يضع المخرج إيلي أضباشي لمساته الاخيرة على المسلسل التلفزيوني "من برسومي" الذي كتبه سمير سعد مراد وأنتجته "المؤسسة اللبنانية للارسال انترناشونال". يُصنّف "من برسومي" في خانة الانتاجات التلفزيونية الكبيرة سواء لجهة عدد الممثلين المشاركين فيه او ايضاً لجهة الامكانات التقنية والسينوغرافية المرصودة له. علماً ان موازنته الانتاجية بلغت نحو 200 ألف دولار وربما لم يرصد بحجمها من قبل لأي عمل محلي. مع ذلك، يؤكد أضباشي بأن هذه الموازنة ادنى من المطلوب لعمل بتلك الضخامة يتألف من ثلاث عشرة حلقة تلفزيونية اشترك في تمثيلها 36 ممثلاً رئيسياً نذكر منهم: أنطوان ملتقى ولطيفة ملتقى وموريس معلوف ونقولا دانيال ويوسف فخري وأنطوان بالابان وفادي أبو خليل وجورج كعدي وغبريال يمين وتقلا شمعون وجيزيل بويز وكارمن لبس ونزيه يوسف وريتا دكاش وأسعد حداد وعبدو حكيم وكارول الحاج وبول سليمان وبيتر سمعان. التصوير تم بالطريقة السينمائية بكاميرا واحدة في اماكن طبيعية خلابة وغنية بالديكورات الداخلية والخارجية وأهمها وادي جنة في منطقة قرطبا وبجة وغلبون وحصارات. "الحياة" قصدت المخرج أضباشي قبل عرض المسلسل في مطلع السنة الجديدة وأجرت معه الحوار الآتي: ماذا عن "برسومي"؟ - "برسومي" هو اسم القرية التي تجري فيها حوادث القصة وهي تعود الى الاربعينات، يوم كانت فرنسا وإنكلترا يتنازعان على ترسيخ سلطانهما ونفوذهما في لبنان مما ادى الى انقسامات وصراعات بين الاهالي. فتلك الفئة مع الفرنسيين زمن بيتان وحكومة فيشي، وأخرى مع الانكليز الذين يسعون بدورهم الى مواقع نفوذ واستعمار جديدة لهم. والاهالي الفلاحون السذّج والفقراء يجهلون لِمَ هم مع هذا الطرف او ذاك. اما انتماءاتهم فهي من غير عقيدة واضحة، وقد ينقلبون بين ليلة وضحاها تبعاً لنزاعاتهم الداخلية. تبدأ القصة مع خلع مختار القرية على يد قوات فيشي وتعيين آخر. علماً ان المختار المخلوع هو رجل مثقف يعارض الفيشيين. من جهة اخرى، يُقتل فجأة مرابي القرية المُمسك بخناق غالبية اهلها، فترسل حكومة فيشي من يحقق في مقتله. والطريف ان اهل القرية ينسون خلافاتهم ويتّحدون لمواجهة الغريب رغم كرههم للمرابي. لكن الحكاية تتضمن قصص حب حقيقية وعميقة، وتتطرق الى موضوع القومية عبر النقاش في السجن بين المختار المخلوع وضابط فرنسي فيشي مرتداً الى الديغولية، اضافة الى العامل اليهودي الذي يساهم في تأجيج نقمة الفيشيين على مناوئيهم. اما الداية فهي شخصية مميزة في القرية ولها دورها في القرار السياسي عند الاهالي. مضمون برسومي شبيه بأيامنا، رغم تناولك حقبة تاريخية محددة، هل هو خيار تعبيري ذاتي او حاجة لجوء الى الرمز والاستعارة لقول امور راهنة؟ - يجوز، لأن الواقع السياسي لم يتغير والتاريخ يعيد نفسه. لكننا لم نقصد اسقاطاً معاصراً، بل عرضنا علاقات الناس في تلك الحقبة وسلّطنا الضوء على مواقفها حيال الاستعمار الاجنبي من خلال نماذج بشرية عفوية وصادقة في مواقفها وتعلقها بالارض وهي تتجلى بالمرابي والمعلِّم واللحام والحلاق والسكاف و"المعمرجي"... علماً ان هذه النماذج لا نزال نجد منها في كل القرى، وقد رسم مراد خلفياتها وأبعادها الاجتماعية والانسانية ووضعها في السياق الدرامي الصحيح. اما اللجوء الى الرمز والاستعارة لقول امور راهنة فهو غير مقصود وخصوصاً ان الكاتب كان يملك حيّز كبير من الحرية للتعبير بشكل مباشر، الا انه اختار معالجة دراما اجتماعية رومانسية تحمل الكثير من النوستالجيا والحب الحقيقي الذي كان يطبع العلاقات بين سكان القرى. في المقابل، شعور المشاهدين بأن المضمون ينطبق على همومهم ومشكلاتهم الراهنة، هو دليل واضح على اهمية العمل الفني الذي حققناه. علماً ان الفن الحقيقي والصادق يحاكي حالة كل انسان في اي زمان ومكان. هل استلزمت مرحلة الكتابة وقتاً طويلاً؟ - مراد كتب النص منذ اربعة اعوام، انطلاقاً من رغبة وحاجة حقيقية، وهو شاعر ومستشار في وزارة الثقافة وتاريخه النضالي معروف في الحزب الشيوعي. من رواياته: "سقوط الترجمان" 1974 و"هاجر" 1984 ومسرحية "الجدار الرابع" 1969 وقصيدة "حجر النعاس". الا ان "من برسومي" هو عمله التلفزيوني الاول ويجمع بين التاريخ والرومانسية والنزق الدرامي المشبع بالطرافة والعمق. عندما طالعت النص للمرة الاولى اعجبت بمضمونه لكنه كان يحتاج الى صياغة درامية تلفزيونية، لذا اضطررنا الى العمل على السيناريو والجانب المشهدي والبصري، وتكررت اللقاءات حتى اثمرت صيغة نهائية للمسلسل. أضباشي المخرج الذي تمرس تلفزيونياً وسينمائياً في اعمال عدة مع يوسف شاهين وسمير نصري وسواهما، يملك جماليات سينمائية، هل سنشاهدها في "برسومي"؟ - شهادتي مجروحة ولست المرجع الصالح الذي يمكنه الكلام عن العمل من هذه الناحية. لكنني استطيع القول انه بعد تجربة 23 عاماً في السينما عملت فيها مساعد مخرج في غالب الاوقات، من الضروري ان تكون الصورة التي اخرجها ذات نوعية عالية. وستلاحظون ان "من برسومي" يحمل همّاً سينمائياً على صعيد اللغة، وان بواسطة الفيديو وأدواته المتطورة و"اللوما" و"الستيديكام" والالواح العاكسة للضوء الطبيعي والاضاءة التي تخلق عبرها المناخات الدافئة كما في السينما. صحيح انني كنت مرتاحاً في العمل اكثر من "الرغيف" على صعيد الانتاج، وأنا راضياً عنه بنسبة 70 في المئة، الا انني خرجت مرهقاً في النهاية، لأن الامكانات المرصودة ل"برسومي" بقيت ادنى من المجهود الذي بذلناه وأدنى من المطلوب لعمل بتلك الضخامة، غنيّ بالشخصيات والمواقع والحشد والتفاصيل. بمعنى آخر، حاولت ان اجد متنفساً لوجعي السينمائي بسبب غياب الانتاج وسياسة الدعم المالي، الرسمية والخاصة. آمل ان اكون نجحت في تنفيذ عملاً درامياً متقناً ذات مناخات وجماليات وكادرات وألوان سينمائية مئة في المئة. على اي اساس اخترت مواقع التصوير والديكور؟ - أعدّت لكل مشهد الاكسسوارات والملابس اللازمة. وثمة مشاهد صعبة تضمنت جموعاً من اهالي القرية يختلطون بالعسكر وآلياتهم. اما الصعوبات فاقتصرت على البحث عن قرية نموذجية، في حين ان معظم قرانا داهمها الباطون وعواميد الكهرباء، لذا كوّنت قرية نموذجية من مشاهد صوّرتها في تسع قرى وخصوصاً وادي جنة حيث ساعدتنا الطبيعة كثيراً. ولا شك ان ضغط الوقت كان عائقاً كبيراً، اذ تخيّل ان كل مشهد كان يستلزم، على الاقل، يوماً كاملاً من التصوير، لأن المشهد المتكامل والمقطّع سينمائياً من زوايا عدة يقتضي الكثير من الاعادات، والاسلوب السينمائي مضني للممثلين والتقنيين والمخرج والمساعدين. على صعيد الممثلين تعوّدنا مشاهدة الوجوه عينها التي يختارها المخرج مراعاة لعلاقاته وصداقاته، فهل استطعت التحرر من هذه القيود؟ - ان المسألة نسبية ولا يمكن الجزم بأن المخرج الذي يتبع هذا الاسلوب، يقوم بعمل سيء. يجب ان لا ننسى ان الاخراج مهنة علاقات وتعاون وصداقة واذا لم تتوفر هذه الشروط يصبح العمل عبئاً على المخرج والممثلين. لا بد ان تتضافر الجهود من اجل تخطي ضغط العمل بأقل توتر وانفعال. لكن اداء المخرج يصبح غير موضوعي، عندما يحصر اعماله بفريق معين من الممثلين لا يتغير. في "من برسومي" رفضت العمل مع ممثلين تلفزيونيين تقليديين احترمهم، لكن لا يمكنني ادارتهم ولديهم ايقاع وأداء لا يشبهني. مع ذلك، تعاملت مع مجموعة كبيرة من الممثلين لا اعرفهم وأجريت "كاستينغ" لأكثر من 500 ممثل، حتى توصلت الى قناعات واضحة. في نطاق العمل انت ديكتاتور أم ديموقراطي؟ - أنا ديكتاتور وأفتخر بطريقتي، لأن اي عمل يتطلب رأساً واحداً مدبراً، يتخذ القرارات ويتحمل مسؤولية النجاح او الفشل. البعض قد يتهمني بالقسوة، الا انه غير قادر على فهم مبررات هذه القسوة. ولعل الممثل الكبير أنطوان ملتقى يعرف كم عانيت من عدم جدية بعض الممثلين في العمل. ما جديدك؟ - بدأت في درس نص جديد لمراد تدور احداثه في حقبة تاريخية تبدأ في عام 1860 وتنتهي عام 1940 وتحديداً في فترة النهضة ما بين لبنان ومصر. الا انني لن اباشر في العمل الجديد، قبل ان تُؤمن له متطلبات انتاجية تضاهي جهود فريق العمل. بانتظار ان يتبلور المشروع. شاهدوا "من برسومي" ابتداء من شباط فبراير المقبل.