لا أحد في روسيا، وربما خارجها أيضاً، يحبذ التسرع في ابداء تفاؤل مفرط حيال التطورات السياسية الجارية على صعيد ملفات العلاقة بين موسكووواشنطن، وانعكاساتها على الأمن الأوروبي وخريطة النظام العالمي الجديد. وأيضاً على ملفات اقليمية مهمة ومرتبطة بالتنسيق بين الدول الكبرى، وأبرزها في الأسابيع الأخيرة، الملف النووي الإيراني. ومنذ اعلان ادارة الرئيس الأميركي باراك اوباما التخلي عن خطط لنشر الدرع الصاروخية في شرق أوروبا، وما تبع ذلك من اجواء انفراج وتقارب، برزت خلال مناقشات البرنامج النووي الإيراني في جنيف، تساؤلات حول مستقبل العلاقات بين البلدين، خصوصاً بعدما تراجعت حدة عقبتين مهمتين كانتا تعترضان تطوير التعاون ، اولهما مشروع “الدرع” نفسه، والثانية خطط توسيع حلف شمال الأطلسي بضم جمهوريات سوفياتية سابقة ابرزها اوكرانيا وجورجيا. من الحرب الباردة الى “إعادة تشغيل” العلاقات منذ عام واحد فقط، وتحديداً بعد الحرب الجورجية - الروسية في آب (أغسطس) الماضي كانت موسكووواشنطن تقفان على حافة الانزلاق نحو مواجهة من نوع جديد أطلق عليها الخبراء تسمية “الحرب الباردة الجديدة” . فقد جمد البلدان كل انواع التنسيق بينهما وارتفعت سخونة التصريحات والاتهامات المتبادلة. ووصل الأمر الى حد ظهور البوارج الحربية الأميركية في البحر الأسود ومرابطتها قرب السواحل الجورجية، في اختراق هو الأخطر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لما يعرف باسم “الخاصرة الرخوة” لروسيا، والمقصود منطقة القوقاز. وكان الحديث الأبرز منذ سنة، يدور عن انهيار ضوابط نظام منع انتشار اسلحة الدمار الشامل واحتمال ان يكون العالم مقبلاً على مرحلة سباق تسلح جديد.لأن مستقبل تجديد معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) التي ينتهي مفعولها في نهاية العام الحالي، كان يلفه الغموض، والمواقف بين موسكووواشنطن في شأنها متباعدة أكثر من أي وقت مضى. ودفعت هذه الأجواء أوساطاً كثيرة في موسكو منها شخصيات سياسية بارزة الى الإعراب عن الأمل بعدم فوز المرشح الجمهوري جون ماكين في انتخابات الرئاسة الأميركية، لأن الأكيد كما قال احد ابرز الخبراء الروس في شؤون العلاقة مع القارة الأميركية سيرغي روغوف مدير معهد دراسات اميركا وكندا ان “وصول ماكين الى البيت الأبيض كان سيعني استمرار سياسة الاحتواء مع الردع” التي اتبعتها واشنطن في مرحلة حكم المحافظين الجدد تجاه موسكو. والمقصود بالاحتواء محاولات تكبيل موسكو ولجم طموحاتها بافتعال أزمات داخلية وخارجية دائمة، ومن ذلك “الثورات الملونة” في بلدان الجوار، وتسخين الموقف في القوقاز، وتصعيد أزمات إمدادات الطاقة الى أوروبا... الخ. اما سياسة الردع فقد قامت على تطويق روسيا عسكرياً عبر نشر القواعد في منطقة آسيا الوسطى، ومحاولات ضم جورجيا وأوكرانيا الى حلف الأطلسي ونشر محطات انذار مبكر ومنظومات صاروخية في كاليفورنيا والاسكا، وصولاً الى خطة نشر “الدرع” في اوروبا الشرقية. ومع وصول اوباما الى البيت الأبيض وإطلاقه شعار “اعادة تشغيل” العلاقات، ثم الاقتراب السريع من وضع صياغة لمعاهدة “ستارت” جديدة استجابت في مسودتها الأولى لجزء كبير من مطالب روسيا، وأخيراً، إعلان التخلي عن نشر الدرع الصاروخية بنسختها القديمة والاستعداد للتعاون مع موسكو في مجال الدفاع الصاروخي، بدا واضحاً ان العقبات الأساسية امام دخول العلاقة الروسية - الأميركية مرحلة نوعية جديدة بدأت تتلاشى، خصوصاً مع تراجع الحماسة لدى قيادة حلف الأطلسي الجديدة لتسريع عمليات ضم اوكرانيا وجورجيا