ما برح كتاب الناقدة الفرنسية سوزان برنار "قصيدة النثر: من بودلير حتى الوقت الراهن" بعد مضيّ قرابة أربعين عاماً على صدوره حاضراً بشدّة كمرجع أساسي لقراءة قصيدة النثر في أبرز مراحلها التاريخية ومواصفاتها وتجلياتها. وما زال الكتاب يستقطب النقاد والشعراء على السواء، فرنسيين كانوا أم غير فرنسيين فهو يختصر في صفحاته الثماني مئة تاريخ هذه القصيدة والحقبات التي اجتازتها منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى ما بعد السوريالية وكذلك الشروط والمقاييس والنظريات التي استخلصتها الناقدة انطلاقاً من قصائد الشعراء وقد شكّلت المراجع الثابتة في هذا الحقل. وإذا كان السجال حول قصيدة النثر قد انحسر في فرنسا وأوروبا وسواهما قبل عقود فأنّ كتاب الناقدة سوزان برنار ظلّ محافظاً على وهجه النقديّ وفتنته ليس في تناوله قضية قصيدة النثر فحسب وإنّما قضايا الحداثة الشعريّة التي انطلقت فرنسياً عبر تجربة بودلير الشاعر العالمي الرائد. ومن الثابت تاريخيّاً أنّ تسمية "قصيدة النثر" تعود اليه أصلاً وقد أطلقها على مقطوعات نثرية نشرها عام 1861 في إحدى المجلاّت الفرنسيّة. وإن تجاوز النقد الفرنسي والعالميّ منهج سوزان برنار في كتابها الشهير عبر تخطّي مسألة قصيدة النثر التي غابت عن المعترك النقدي خلال الستينات والسبعينات وهي المرحلة التي شهدت الثورة النقدية الحديثة فأنّ الكتاب في ترجمته العربية الكاملة* يتخطّى تاريخيّته وسنواته الأربعين ويغدو راهناً بل حديثاً ومعاصراً. فالمسائل التي طرحها كردود غير مباشرة على أسئلة "قصيدة النثر" ما برحت تعني وتشغل النقاد والشعراء العرب الذين خاضوا مضمار هذه القصيدة بل هم ما زالوا يجدون في هذه المسائل أو الردود خلفية نقدية ونظريّة لا بدّ من العودة اليها لترسيخ أبعاد قصيدة النثر ولو بعد مضيّ زهاء أربعة عقود على انطلاقتها العربية. فالقصيدة هذه تواجه عربياً بعض الحملات "المغرضة" التي يشنها الشعراء والنقاد المحافظون و"التقليديون" وهي تذكّر قليلاً بما واجهته في مرحلة الستينات. وينبغي الاعتراف أن هذه القصيدة لا تزال حقلاً "اختبارياً" مشرعاً أمام كلّ المحاولات الأصيلة وغير الأصيلة، الحقيقية والزائفة. وان اعترف الناقد الفرنسي ميشال ساندراس أنّ "قصيدة النثر" تثير في فرنسا اليوم قدْراً من الالتباس أو "الأِشكال" على الرغم من انحسار السجال حولها فليس من المستغرب أبداً أن تظلّ قصيدة النثر العربية مثاراً لبعض الالتباس وبعض "الإشكال" وخصوصاً بعدما تحرّرت من معظم المقاييس والمعايير المفترضة أساساً. ولعل الالتباس والإشكال هذين ناجمان عن كون هذه القصيدة قائمة كما تعبّر الناقدة الفرنسية على نزعتين متناقضتين: نزعة الهدم والفوضى ونزعة البناء والتنظيم. كان كتاب سوزان برنار حاضراً عربياً وغائباً في الحين عينه كما يفترض الشاعر المصري رفعت سلاّم في تقديمه الترجمة العربية التي أنجزتها زوجته راوية صادق وراجعها هو وساهم في صوغها وسبكها عربياً على ما بدا. فالكتاب ظل "هاجساً" في أذهان شعراء الحداثة العربية من كونه مرجعاً رئيساً من مراجع الحداثة