في مواجهة الانتشار الساحق لقصيدة النثر عربياً، بعد أن كف عن كتابة الشعر" كما أنها ليست قضية نكوصه - في ما بعد سن الستين - عن مواقفه في العشرينيات من عمره، بشأن "التجديد" الشعري، واستخدامه حالياً الأسلحة نفسها التي وجهت ضده في بداية صعوده الشعري، في الخمسينات. تلك قضايا هامشية قد نعود إليها أو لا نعود. لكن القضية - فيما قد لا يعي صاحبها- أعمق من ذلك. هي - ابتداءً - قضية محاولة تثبيت الزمن عند لحظة معينة، لحظة "ذهبية"، تمثل جوهر الزمن ومطلقه. وهي - دائماً - لحظة ماضية، مثالية، تمثل استعادتها حلماً أثيراً، سوف يصلح الحاضر الفاسد. وهي- في ذلك - لحظة مطلقة، غير تاريخية، بما هي صالحة في الذهن والخيال لإعادة إنتاجها، أو ولادتها. فما تحقق خلالها لا يرتبط بشروط إنسانية تاريخية معينة، لكنه ينفلت من كل شرط وجودي، باعتباره - في ذاته - "صالحاً لكل زمان ومكان". هنا، يصبح الماضي الذهبي دائماً المثال الأعلى للحاضر. وتصبح مدى صلاحية الحاضر مرهونةً بتطابقه مع ذلك الماضي المُتَخيَّل، أو محاكاته أو تمثيله وإعادة تقديمه. وعلى النقيض، يصبح فساده مرهوناً بابتعاده من النموذج الماضي نموذج مثالي بالمعنى الفلسفي، لا تشوبه - في الذهن والخيال - شائبة، كأنه ليس من صنع البشر، وإنكاره له أو التناقض معه، أو تجاوزه. فهذا الماضي هو ذروة الوجود الإنساني، وكل ابتعاد منه - في الزمن - سقوط متفاوت الدرجة في الفساد والعدم. والحل الواجب - في هذه الحال، لنفي أثر الزمن - يكمن في السعي الدائب لإعادة إنتاج هذا الماضي" السعي لجعل الحاضر ماضياً، أو السعي لإحلال الماضي في الحاضر. فالزمن - وتحولاته - العدو الأكبر الذي يهدد المتحقق القديم ويزيل نضارته وسحره، ويكشفه عارياً من الأقنعة كهيكل عظمي أو أطلال. فإذا كان الزمن يتحرك إلى أمام، فينبغي أن تكون الحركة المضادة - لنفي أثره الفادح - إلى وراء، أو استقدام الوراء إلى أمام، لتتعادل الحركتان المتضادتان، وينتفي أثر الزمن. وعلى النحو نفسه تقريباً، تتشكل العلاقة بين الماضي والمستقبل. فالمستقبل - وفقاً لهذا النهج - ينبغي أن يكون تمثيلاً للماضي" فمستقبل الإنسان لا يقع في الأمام، بل في الوراء. والمستقبل محكوم - سلفاً - بالفساد إن لم يكن تكراراً للماضي أو إعادة تحقق له. فذروة الوجود الإنساني قد تحققت مرةً واحدةً إلى الأبد" تلك المرة التي تقع في الماضي البعيد أو الوسيط أو القريب، لا يهم" ولا سبيل إلى تجاوزها أو استعادتها إلا باستعادة ذلك الماضي أو تثبيت الزمن أو إعادته إلى تلك اللحظة الذهبية الغابرة. الماضي إذاً هو جوهر الزمن الإنساني، وقيمته العليا" ومستودع القيم المثالية والإجابات الصائبة في جميع المجالات، ومعيار كل وجود. وبما هو كذلك، فهو صالح دائماً للتكرار والاستعادة والاستمرارية لمصلحة الوجود الإنساني!. وما الحاضر إلا انحدار وانحراف وتشوه يزداد فداحةً بمقدار تباعده عن ذلك الماضي الجوهري" فيما المستقبل مرهون بمدى نجاحه باستعادة الماضي أو تكراره. لا قيمة - إذاً - سوى لذلك الماضي المطلق" ذلك الزمن الجوهري، وجوهر الزمن. وذلك نهج يشكل أساس حركات سياسية وأدبية ودينية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية" يجمعها جميعاً - منهجيّاً - على أرضية نظرية واحدة، فيما قد تبدو المظاهر الخارجية لها - وشعاراتها المرفوعة الصاخبة - متعارضةً، متضاربة، متناقضة، كأزياء ملونة أو أقنعة فانتازية متفاوتة. فلا فارق - جوهرياً- بين حركة أدبية ماضوية تنفي ما سواها وحركة دينية إرهابية تقتل من