قررت ادارة بوش. كما كان متوقعاً على نطاق واسع، المضي قدماً بتطوير نظام "الدفاع الصاروخي الوطني" NMD. بمعنى آخر، اعطت الحكومة الاميركية الضوء الاخضر لمقاولي الدفاع الاميركيين للتنافس على بناء النظام الذي يمكن ان يحمي الولاياتالمتحدة، بالاضافة الى القواعد العسكرية الاميركية خارج البلاد، من هجمات صاروخية مصدرها ايران او العراق او كوريا الشمالية وغيرها من الدول المعادية المحتملة. ماذا يعنيه هذا القرار بالنسبة الى الولاياتالمتحدة وبقية العالم؟ وهل تترتب عليه اي نتائج بالنسبة الى العرب؟ التأثير المباشر سيكون على الولاياتالمتحدة بالذات. فما لا يقل عن 100 بليون دولار من اموال دافعي الضرائب ستضخ الى قطاع التكنولوجيا المتطورة في صناعة الدفاع الاميركية خلال العقد المقبل. وستمنح هذه الاموال حياة جديدة للعديد من الشركات في مجالات الالكترونيات المتطورة وتكنولوجيا المعلومات، على غرار الدور الذي لعبه برنامج "حرب النجوم"، في عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان، في اعادة تنشيط "وادي السيليكون" في مطلع الثمانيننات. غالباً ما يشكو الاميركيون من الدعم المالي الذي تقدمه الحكومات في اوروبا لمشروع "أرباص" الذي شكل تحدياً لهيمنة "بوينغ" على سوق الطائرات المدنية. لكن برامج مثل "الدفاع الصاروخي الوطني" تتضمن في الواقع تقديم دعم مالي حكومي هائل لقطاع صناعة الطيران الاميركية بأكمله. وكما افادت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 30 كانون الثاني يناير الماضي، فإن الرئيس جورج بوش سيحدد في الاشهر القليلة المقبلة أي تكنولوجيا - وبالتالي أي شركات - ستفوز باكبر حصة في بناء نظام دفاع صاروخي وطني. وسيكون هامش الربح ضخماً بالنسبة الى اولئك المحظوظين القلائل الذين سيطورون نظاماَ يكلف بالتأكيد عشرات بلايين الدولارات. اما الشركات التي لا يحالفها الحظ فان الفرص الضائعة لن تكون اقل إثارة. واعتبر بعض المعلقين الاميركيين قرار بناء نظام مضاد للصواريخ مثالاً على هيمنة الشركات على السياسة الاميركية. وذهب ويليام بفاف في صحيفة "لوس انجليس تايمز" الى حد القول بان ادارة بوش اصبحت اداة بيد "الشركات الكبرى"، وان النظام الصاروخي الوطني المقترح هو "برنامج لصناعة الطيران وليس برنامجاً للامن القومي". لا توجد في الوقت الحاضر اي تكنولوجيا معروفة يمكن ان تحمي الولاياتالمتحدة، او اي بلد آخر بالفعل، من هجوم صاروخي. وسيستغرق بناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ فعال ما لا يقل عن عشر سنوات وقد يتبيّن، في نهاية المطاف، انها مهمة مستحيلة. لكن اياً كانت النتيجة سيؤتي هذا الجهد ثماراً كبيرة للصناعة الاميركية، اذ سيضعها في موقع يتخطى تكنولوجياً باشواط بعيدة منافسيها الاوروبيين والاسيويين في استحواذها على الفضاء. حرب في الفضاء احدى النتائج الاخرى لقرار ادارة بوش ستكون تعجيل "عسكرة" الفضاء. ومعروف ان دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي الجديد، اكثر اهتماماً بالفضاء من سلفه ويليام كوهين. في اواخر كانون الثاني يناير الماضي، اجرى سلاح الجو الاميركي في قاعدة جوية محاطة باجراءات امنية مشددة في كولورادو اول مناورة عسكرية كبيرة تركز على الفضاء باعتباره مسرح العمليات الاساسي. وكان السيناريو الذي تم اختياره للمناورات حالة توتر في العام 2017 بين الولاياتالمتحدةوالصين. واُفترض ان الفضاء سيزخر آنذاك باسلحة متطورة تكنولوجياً، ليس اميركية وصينية فحسب بل ايضاً روسية واوروبية ويابانية وربما حتى ايرانية واسرائيلية. وتضمنت المناورات افتراض ان تكون الاقمار الاصطناعية قادرة، في العقد المقبل او حوالي ذلك، على ان تناور ضد اقمار اصطناعية اخرى في الفضاء، فتحجب مجال