عموماً وقصيدة النثر خصوصاً. ويمضي سلاّم في تبجيل الكتاب حتى اعتباره حرفياً ب"المهدي المنتظر". وفي رأيه أنّ الذين اطلعوا عليه بالفرنسية "آحاد" وراح كلّ منهم يوظفه لقضيّته الشعرية أو النقدية أو العقائدية في حين قرأ عنه الكثيرون من دون أن يقرأوه وقرأوا بعض نظريّاته من خلال أدونيس وأنسي الحاج. وإن كان صدور الترجمة العربية للكتاب أشبه بالحدث الثقافي أو الشعريّ فأنّ الشاعر سلاّم لن يتوانى عن ترسيخ هذا "الحدث" مصريّاً. فالكتاب الذي كانت القاهرة سبّاقة الى ترجمته وإصداره بدا كأنّه يدعم قصيدة النثر المصرية ولو متأخراً أو ينصر شعراءها ضدّ شعراء التفعلية وفي طليعتهم أحمد عبدالمعطي حجازي الذي يصرّ على أن قصيدة النثر "شعر ناقص". لكنّ سلامّ يعمد أيضاً الى تبيان الأثر النظري والنقدي الذي تركه الكتاب في الشاعرين أدونيس وأنسي الحاج قبل أن ينصرف الى قصيدة النثر المصريّة منتقماً لها انطلاقاً من إنجاز سوزان برنار التاريخي. يتوقّف سلاّم إذن عند مقالة أدونيس الشهيرة في مجلّة "شعر" العدد 14، 1960 وعنوانها "في قصيدة النثر" وعند المقدّمة التي كتبها أنسي الحاج لمجموعته الأولى "لن" وكانت صدرت في العام 1960 أيضاً معتبراً أنّ المقالة والمقدمة هاتين سوف تكونان "مصدراً" لما راج في العالم العربيّ من أفكار عن قصيدة النثر. وخارج هذين "النصّين" المنطلقين من بعض ثوابت سوزان برنار سيظل كتاب الأخيرة مجهولاً بل "إسماً بلا جسد". وأعتقد أنّ سلاّم ظلم أدونيس حين تحدّث في المقدّمة عن "تأميمه" طوال عشرين عاماً مصطلحات سوزان برنار حول الشعر كالكشف والرؤيا والعرافة والهدم والنبوءة... وعن جعلها مرتكزات لتجربته وخطابه. فأدونيس الذي كان أوّل مَن تناول هذه القضيّة نظرياً انطلاقاً من الكتاب نفسه وكان مرّ على صدوره عام، لم يكن ليكتفي حينذاك بما منحه إياه كتاب برنار فهو كان قرأ الشعراء الذين قرأتهم برنار بدورها وانطلقت منهم وتأثر ببعض نظرياتهم التي لم تكن إلا نظريات الحداثة الشعريّة نفسها. وفي تلك المرحلة كان شعراء مجلّة "شعر" يدأبون على مواكبة الحركة الشعرية العالمية ليدعموا ثورتهم ثقافياً ونظريّاً وعمدوا الى ترجمة شعراء كثيرين ترسيخاً للحركة التجديدية التي قاموا بها. وإن كان أدونيس اعتمد بعض نظريات برنار ليمهّد الطريق أمام "قصيدة النثر" فأنّ أنسي الحاج اعتمد النظريات نفسها تقريباً ليجذّر قصيدته "الملعونة" التي تنتمي الى عمل "شاعر ملعون" بل الى سلالة من الشعراء الملعونين و"المصابين" الذين خلقوا الشعر الجديد. وفي حين كتب أدونيس عن قصيدة النثر من موقع الناقد والمنظّر والشاعر الذي لم يتخلّ ولن يتخلّى عن النظام التفعيليّ نهائياً كتب أنسي الحاج عن قصيدة النثر من موقع الشاعر "المصاب" بلعنتها والمحموم بها والمنحاز اليها انحيازاً أعمى صارخاً ملء صوته: "الهدم، الهدم، الهدم" ولكن مدركاً في الحين نفسه أنّ الهدم يقابله بناء وأن "الدفعة الفوضوية الهدّامة" تناهضها "قوّة تنظيم". قصيدة النثر المصرية كان على رفعت سلاّم إذن أن يجعل من ترجمة كتاب سوزان برنار الى العربية فرصة ملائمة للعودة الى