تعتبرهم خصومها الدينيين أو السياسيين" إذ يشتركان في المنطلق الماضي والنهج السلوكي النفي والإلغاء، على رغم ما قد يرفعه أصحاب الحركة الأدبية من شعارات معارضة لتلك الحركة الدينية الإرهابية هي - في هذه الحال - مجرد شعارات لفظية، بلاغية، سطحية، لا تفيد إلا في التستر على الجوهر النظري المنهجي المشترك بينهما" فمن ذا الذي ينطلي عليه ذلك؟. والمؤكد أن مثل هذا المنهج إنما يستشري في لحظات انسداد الأفق أمام تلك الحركات والتيارات أو ممثليها ورموزها، وشعورهم بالاغتراب والإهدار في الحاضر، نتيجة استنفاد دورهم التاريخي، وانتهاء عطائهم الفاعل الذي دفع بهم إلى دائرة الضوء، وصعود قوى أخرى إلى منصة الفعل والتأثير الحيوي" قوى تمثل نفياً لهم وتهديداً بإزاحتهم النهائية إلى الظل الأخير الذي يشبه ظل الموت الفعلي أو المجازي. ولا يكون ثمة مفر من الاعتصام بتلك اللحظة "الماضية" التي شهدت التحقق الأعلى لهم أو لأفكارهم، ومثلت "عصراً ذهبيّاً" كان ينبغي أن يمتد إلى الأبد، فلم ينعموا به طويلاً. هي الانتفاضة الأخيرة في مواجهة العدم، واليقين في التنحي إلى الظل الأخير، بما يدفع إلى التشبث بالأسلحة التقليدية السائدة في تراثنا الثقافي والسياسي: نفي الآخر من أجل إثبات الذات، أو إثبات الذات من خلال نفي الآخر. هو الوجود على جثة الآخرين بما هي معركة حياة أو موت!، حين يصبح وجود الآخرين نفياً للذات. الذات في مواجهة الآخرين هي - إذاً - المعادلة الحدية، التي لا سبيل لحلها سوى بنفي أحد طرفيها، أو إلغائه، بقتله المعنوي الثقافي. فالأرض لا تتسع لأطراف متعددة، متجادلة، متحاورة، متناقضة" فالتعدد، والتناقض، تهديد للذات بما هي ذات هشة واهية، لا تصمد أمام سؤال أو علامة استفهام، ومخاطرة بأن تفقد الأرض التي تقف عليها في اطمئنان وسكينة أم أنها سكونية؟. والتبريرات ليست مشكلةً صعبة" فتراثنا الثقافي والسياسي يعج بها. فما أسهل الاتهام ب"الكفر والمروق" دينيّاً، أو "تهديد الوحدة الوطنية" سياسيّا، أو "خدش الحياء العام" أخلاقيّاً، أو.. أو.. وما أسهل اختراع حيثيات لهذا الاتهام أو ذاك، وصوغها - بلاغيّاً - بما يوهم بصدقها وحقيقيتها. حيثيات مستمدة - غالباً - من مصادر قديمة غابرة، وتصورات ذاتية تتحول- بقدرة قادر - حقائق مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها بل من خلفها، وأنصاف حقائق نسبية يتم تعميمها بجرأة فادحة، وأحكاماً عامة لا تصمد أمام نقاش شبه جدي، وتأملات وخواطر بدائية يُضفَى عليها سمت الحكمة لتصبح معايير فاصلة، واقتباسات مغلوطة من مراجع مجهولة ذات أسماء توحي بالوقار. وبها، يتم إهدار من يهددون وجود الذات على نحوٍ أو آخر، وإزاحتهم - ذهنيّاً، على الأقل - من دائرة التهديد الفعلي أو المتخيل. والذات - في هذه العملية - هي مركز العالم، بدؤه ومنتهاه، مرجعه ومختتمه. هي مالكة الصكوك ومانحتها، فارضة الوصاية والحماية، سيدة القضية وصوت الادعاء والقاضي، الحكَم والجلاد، في آن. ولا مرجع خارجها حال من الاكتفاء الذاتي النادرة، والفريدة" فهل يقدم لها الخارج سوى التهديد والعدم؟. لا تعرف - إذاً - الأسئلة والتساؤلات، والشكوك وعلامات الاستفهام والاحتمال. فقد حازت المعرفة الكلية الأخيرة، السابقة والراهنة واللاحقة، ما كان ويكون وسيكون" تلك المعرفة المكتملة في ذاتها، المحيطة بكل حقائق الكون، المستوعبة لجميع دقائق الوجود. ولهذا، فقد أعطت لنفسها - أو انتحلت - الحق في إصدار الأحكام الجازمة المطلقة، بلا نقض لأحكامها النهائية القاطعة" كأنها القضاء والقدر.