رؤيتها، او تشل اتصالاتها، او حتى "تقلي" اجهزتها الالكترونية. كما سيمكن استخدام اجهزة ليزر من محطات ارضية لمهاجمة المعدات البصرية للاقمار الاصطناعية. وفي تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 29 كانون الثاني يناير عن هذه المناورات الاميركية، قالت ان احتمال نشوب حرب في الفضاء انتقل من الخيال العلمي الى الحقيقة. وكانت حرب الخليج في 1991 اظهرت اهمية الاقمار الاصطناعية بالنسبة الى العمليات القتالية على الارض. فقد اُستخدمت للاتصالات ولبث الصور ولابلاغ القوات بموقعها بالضبط عبر استخدام الانظمة العالمية لتحديد الموقع. هكذا، لعبت الاقمار الاصطناعية دوراً حاسماً. لكن الولاياتالمتحدة ادركت الآن انها اصبحت اكثر اتكالاً من اي دولة اخرى على الاقمار الاصطناعية لادارة القتال في الميدان والحصول على معلومات استخبارية. لذا فان تركيز الاهتمام ينصب في الوقت الحاضر على امتلاك القدرة على حماية الانظمة الفضائية من هجوم معادٍ. وانشأ سلاح الجو الاميركي "مديرية لعمليات الفضاء" و "كلية لحرب الفضاء" ووحدات جديدة قادرة على القتال في الفضاء... بمعنى آخر، انتقلت الحرب من الارض الى الفضاء. ومن شأن مساعي الولاياتالمتحدة لبناء نظام "دفاع صاروخي وطني" ان يعزز حتماً هذا التوجه، والارجح انها ستسهم في تأكيد التفوق التكنولوجي والعسكري لاميركا مع تخلف دول اخرى وعجزها عن اللحاق بها. عندما اطلق رونالد ريغان مبادرة "حرب النجوم"، كان احد اهدافها الرئيسية جعل الاتحاد السوفيتي يُفلس بسبب سعيه الى مجاراة الانفاق العسكري الاميركي. ولا شك في ان هذا التنافس ساهم في انهيار الاتحاد السوفيتي في النهاية. ويُنظر الى جمهورية الصين الشعبية في الوقت الحاضر كقوة عظمى منافسة محتملة في العقود المقبلة. ولا شك ان بعض الخبراء الاستراتيجيين في واشنطن يفكر كيف يمكن ان يجعل الصين ايضاً تفلس. الاهداف المخفية تبرر الولاياتالمتحدة قرارها بناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ بالاشارة الى التهديد الذي تمثله صواريخ مزودة اسلحة دمار شامل في حيازة زعماء في العالم الثالث يعوزهم حسّ المسؤولية. والحجة التي تقدم هي انه اذا تمكنت الولاياتالمتحدة من اسقاط مثل هذه الصواريخ، فانها لن تحتاج الى توجيه ضربة نووية استباقية الى الدول المعنية ستؤدي بالتأكيد الى خسائر هائلة في الارواح، وقد ينجم عنها ابادة بلدان بأكملها. هكذا، حسب هذه المحاججة، سيكون بناء درع دفاعي مضاد للصواريخ، في الواقع، اجراءً انسانياَ! واياً كانت حسنات هذا الرأي يمكن تلمس ثلاثة اهداف جيوسياسية اخرى وراء طموح الولاياتالمتحدة الى بناء نظام دفاع صاروخي وطني: - اولاً، الطموح بانه سيُبعد الولاياتالمتحدة عن مشاكل العالم بتوفير اقصى حماية ضد التهديدات من قوى اقل شأناً. ويستجيب هذا السعي الى تحقيق أمن مثالي لنزعة انعزالية تقليدية لدى الاميركيين. - ثانياً، يهدف البرنامج الى ضمان التفوق الاستراتيجي لاميركا في القرن الحادي والعشرين ضد اي منافس محتمل. - ثالثاً، وهو طموح اكبر، يُعتقد بان الدرع المضاد للصواريخ سيغيّر ميزان القوى العالمي لمصلحة اميركا في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ليس من المستغرب اذاً ان يُنظر الى البرنامج الاميركي كتحدٍ، بل حتى كتهديد، من قبل كل الاخرين تقريباً. * تعتبر الصين نفسها الهدف الرئيسي للمبادرة للاميركية. فهي تعتقد بان الدرع الدفاعي الصاروخي جزء من استراتيجية كبرى للولايات المتحدة تهدف الى تطويق و "احتواء" الصين بواسطة شبكة تحالفات مع اليابان والهند وكوريا الجنوبية واندونيسيا وفييتنام. ولا تعتقد الصين بان الدرع الصاروخي سيكون مقصوراً على الولاياتالمتحدة والقواعد الاميركية في الخارج، بل تشك