قصيدة النثر المصريّة والى ما عانى شعراؤها طوال عقدين وللانتقام من أعدائها الذين عاشوا خارج العصر والتحوّلات التي شهدها. فقصيدة النثر واجهت ما يسمّيه "منطق الحذف والاستبعاد" بدءاً من الستينات ولم يكن حتى من مواجهة لا للفكرة ولا للقصيدة نفسها. وقد ساد المنابر الأدبية حينذاك "تواطؤ سرّي" غايته أن يتجاهل القصيدة ويتناساها كما لو أنّها غير موجودة. أمّا أول ديوان حقق معجزة "قصيدة النثر" فكان للشاعر "التقدّمي" عزّت عامر وصدر في العام 1971 تحت عنوان غريب هو: "مدخل الى الحدائق الطاغورية" وبدا للحين منقطعاً عن "الإنشاد" التقدّمي الحماسي والتحريضي الذي كان يسود الشعر الملتزم وكذلك عن المتن الشعري العام. كان الديوان أيضاً كما يعبّر سلاّم "اختراقاً للحصار التفعيليّ المضروب على قصيدة النثر". لكنّ الديوان ظلّ شبه نكرة فلا التقدّميون الذين أصدروه تبنّوا قضيّته ولا شعراء التفعيلة ونقادها اعترفوا به وكانوا هم يسيطرون على حركة النشر وعلى المنابر المختلفة من مجلات وجرائد. ظلّت قصيدة النثر "القضية الغائبة" و"الصنيع" شبه الممنوع وشبه المضطهد و"العمل" الخارج على النظام والمؤسسة. ولم ينثنِ البعض عن اتهامها ب"العمالة" تماماً مثلما اتهم البعض شعراء مجلّة "شعر" من قبل. غير أنّ ديوانين آخرين ساهما في معركة "قصيدة النثر" هما: "كتاب حرف الحاء" لبدر الديب و"موقف العشق والهوان وطيور البحر" لإبراهيم شكر الله. وقد انضم الشاعران الى "المغامرة الذهنية والخيالية" التي كانت شهدتها الأربعينات مع جماعة "الخبز والحرية" ومجلّة "التطوّر" والحركة السوريالية المصرية التي كان من روّادها: لويس عوض، بشر فارس، رمسيس يونان وأنور كامل ولا أدري لماذا أسقط رفعت سلام اسم الشاعر المصري الكبير جورج حنين وإن كان فرنكوفونياً. إلا أنّ القصائد النثرية التي كتبها بدر الديب في الاربعينات ونشر بعضها في مجلّة "البشير" انتظرت قرابة أربعين عاماً لتصدر في كتاب وتحديداً عام 1988، وقد حمل الديوان عبارة "قصيدة نثر" بعدما سقطت عنها صفتها السلبية ك"وصمة عار" أدبية. أمّا الديوان الثاني فنُشر متأخراً عشرين عاماً وانتمى صاحبه الى حركة مجلّة "شعر" وصمت بعدما غابت المجلّة. إلا أنّ مجلّة "إضاءة - 77" التي انطلقت في القاهرة عام 1977 متمرّدة على "المؤسسات والأجهزة" كما يقول سلاّم ستكون ثورة الجيل الشعري الجديد على اللغة "ذات البعد الواحد" وعلى "الشمولية الإبداعية" وعلى الإنشاد المنبريّ وعلى انتحال الشعر صفة النبوءة والعرافة والتحريض والزعامة... وستكون أيضاً ثورة الجيل الجديد على قصيدة التفعيلة بل على "المعيار التفعيلي" وعلى القولبة وعلى النماذج السالفة والنمذجة... "جيل كامل" صعد ووضع "الرواد" بين قوسين كما يعبّر سلاّم ووضع قصيدتهم في "قفص المحاكمة" وكذلك "النسق الشعري" وليس "التفعيلة" وحدها وهي كانت أضحت أقرب الى "الوثن" الذي حلّ محلّ "وثن" العروض. وكان لا بدّ أن تُكال لحركة قصيدة النثر تهم عدّة منها إفساد اللغة والخروج على التراث والانسياق وراء نزعات مستوردة والغموض وسواها. وانتهت التهم في طرد شعراء