الى الحلف الغربي. «الدرع» القديمة والجديدة بدأ التفكير بتعزيز الطوق حول روسيا منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، وعلى رغم أجواء التقارب التي شهدتها علاقات البلدين بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 وانضمام روسيا عملياً الى الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب وتقديمها تسهيلات مباشرة او عبر حلفائها في منطقة آسيا الوسطى لنشاط “التحالف” في أفغانستان، لكن كل هذا لم يخفف من اندفاع الرئيس جورج بوش لتعزيز التواجد العسكري حول روسيا بأشكال مختلفة. وتعود فكرة “الدرع” الى تقرير اعدته في العام 1998 لجنة كان يرأسها دونالد رامسفيلد، أكد فيها ان إيران وكوريا الشمالية سوف تمتلكان صواريخ عابرة للقارات وقادرة على حمل رؤوس غير تقليدية في غضون عشر سنوات. وشكل هذا التقرير قاعدة اساسية لتحرك بوش الابن فور تسلمه السلطة، فأعلنت واشنطن في العام 2002 انسحابها في شكل احادي من معاهدة الدفاع الصاروخي الموقعة مع الاتحاد السوفياتي وروسيا من بعده. وفي العام التالي مباشرة أعلن عن خطط لنشر منظومات دفاعية داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، منها منظومات برية وبحرية وفضائية. وبدأت واشنطن بتنفيذ اولى الخطوات العملية في العام 2004 عندما نشر أول نظام صاروخي دفاعي في منطقة آلاسكا على الحدود الشرقية لروسيا، ثم نشرت قواعد مماثلة في كاليفورنيا. واتجهت الأنظار الى اوروبا لمعرفة مكان تموضع المركز الثالث للنظام الدفاعي الصاروخي الأميركي الجديد، وجرى الحديث اولاً عن احتمال استخدام اراضي رومانيا وبلغاريا قبل ان يستقر الرأي على نشر “الدرع” في بولندا وتشيخيا بعد سنوات قليلة. عموماً تشتمل الخطة كما يقول خبراء عسكريون روس على انجاز نشر عشرات القواعد الصاروخية في البر والبحر ومنظومات لصواريخ اعتراضية وضاربة في الفضاء قبل حلول العام 2012. وعلى رغم أن التلويح ب ”الخطر الصاروخي من جانب ايران وكوريا الشمالية” شكل الذريعة الأساسية لتطوير فكرة نشر الدرع، لكن روسيا اعتبرت منذ البداية، ان الخطة تستهدف احكام تطويقها عسكرياً، وأوضح مسؤول بارز في وزارة الدفاع تحدث الى “الحياة” انه “بعد مرور 11 سنة على صدور تقرير رامسفيلد ما زالت إيران وكوريا الشمالية بعيدتان عن تطوير صواريخ استراتيجية عابرة للقارات وبحسب المعطيات المتوافرة لدى روسيا لا تمتلكان قاعدة صناعية كافية لتطوير صواريخ من هذه الطرازات قادرة على حمل رؤوس غير تقليدية. وللتوضيح يكفي ان بلداناً امتلكت التقنيات الصاروخية والنووية منذ سنين بينها اسرائيل وبريطانيا والهند وباكستان لم تقم بتطوير قاعدة صناعة لبناء صواريخ عابرة غير تقليدية. وتمتلك مثل هذه التقنيات في العالم حالياً، بالإضافة الى روسياوالولاياتالمتحدة كل من الصين وفرنسا فقط. ويستخدم الخبراء والعسكريون الروس هذه المعطيات للتدليل على ان “الدرع” منذ البداية لم تكن تستهدف “الخطر الإيراني” بل روسيا بالتحديد. وقال المسؤول أيضاً، ان تقريراً أعده الكونغرس الأميركي في أيار (مايو) من العام الحالي، أكد أن أمام طهران نحو عشر سنوات على الأقل لتطوير تقنيات من هذا النوع في حال امتلكت الإرادة السياسية والقدرات المالية لذلك. من جانب آخر يشير المسؤولون الروس إلى أن معطيات لجنة الكونغرس ذاتها دلت الى ان منظومتي “الدرع” في الاسكا وكاليفورنيا كافيتين لحماية 99 في المئة من اراضي الولاياتالمتحدة، في حين أن النظام الثالث في شرق أوروبا لم يكن قادراً على حماية بلدان جنوب أوروبا ولا تركيا ولا اسرائيل