وسط المناخ العام الذي يطبع الانتاج التلفزيوني المحلي في لبنان، يأتي المسلسل اللبناني "من برسومي" تبثُّ حلقاته مساء كل اثنين على شاشة "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، وتابعنا منه حتى الآن 8 من أصل 14، وقد توافر فيه الكثير من عناصر التشويق الدرامي، والمهارة الفنية. اذ ان أول ما يلاحظ أن الشخصيات أدت فيه أدوارها ببراعة وعفوية وتلقائية... اضافة الى أهمية السيناريو الذي يطرح مواقف سياسية عدة عصفت بلبنان بدءاً من زمن الانتداب الفرنسي في الأربعينات. وكل هذا من خلال حياة قرية اطلق عليها في المسلسل اصطلاحاً اسم "برسومي"، وجعل منها احدى القرى اللبنانية التي تجسد المناخ الجميل والطبيعة البكر، وترتبط معالمها ارتباطاً وثيقاًَ بطبيعة أهلها وطبائعهم المتفاوتة، كمثل الطبيعة التي متناقضات كثيرة لا بدّ منها. كانت نفوس الأهالي تجسّد هذه الروحيّة، أي روحيّة المفارقة في المواقف والمبادئ والقيم، كما في كل زمان ومكان، وكل عهد وحكم. مفارقات ومن خلال دخول قوات الانتداب الفرنسي أيام الحرب العالمية الثانية هذه القرية اللبنانية، تتجلّى، في وضوح، تلك المفارقات. وكالعادة يصبح الأباة عرضة للاضطهاد والمطاردة والنفي والزنزانات والمعتقلات، ليأخذ بالتالي الأبالسة و"الأوباش" مواقعهم العريضة من خلال مواقفهم الوضيعة، ويحققون امتيازات لا طائل للأحرار والمناضلين بها. بل يتواطأ هؤلاء العملاء والخونة مع المحتل لمناهضة الوطنيين ومحاربتهم وتعريضهم للهوان والتعذيب من خلال الوشاية. كل هذه الأحداث المتداخلة والمتشابكة تندرج من خلال قصص حب، منها الصغيرة والعميقة والمهددة والمتفانية، في إطار انساني حميم وحاقد. وليست قصص العشق في مسلسل "من برسومي" حكراً على مرحلة زمنية أو عمر محدد من أعمار المشاركين في أداء الأدوار، فلا استثناء حيث الحب شائع بين الجميع. وقد استطاع المخرج إيلي اضباشي ان يحقق نتائج لافتة على صعيد الاخراج، فألف وولف مع فريق العمل، عملاً استثنائياً، على غير ما كنا نألفه على الشاشة الصغيرة، وداخل نطاق البثّ التلفزيوني اللبناني تحديداً... تلك الشاشة التي اخفقت في تقديم الأعمال الدرامية، بالمنطق الذي يريده المتلقي، اذ اعتادت الدراما اللبنانية، في معظم أعمالها، ان تجسّد الشخصية المسرحية على الشاشة، فيأتي الدور ممسرحاً متكلفاً ومفبركاً الى درجة كبيرة، ويفتقد فيها المشاهد حسّ العفوية في الأداء والصدق في التعبير، وهو الأهم. ويتفاوت فريق العمل بين محترفين وهواة، ما ساعد في إغناء المسلسل واضفاء فسيفسائية فنية تنوعت في الايقاع والأداء، تماشياً مع الحوار المميز الذي كتبه سمير سعد مراد وارتقى فيه الى مستوى الموقف ليجعل من حكاية "برسومي" قصة اعتبارية للشعوب التي تسعى الى الخراب من دون وعي أو ادراك، وتقود حاضرها ومستقبلها الى مصير فادح، فتدفع الأجيال المتعاقبة ثمن الأخطاء التي كان من الواجب تلافيها... من دون التنبه الى لعبة التيارات المحركة التي تقود دفّة الصراع بغوغائية تامة تؤدي، في النتيجة، الى الانجراف في مهب طرح مجاني، تتنامى بموجبه الشرائح الانتهازية المراوغة ذات الأطماع التي لا تحدّ. وقد جسد موريس معلوف دوره بجدارة، دور المختار - المعزول بحكم من المفوضية الفرنسية، لأنه أبى التعاون مع الانتداب والارتهان له، واعتبر ان الغريب الذي حلّ بأرضه، باسم الوصاية والحماية، هو "محتلّ" أولاً وأخيراً. إلاّ ان خللاً اعتبارياً مسّ خصوصية هذا المتمرد، وهو المختار المتزوج من امرأة تربطه بها عشرة عمر، وقد اقام علاقة غرامية مع الداية "زلفا" التي أدت دورها تقلا شمعون بحماسة طاغية، وكانت حركتها الرشيقة مع الكاميرا منشطاً ايجابياً للمشهد البصري. وكان لحضور جورج كعدي الذي جسد شخصية "مشهور القبوط" ايقاع مميز، إذاستطاع ان يعطي من جوانيته الكثير من الصدق والإحساس، عندما ادى دوره ببراعة، وهو المتضامن مع المختار وجماعة الثوار، مشكّلاً الساعد الوثيقة في تنشيط فاعلية دور الجماعة الوطنية. وكل ذلك تمّ من دون اللجوء الى الاستعراض الاحتفالي الذي تتطلبه عادة مثل هذه الأدوار، فكان رباً لعائلة صغيرة يسعى الى حماية أمنها وأمن ضيعته على حدّ سواء، من خلال اللقاءات السرية التي كان يعقدها، مرتكزاً على خبرته في الغمار الفني وفطرته في امتلاك الموهبة الأصيلة من دون شك. كذلك سجل علي مطر حضوراً لافتاً، وهو الوجه التلفزيوني الجديد، لما يتمتع به من ملامح ومقدرة على التعبير عن العمق والبساطة والجنون والجليد، وهو مأمور الأحراج الذي حمل بندقيته لا يحمي الاشجار من الذئاب فحسب، وانما أيضاً لحماية القرية من همجية الاحتلال... وقد شكل ثنائياً جميلاً مع جيزيل بويز منتورة المرأة الصغيرة المتزوجة من رجل سادي عانت منه القهر والظلم والاستبداد، فوجدت في صدر حبيبها علي مطر ملاذاً من القهر اليومي وبلسماً لآلام السوط والأغلال. أما كارمن لبّس أم جميل فأضافت الى رصيدها الدرامي نوعية في الحضوروالأداء، بعدما شهدنا لها أعمالاً مجانية الطرح والموضوع، لعلها كانت من قبيل الاستمرار ليس الا... عذرها في ذلك شحّ الأدوار الدرامية، والندرة في النصوص الجيدة، وقلة المخرجين المتمكنين. يبقى ان مسلسل "من برسومي" عمل جيد يرتقي الى مصاف الاعمال الجادة، كموضوع هادف الى الأفضل دون ريب، وهو لسمير مراد، مشكلاً مع ايلي أضباشي ثنائياً طامحاً... مع فريق عمل لا يسمح الحيّز المتاح لانصاف عناصره جميعاً.