هذه القصيدة من مملكة الشعر الى النثر وفي اعتبار القصيدة "شعراً ناقصاً" على زعم أحمد عبدالمعطي حجازي. ويعترف سلاّم أن "قصيدة النثر" لم تكن مشروع شعراء السبعينات مقدار ما كانت أحد مظاهر مشروعهم "المضاد للإنشادية والنمطية وإعادة الإنتاج". فما من مفاضلة بين "التفعيليّ" و"النثري" كنوعين مجرّدين ومطلقين وهذا ما قال به أدونيس سابقاً في مقالته و"النثري" كنوعين مجرّدين ومطلقين. وهذا ما قال به أدونيس سابقاً في مقالته الأولى عن "قصيدة النثر". ولعلّ السعي الى التحرّر من "القبلي" و"التقليدي" و"المحرّم" هو ما أفضى بالشعراء الى "قصيدة النثر" وسواها التي كانت حينذاك "أحد المحرّمات الإبداعية في الشعرية المصرية". وعبر نتاج الجيل الجديد أصبحت قصيدة النثر "أمراً واقعاً في الشعر المصريّ وركناً أساسياً من الواقع الشعري لا يقبل الوأد أو النفي". ولن يتطرّق رفعت سلاّم الى الأجيال التالية التي تبنّت قصيدة النثر من دون أن تخوض ما خاضه الشعراء من قبل، وقد وجدت معظم المنابر مفتوحة أمامها والفرص متاحة للمضيّ في التجريب والبحث بحرّية مطلقة. وإن بدا من حقّ رفعت سلاّم كشاعر من شعراء السبعينات أن ينتهز صدور ترجمة الكتاب ليفتح ملفّ قصيدة النثر في مصر فأنّ قضيّة هذه القصيدة تتخطى اليوم جغرافيتها العربية والتاريخ المضني الذي اجتازته لتطرح نفسها كقضية شائكة تحتاج فعلاً الى أن يعاد النظر فيها أوّلاً وفي النتاج الهائل الذي يحمل شعارها. ومثلما عرف النتاج العمودي والتفعيلي تراكمات وظواهر غير شعريّة تشهد قصيدة النثر حالياً تراكمات مماثلة وظوهر غير شعرية. فالحريّة يجب ألا تعني الفوضى، والتحرّرُ من الشروط والمقاييس الجاهزة ينبغي ألا يعني إغراقاً في الضحالة واستسهالاً للصنيع الشعريّ. شروط ومقاييس لعلّ بعض الشروط أو المقاييس التي "استنّتها" سوزان برنار لترسّخ بنية قصيدة النثر ومواصفاتها لم تعد اليوم قائمة أو مفترضة ولا سيّما بعد الثورة الشكليّة التي حصلت في السبعينات. ومن هذه الشروط والمقاييس وقد اعتمدها أدونيس وأنسي الحاج في نصّيهما: الاقتضاب، الكثافة أو التوهّج كما يعبّر الحاج، المجانية، الهدم والبناء معاً، الوحدة العضوية وسواها. وإذا كان من الممكن اعتماد الاقتضاب والكثافة كعنصرين من عناصر القصيدة فأنّ المجانية لم تبق مؤاتية لا شعريّاً ولا نظرياً. العنصران الأوّلان قد يفضيان الى ما يُسمى وحدة القصيدة أو كلّيتها وقد لا يفضيان اليهما أما المجانية فتفترض أنّ على قصيدة النثر ألا تحتوي أيّ مراجع لأيّ حالات أو ظروف خارجية كالأماكن مثلاً أو التواريخ ولا أي عناصر "بيوغرافية" ذكريات.... ينبغي على القصيدة أن تنشغل بنفسها كما يعبّر ماكس جاكوب قائلاً: "ليس من شغل في القصيدة إلا القصيدة نفسها". وهكذا عزلت مقولة "المجانية" بحسب برنار العناصر "الملوّثة" عن قصيدة النثر لأنّها تؤلّف نماذج أخرى مستقلّة: كالسرد المفصّل والوصف والنثر الغنائي. وقد فات الناقدة الفرنسية أنّ قصيدة النثر هي أوّلاً وآخراً شكل "بلاستيكي" أو تشكيلي وفضاء قادر على استيعاب أشكال أدبية عدّة. وهذا ما حققته قصيدة