من خطر الصواريخ الإيرانية في حال وجدت. وأخيراً، يضيف الخبراء الروس عنصراً آخراً للتدليل على أن النظام الدفاعي الصاروخي كان موجهاً لإضعاف روسيا، اذ شن “المحافظون” الأميركيون حملة قوية على اوباما فور اعلان مشروعه الجديد واتهموه ب “الاستسلام” أمام روسيا. بل ان جون كيل السيناتور الجمهوري عن ولاية اريزونا وصف هذا التطور بأنه “خطوة خطرة جداً وهي ستجدد مخاوف بولندا وتشيخيا وجورجيا وأوكرانيا من الروس، كما انها ستعيد الوضع إلى فترة كانت أوروبا تحسب فيها حساباً ليد روسيا الصاروخية الطويلة التي كان يجب ردعها”. اللافت أنه على رغم أجواء الارتياح والترحيب التي تلت اعلان قرار أوباما التخلي عن نشر “الدرع” بنسختها القديمة، سرعان ما برزت مخاوف عند النخبة الروسية من التوجهات الأميركية الجديدة ومدى تأثيرها في الأمن الروسي. والواقع أن أوباما قرر الامتناع عن نصب صواريخ اعتراضية ورادارات في الأراضي البولندية والتشيكية ولكنه لم يعلن تخلي الولاياتالمتحدة الأميركية عن مشروع مد منظومتها الصاروخية المضادة للصواريخ إلى أوروبا. وبحسب المصادر العسكرية الروسية فإن الولاياتالمتحدة تريد إنشاء منظومة متقدمة تقنياً تضم صواريخ تطلق من المنصات الأرضية المتنقلة ومن السفن من طرازات “THAAD و “إجيس” (Aegis Combat System) و SM-3”، في أوروبا، أي أن القوات الأميركية ستكون قادرة على إطلاق صواريخها من الأراضي الأوروبية من مواقع يصعب كشفها كونها مواقع غير ثابتة. وتنص الخطة الجديدة بحسب المعلن منها على انهاء المرحلة الأولى من نشر المنظومات الدفاعية المتطورة وصواريخ تطلق من البحر في مناطق جديدة تساعد على “مواجهة المخاطر الحقيقية” كما قال وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس. وتشتمل المرحلة الثانية التي تمتد حتى العام 2015 على نصب قواعد صاروخية أحدث وأكثر فعالية وأوسع مدى في قواعد عسكرية تشير التقديرات إلى انها ستكون في ألمانيا وتركيا. في حين تنتهي المرحلة الثالثة بنصب أنظمة أخرى في منطقة جنوب القوقاز، وهذه المرحلة تبدو الأكثر خطورة بالنسبة إلى روسيا كون التفكير يتجه إلى نصب “الدرع” في أذربيجان أو جورجيا. وهو أمر تعارضه موسكو بقوة. لكن اللافت أن السيناريوات المطروحة لنشر “الدرع” بنسختها الجديدة لا تقلق موسكو وحدها، إذ عبر بعض الخبراء الفنلنديين عن قلقهم من احتمال دخول سفن حربية أميركية تحمل صواريخ مضادة للصواريخ إلى بحر البلطيق، معتقدين أن روسيا لن تقف موقف غير المبالي تجاه مخططات من هذا النوع تمثل تهديداً لأمنها القومي. وبالتالي فإن الوضع العسكري في شمال أوروبا سيتفاقم إلى درجة يصبح معها أمن فنلندا وغيرها من دول أوروبا الشمالية في خطر. أيضاً تشير مصادر عسكرية روسية إلى أن واشنطن قد تتجه نحو توسيع نظام الردع الصاروخية في إسرائيل (تم نصبه في العام 2008) وأيضاً الى إنشاء قواعد برية وبحرية جديدة. ويعتمد الأميركيون أيضاً لمواجهة “الخطر الصاروخي الإيراني” على مظلة دفاعية صاروخية متطورة تم بيعها إلى الإمارات بقيمة سبعة بلايين دولار. وعلى نظام دفاعي متطور في تركيا بالإضافة إلى السفن العسكرية الأميركية ذاتها في منطقة الخليج، وهذا كله يوضح عبارات المسؤولين الأميركيين عندما تحدثوا عن “نظام دفاع صاروخي أرخص ثمناً وأفضل فعالية”. آفاق التعاون بين روسياوالولاياتالمتحدة وعلى رغم المخاوف الكثيرة سارعت موسكو إلى تقديم اقتراحات جديدة للتعاون مع واشنطن في مجال الدفاع الصاروخي ومواجهة التهديدات المحتملة على القارة الأوروبية. والواقع أن موسكو لم