بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي سيطر مصطلح "ما بعد الحرب الباردة" على خطاب السياسة الدولية. لكن هذه "المابعدية" ظلت وصفاً غامضاً اقرب لحال الانتظار منه الى وصف معالم مرحلة جديدة، خصوصاً ان المرحلة التي توقع البعض بروزها سريعاً هي مرحلة سيادة القانون الدولي وتعاظم دور أكبر للأمم المتحدة و"دمقرطة" السياسة الدولية كما عبر عن ذلك المشروع الطموح "أجندة للسلام" لبطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة الذي أعلنه عام 1992. والآن ومع اعلان الرئيس الأميركي جورج بوش قبل أيام ان بلاده سوف تمضي في مشروع الدرع المضادة للصواريخ أياً كانت الاعتراضات يبدو ان مرحلة "المابعدية" تلك انتهت رسمياً وان مرحلة جديدة آخذة في البروز بوضوح تكرر شكلاً من أشكال الحرب الباردة الكلاسيكية. ونظام الدرع المضادة للصواريخ يقوم على نصب شبكة دفاع توفر الحماية للأراضي الأميركية ضد صواريخ "محتملة" قد تطلق ضدها من أراض الدول التي تسميها الولاياتالمتحدة "دولاً مارقة"، وهي ايران، العراق، كوريا الشمالية، ليبيا، وكوبا. والمرحلة الجديدة التي لا تزيد عن ان تكون "حرباً باردة جديدة" تنطوي على عناصر شبيهة بعناصر تلك القديمة، مع اختلاف في توزيع اللاعبين الكبار والقوى المشتركة في هذه الحرب. الحرب الباردة القديمة قامت على مفهوم الردع الاستراتيجي، إذ ان الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة كانا يعلمان بقدرة الطرف الآخر على توجيه ضربة أو ضربات مدمرة له في حال بادر بالاعتداء من طرفه. الحرب الباردة الجديدة تقوم على مفهوم الدفاع الاستراتيجي، الذي هو في جوهر الفكرة الأميركية في بناء درع دفاع صاروخي، أي بناء مظلات دفاع أرض جو، وبحر جو، بل وجو جو في مراحل متقدمة، تمنع صواريخ الخصوم من الوصول الى البلد المعني، لكن في الوقت نفسه تحافظ على القوة الهجومية في أقصى مدياتها حتى تطاول الخصوم وتؤثر فيهم بقسوة. وتبرر الادارة الأميركية تبنيها لهذا النظام بأنه انتقال "أخلاقي" من مرحلة تهديد الخصم بالهجوم المدمر على بلاده الى مرحلة الانكفاء والدفاع عن الذات في حال قام الخصم بالاعتداء. ولكن "أخلاقية" هذا الانتقال سرعان ما تنكشف هشاشتها عند اختبار المنعكسات المهمة على مستوى العالم لمثل هذا النظام وآلية اعتماده الاحادية والضاربة في عرض الحائط بكل ما قد يقود اليه على مستوى عالمي. يؤكد القرار الأميركي أولاً على ان واشنطن لا تلقي بالاً لكل النقد الدولي الذي وجه لاستراتيجيتها الجديدة التي تعيد عقارب الساعة الى الوراء وتحرف احتمالات سير العالم نحو وجهة أكثر "سلامية" وأقل حربية مما كانت عليه في القرون الثلاثة الماضية، بما يعمق التعاون بين الدول والمجتمعات ويقلل من هواجس الشك والخوف ويتخلص من الأجواء الممهدة للحروب والصراعات الكبرى. فواشنطن التي تنتشي بموقع الدولة الأقوى في عالم اليوم تمنعها غطرسة القوة ان تنصت السمع لحلفائها، قبل اعدائها، الذين وجدوا في نظام الدرع الأميركية المضادة للصواريخ تهديداً للأمن والتوازن الاستراتيجيين في العالم، خصوصاً مع الإعلان غير الرسمي عن موت معاهدة حظر الصواريخ البالستية لعام 1972، وعودة الى حلبة سباق التسلح الدولي الذي انهك دول العالم، وفاقم