النثر لاحقاً في الستينات والسبعينات في فرنسا وفي السبعينات والثمانينات عربياً. لم تبق قصيدة النثر وقفاً على الشروط التي افترضتها برنار فهي ما لبثت أن ثارت عليها لتستحيل من "قصيدة" نثر الى "شعر" نثر. وأضحت القصائد النثرية مشرعة على الشعري واللاشعري، على السرد والوصف، على التفاصيل واليوميات، على الواقع والحلم، على العالم والماوراء... أمّا في أوروبا وفي فرنسا خصوصاً فقد تخطّت مثلاً جماعة "تل كل"1 مسألة قصيدة النثر ودعا أحد شعرائها الى تبنّي مقولة لوتريامون الشهيرة: "يجب على الشعر أن يكتبه الجميع". أما غاية الشعر فأضحت "الحقيقة الواقعية". وكان شعراء مثل رينه شار وهنري ميشو وبول ايلوار وايف بونفوا وأندريه دي بوشه تخطّوا قضية هذه القصيدة نحو قضايا أشدّ جوهريّة وعمقاً. فالقضية هي قضية الشعر وليست قضية القصيدة فحسب. والقصيدة قصيدة سواء أكانت موزونة أم نثراً. وكان برز كذلك ما سمّاه الناقد الفرنسي جان ايف تادييه "النص السرديّ الشعري" أو "الحكاية الشعرية" وهو كما يعبّر "شكل يستعير من القصيدة طرائق فعلها وآثارها". هذا النص هو "ظاهرة تحوّل بين الرواية والقصيدة". وقد بدا فعلاً سليل قصيدة النثر والرواية في حين واحد. أما الكتابة "المقّطعة"2 التي راجت في السبعينات جامعة بين اللحظات الثلاث: الشعرية والسردية والتأملية فلم تكن بدورها غريبة عن "قصيدة النثر" والثورة التي أحدثتها في فرنسا مع بودلير ورامبو ومالارميه. لكنّ قصيدة النثر لن تشهد ذروة تحوّلها أو تطوّرها إلا في "النصّ المفتوح" المتحرّر من شروط القصيدة والسرد والوصف والمغرق في شعريته ونثريّته في الحين نفسه. وهو ما فضّل أن يسمّيه أمبرتو إيكو "الأثر المفتوح" مبتعداً في نظريته الجديدة عن المفاهيم القديمة بل معيداً إحياء بعض المقولات السابقة. فالأثر المفتوح في نظره هو "الكتاب الذي لا يبدأ ولا ينتهي: بل يتظاهر بذلك". وهو أيضاً "النصّ المتحرك" و"الشكل الفنّي الجديد الذي يبقى في حال من التطوّر الكلّي". لقد تحرّرت قصيدة النثر إذن من شروطها ومن المقاييس التي رُسمت لها انطلاقاً من القصائد نفسها وأصبحت فعل حريّة. فهي بحسب الناقد الفرنسي جان لوي جوبير "الشكل الشعري الذي يرفض الوزن ويُفلت من النثر". لكنّ رفض الوزن التقليدي والإفلات من النثر لن يعنيا السقوط في الفوضى والأسفاف والركاكة. فالتخريب كما يقول الحاج في مقدّمته "حيوي ومقدّس". والهدم هو الوجه الآخر للبناء. غير أنّ السعي الى تجميد قصيدة النثر في معايير ثابتة ونهائية هو سعي الى تجريدها من روحها وجوهرها والى قتلها تالياً. فقصيدة النثر هي قصيدة التحوّل لا الثبات. قصيدة الحركة لا الجمود. وليس لها كما يعبّر الحاج "قانون أبدي". فهي تخلق قوانينها باستمرار منفتحة على حركة الزمن الذي لا يتوقّف تماماً كالنهر الذي تحدّث عنه هيراقليط. وليس التطوّر الهائل الذي شهدته هذه القصيدة في أوروبا وأميركا وفي العالم العربي إلا خير دليل على تحرّرها الدائم من ربقة الشروط الجاهزة وأسر النوع. يظلّ كتاب سوزان برنار مرجعاً رئيساً لقصيدة النثر مهما أوغل في تاريخيته ومهما