تطرح أفكاراً جديدة في هذا الشأن فهي أعادت تقديم الاقتراحات التي لم تولها الإدارة الأميركية السابقة اهتماماً عندما عرضها الروس منذ سنوات. وأعلن وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف ان وزارته تعد “مقترحات جوابية” على مبادرة الولاياتالمتحدة الخاصة بعدم نشر المنظومة الأميركية المضادة للصواريخ في بولندا وتشيكيا، مؤكداً أن بلاده “تقوّم مبادرة الطرف الأميركي إيجابياً” ولديها ما تقدمه للأميركيين في هذا المجال. ولم تكد تمر أيام قليلة على هذه التصريحات حتى أوضح الكرملين طبيعة “المقترحات الجوابية” والتي تدور حول الأفكار ذاتها المعروضة منذ العام 2007، وبينها فتح أبواب محطة رادار “غابالا” التي تستأجرها روسيا في أذربيجان أمام الخبراء الأميركيين. وأيضاً إمكانية الاستخدام المشترك لمحطة رادار تم تشييدها في ضواحي ارمافير (جنوبروسيا) إلى جانب المحطة الأذرية، ويمنح العمل المشترك في المحطتين بحسب خبراء عسكريين روس إمكانية صد أي نشاط صاروخي في منطقة جنوب القوقاز. ويؤكد الخبراء أن إيران لن تكون قادرة على القيام بأي تجربة صاروخية من دون أن يتم رصدها مباشرة . وبحسب بعض المعطيات فإن موسكو بفضل محطتي الرادار تمكنت خلال الفترة الماضية من رصد كل التجارب الصاروخية الإيرانية في وقت مبكر جداً بالمقارنة مع عمليات الرصد التي قام بها حلف الأطلسي. وللتوضيح قال مصدر عسكري ل “الحياة” إن قاعدة “غابالا” أوصلت المعلومات حول النشاطات الصاروخية الإيرانية بعد مرور خمس دقائق على انطلاق الصواريخ في حين احتاجت محطة الرادار الأميركي في إسكوتلندا إلى سبع دقائق للوصول إلى معلومات حول الإطلاق. أيضاً تشتمل الاقتراحات الروسية على إنشاء “بنك معلومات” مشترك ومركز متابعة يكون مقره في واحدة من العواصم الأوروبية ويتولى وضع تقويم شامل للتهديدات على القارة وسبل مواجهتها في شكل جماعي. وأخيراً لا تستبعد المقترحات الروسية إنشاء منظومات مشتركة للدفاع الصاروخي على أن ينضم إليها بالإضافة إلى روسياوالولاياتالمتحدة الاتحاد الأوروبي. ومع الأهمية الكبرى التي توليها موسكو للتعاون مع الولاياتالمتحدة في مجال الدفاع الصاروخي فإن الملف الأبرز الذي يشغل بال الكرملين هو مصير معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية التي يجب أن توقع بنسختها الجديدة قبل نهاية العام الحالي. وأشار مصدر عسكري إلى أن الطرفين توصلا إلى اتفاقات بنسبة 80 في المئة على الصيغة الجديدة للمعاهدة. ويبدو أن وراء تشديد الكرملين على ربط هذه الملفات بعضها ببعض، حرصاً على الخروج برزمة اتفاقات كاملة تؤسس لتعاون أوسع في المرحلة المقبلة إذا تمت مراعاة مخاوف موسكو، وهو أمر أكده الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف عندما قال ان النجاح في قضية نزع الأسلحة النووية لا يمكن تحقيقه دون حل المشاكل المرتبطة بالدفاع المضاد للصواريخ والأسلحة الإستراتيجية غير النووية. معتبراً أن السير في هذا الاتجاه يعتبر من أهم عناصر “البداية الجديدة” في علاقات روسيا مع الولاياتالمتحدة. وقد اتفقت روسياوالولاياتالمتحدة خلال مباحثات الرئيسين الروسي والأميركي دميتري ميدفيديف وباراك أوباما في موسكو في السادس من شهر تموز (يوليو) الماضي على تحديد عدد وسائل حمل وإيصال الأسلحة النووية (الصواريخ والغواصات والقاذفات الإستراتيجية) ب 500 - 1100 وحدة بعد مرور 7 سنوات على دخول المعاهدة المزمع توقيعها حيز التنفيذ. كما اتفق الجانبان على تحديد عدد العبوات النووية المحمولة على تلك الوسائل ب1500 - 1675 وحدة.