من الفجوات بين الأغنياء والفقراء بدل التنمية العالمية المتوازنة، فلا غضب بكين ولا تهديدات موسكو ولا تحفظات العواصم الأوروبية، فضلاً عن بقية دول العالم، وسكوت الأمين العام للأمم المتحدة على مضض، دفع واشنطن لاعادة النظر في المشروع الجبروتي. والقرار الأميركي يؤكد ايضاً على ان تيار المحافظين الانعزاليين، داخل الوسط الجمهوري الحاكم، هو المسيطر فعلاً على زمام الأمور، وهو الذي يرسم الآن سياسة الادارة، ويريد ان يرسم شكل العالم وسياسته. ويؤكد هذا القرار ان الولاياتالمتحدة وصلت ايضاً الى مرحلة عماء الغنى الفاحش، ذاك انه لولا توافر القدرة المالية الهائلة والموازنات الفلكية المطلوب رصدها لاخراج مشروع الدرع المضادة للصواريخ الى حيز الوجود ولما طرحت فكرته أيضاً التي تكلف عشرات البلايين في مرحلتها الابتدائية الأولى. تبني نظام الدرع من قبل الولاياتالمتحدة يفتح الاحتمالات على اختلاف مستوياتها. أولها واهمها توتير اجواء التسلح العالمي وتسريعه في شكل غير مسبوق وعلى مستويات هائلة من ناحية الانفاق. فالشيء الأكيد ان الصين وروسيا سوف تنخرطان في مشروعات بناء أنظمة مشابهة تحمي الأراضي الصينية والروسية من خطر الصواريخ المقبلة من الخارج. فنظام الدرع الدفاعية يعزل المدن الأميركية عن اي هجوم صاروخي ضدها في الوقت الذي تستطيع فيه الصواريخ الأميركية ضرب اي مدينة في العالم، وهذا توزيع استراتيجي مختل لا يمكن ان يقبله البلدان. ومعنى هذا ان نفقات التسلح والانفاق العسكري العالمي سوف تتخطى ارقاماً فلكية في السنوات المقبلة بسبب التكاليف الهائلة لمثل هذه الأنظمة الدفاعية/ الهجومية الأثر. الى ذلك ان تطبيق هذا النظام سوف يعمق الشكوك الموجودة أصلاً بين الولاياتالمتحدةوالصين، خصوصاً ان المراحل المقبلة من هذا النظام تتضمن توسيع شبكة الحماية لتشمل حلفاء واشنطن في العالم وتحديداً تايوان التي تعتبرها الصين جزءاً من اراضيها. وبهذا فمن المتوقع ان تتجه بوصلة "الحرب الباردة" الجديدة الى الصين بعد ان كانت متجهة سابقاً الى الاتحاد السوفياتي طوال نصف قرن. وإذا كانت أوروبا، الحليف الطبيعي للولايات المتحدة، لينت موقفها من النظام الدفاعي بعد "الرشوة" التي قدمتها واشنطن عبر التأكيد على ان حلفاء أميركا سوف يتم الدفاع عنهم أيضاً باستخدام النظام، فإن التوزيع الاستراتيجي العالمي للتحالفات والعداوات سوف يكون نسخة شبه مكررة عن ذلك الذي ساد خلال "الحرب الباردة"، مع استبدال الاتحاد السوفياتي بالصين. وعلى خلفية تطور "حرب باردة" جديدة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا من جهة، والصين من جهة أخرى، علينا ان نتوقع تراجعاً في الانفراج الدولي، وفي مجالات التعاون الدولي مثل الانفتاح السياسي/ الاقتصادي، وبروز هوامش للتطور الديموقراطي في دول العالم الثالث. وقد يتعرض مستقبل منظمة التجارة العالمية للخطر لأن استخدامها لأغراض سياسية من قبل واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي سوف يتزايد، خصوصاً ان انضمام الصين للمنظمة تعثر لعدة سنوات. وعلى رغم هذه الاحتمالات وغيرها كثير تصر واشنطن على ان نظام الدرع، الذي أعلنته، لن يؤثر على بقية دول العالم، وهو "دفاعي" المضمون. * كاتب فلسطيني مقيم في كامبردج.