تخطّته المناهج النقدية الحديثة ولا سيّما البنيويّة. فهو كما وصفه الناقد الفرنسي تودوروف "تاريخ مدهش" و"موسوعة" وقد عاد اليه - هو الناقد البنيوي - في تناوله قصيدة النثر أو ما سمّاه "الشعر من دون الوزن". ولئن غابت سوزان برنار عن المعترك النقدي بعد كتابها الشهير هذا مفسحة المجال أمام النقاد الجدد والحديثين من أمثال جورج مونان ورولان بارت وجوليا كريستيفا وريفاتير وجان بيار ريشار، فهي ظلّت حاضرة عبره بل عبر قراءتها التاريخية والبانورامية لظاهرة قصيدة النثر في تجلّياتها المتوالية. وتوقّفها عند مرحلة ما بعد السريالية لا يعني أنّها أغلقت الباب على التجارب الحديثة مكتفية بالأسماء التي درستها بدءاً من بودلير ورامبو ومالارميه وانتهاء بسان جون بيرس. وأعتقد أنّ فرادة كتاب برنار لا تكمن فقط في تناوله تاريخ قصيدة النثر وشروطها ومواصفاتها التركيبيّة والبنيويّة وإنّما أيضاً في تبحّره في عوالم الشعراء وفي لغاتهم وفي إضاءة نواحي من تجاربهم. فما كتبته الناقدة عن بودلير أو مالارميه أو سان جون بيرس وسواهم يتخطى حدود الصنيع النثريّ ويصبّ في أعماقهم ورؤاهم ودعواتهم الشعريّة الصرفة. ويمكن العودة الى الكتاب كمرجع نقدي "حداثي" وليس في سياق قصيدة النثر فقط. فالشعر كما تقول برنار "أزلي ولكنّ الوجوه التي يمنحنا إيّاها مختلفة دائماً". ولعلّ تركيزها على العلاقة بين قصيدة النثر وما تسمّيه "طموحاً ميتافيزيقياً" يدلّ بوضوح على أنّ غايتها أبعد من أن تُحدّ في الطابع الفني والبنيويّ واللغويّ الذي تميّزت به هذه القصيدة. ومَن يعيد قراءة الكتاب في ترجمته العربية يخالجه شعور أنّه يقرأ كتاباً آخر وربّما جديداً. فالصيغة التي أنجزتها المترجمة راوية صادق والتي عمل عليها الشاعر رفعت سلام متقنة ومتينة وأمينة كثيراً على النصّ الأصليّ حتّى وإن كانت شبه حرفية في أحيان قليلة وقليلة جداً3. لقد استطاعت المترجمة والشاعر أن يؤسسا نصّاً عربياً انطلاقاً من النصّ الفرنسيّ وأن يجدا المعادلات اللغوية والمصطلحات النقدية والتراكيب التي تلائم الأصل. وحافظا على الهوامش التي يصعب فعلاً نقلها الى العربية ولم يحذفا - على ما بدا - أيّ جمل أو مقاطع مثلما يفعل البعض. ولعلّ تدخّل الشاعر رفعت سلاّم في صوغ النص ونسجه أضفى عليه طابع المتانة والسلاسة. وان كان صدر سابقاً جزء من كتاب سوزان برنار بالعربية في بغداد عام 1993 خالياً من الهوامش والشروح فهو بدا عملاً مجتزأ وغير أمين على الكتاب وعلى غاية الكاتبة منه. وقد فضحت الترجمة الجديدة والكاملة تلك المحاولة الضئيلة التي لم يُكتب لها أن تبقى. * صدر الجزء الأول من الكتاب عن دار شرقيات القاهرة 1999 في 428 صفحة ويصدر قريباً الجزء الثاني. 1 جماعة Tel Quel ضمّت فيليب سولرز، مارسولان بلينيه وسواهما... 2 Ecriture Fragmentaire 3 مثلاً ترجمة كلمة Objet الى "شيء" وهي موضوع وكلمة Sujet الى موضوع وهي ذات في الفصل المتعلّق بالشاعر بودلير وفي سياق الكلام عن "السحر الإيحائي الذي يحتوي الموضوع والذات، العالم الخارجي والعالم الداخلي" وترد كلمة "شيء" في معنى "Chose".