في انه قد يشمل ايضاً تايوان ليسلب بذلك بكين القدرة على ممارسة ضغوط على تايبه. وأي مؤشر الى تطور كهذا من شأنه ان يدفع بكين الى سباق تسلح ويهدد بتفجير نزاع في مضائق تايوان، في غضون ذلك، من المحتمل ان يؤدي النظام الدفاعي الصاروخي الوطني الاميركي الى اضعاف نفوذ الاصلاحيين في الصين فيما يعزز موقع القوميين المتطرفين. * كان رد فعل الرئىس الروسي فلاديمير بوتين سلبياً للغاية تجاه البرنامج الاميركي المضاد للصواريخ الذي يرى انه يهدف، بالاضافة الى توسيع حلف الاطلسي شرقاً، الى ابقاء روسيا تراوح في مكانها والحد من دورها في الشؤون الدولية وحرمانها من مكانة الدولة العظمى. وترى موسكو ان الدرع الصاروخي المقترح ينتهك المعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية المبرمة في 1972 بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، التي حظرت سباق التسلح في مجال الاسلحة الدفاعية. وتبعاً لذلك فانه يدمر منظومة الحد من الاسلحة الاستراتيجية بأكملها التي حافظت على السلام طيلة ال 30 سنة الماضية. ورد فلاديمير بوتين باقامة علاقات اوثق مع ايرانوكوريا الشمالية على السواء، الدولتين اللتين يستهدفهما نظام الدفاع الصاروخي الذي تبناه جورج بوش. ومن المقرر ان يقوم الرئيس الايراني محمد خاتمي بزيارة الى موسكو في اذار مارس المقبل، يعقبه الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ إيل فيل نيسان ابريل. * كما اتسم رد زعماء الاتحاد الاوروبي بالتعبير عن القلق والتشكيك بالمشروع الاميركي، ولم يُعد طمأنتهم عرض بمد نطاق الدرع الصاروخي ليشمل حلفاء اميركا. وحذر الرئىس الفرنسي جاك شيراك من ان هذه الخطوة ستطلق سباق تسلح عالمي. ويعتقد الفرنسيون ان البرنامج الاميركي قد يعجّل انتشار الاسلحة النووية بدلاً من كبحه. ويُنظر اليه على مستوى أعم باعتباره يهدد ب "فك الترابط" بين الدفاع عن الولاياتالمتحدة والدفاع عن اوروبا. فاذا كانت الولاياتالمتحدة محمية بشكل افضل من هجوم صاروخي مصدره "دول مارقة"، من المحتمل الاّ تبدي حماساً لحماية اوروبا اثناء حدوث ازمة وتجازف بالانجرار اليها. في الوقت نفسه، يمكن للدرع الصاروخي الاميركي ان يلحق الاذى بعملية التكامل الدفاعي الاوروبي. فاذا كانت بريطانيا، على سبيل المثال، ستوافق على تطوير نظام الانذار المبكر في قاعدة فايلينغديلز في يوركشاير التي تحتاج اليها الولاياتالمتحدة لانشاء درعها الصاروخي، يمكن ان يثير ذلك معارضة اوروبية ويوجه ضربة الى خطط اوروبا لانشاء قوة اوروبية للرد السريع تضم في قوامها 60 الف جندي وتكون مستقلة عن الولاياتالمتحدة. * ربما ستكون اسرائيل البلد الوحيد الذي يرحب بقرار الولاياتالمتحدة بناء نظام دفاعي صاروخي وطني. ولن يكون هذا مثيراً للاستغراب اخذاً بالاعتبار ان النظام الدفاعي موجه، في المقام الاول، الى ايرانوالعراق، البلدين اللذين تحديا اسرائيل، كلٌّ بطريقته الخاصة، وقاوما الهيمنة الاميركية. لا يُعقل ان يعتقد أحد بان العراق او ايران يمكن ان يهددا يوماً ما أمن اميركا في عقر دارها. لكن ما يمكن ان يهدداه هو هيمنة الولاياتالمتحدة على منطقة الخليج ومواردها النفطية الغنية. فالتفوق في الخليج والسيطرة على النفط يمثلان مصالح استراتيجية واقتصادية اميركية ثابتة منذ عقود. لذا فان احدى النتائج الثانوية للنظام الدفاعي الصاروخي ستكون حماية هذه المصالح الاميركية الحيوية في مواجهة منافسين اقليميين محتملين. ان الرئىس بوش يضع المصالح الاميركية في المقدمة: لم تعد سياسات التحالف وتعددية الاطراف موضة رائجة في واشنطن. ويتعيّن على بقية العالم التكيف على افضل نحو ممكن مع المناخ الجديد في العلاقات الدولية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.