سنعود، بالضرورة، الى الماضي القريب للثقافة العراقية إذا توخينا تشكيل رؤية عن مستقبلها. البحث عن الجذور يعني العودة الى التاريخ، والتاريخ محرم لأنه سيكشف عن أخطاء ومسؤوليات، ولذلك اضفيت القداسة الايديولوجية على هذا التاريخ لكي ينأى الكاتب عن تحميل المسؤولية للأطراف التي ساهمت في حفر خنادق لدفن الوقائع في مقابر جماعية. جذور الأزمة تتلخص هل تتلخص حقاً؟ في صعود التماثل بين الثقافة والايديولوجيا الى ذروته، في مرحلة سياسية تطلبت هذا التماثل الذي قدمه المثقف الحزبي والايديولوجي برضا واندفاع، في اطار قناعة سياسية انتجتها ثقافة التحزب واصطياد المثقف ليكون قارع طبل للجيوش التي توجهت لخوض حروب سياسية وايديولوجية، سرعان ما تركت قارع الطبل في معمعان - كلمة ايقاعية حقاً تناسب ايقاع ذلك المثقف - المعركة بعد ان فرت في كل الجهات بحثاً عن نجاة لتكتشف اعداءها بطريقة انتقائية وارتجالية خارج الميدان. ما هي الرؤية التي يمكن ان تتشكل من البحث في جذور أزمة الثقافة العراقية؟ نبدأ بالرجاء الاّ يعترض أحد على الاتفاق على وجود أزمة. لأن ذلك يشبه الاتفاق على وجود كارثة في العراق عمرها، على الأقل، عشرون عاماً حتى الآن. الرؤية التي غيبها الحاضر عن الماضي تتلخص في محو الاختلاف والمختلف. كانت مهمة الماضي صنع تماثل تام. رؤية واحدية تبعية ولائية مسطحة، لا فرصة فيها لرؤية معارضة في قلب كل سلطة ولا رؤية سلطة في كل معارضة. انعدام الرؤية هذا أسهم في تشكيل معالم ثقافة عراقية لقتل المعارضة في قلب كل سلطة ولقتل السلطة في كل معارضة. هذا التأسيس خلق الصراع الثقافي في قلب الصراع الإيديولوجي وعمد الى صنع التماثل بين الثقافة والايديولوجيا، ومحا عن قصد كل حد شفاف أو حاد بين الاطارين الثقافي والايديولوجي. تم هذا التماثل من خلال صناعة وهم المهمات التي صيغت في اطار من النعوت مثل المهمات الوطنية والديموقراطية والثورية والتحررية ومعاداة الامبريالية وغيرها من النعوت الايديولوجية المصنعة. وإذا كانت الايديولوجيا سلاحاً يعتمد حتى على الوهم والتخييل واشعال العاطفة بعيداً من الابداع، وتقوم بصناعة النعوت، فإننا سنعثر، إذا قمنا بعملية نقدية سريعة للثقافة السائدة في الأوساط العراقية على التناقض بين رفع شعارات الوطنية والديموقراطية وبين واقع الالغاء والتغييب السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تشيعه وتمارسه غالبية القوى السياسية العراقية ومجموعات من المثقفين ينتمون اليها. هذا التناقض يرجع الى ثقافة احتكار الوطنية والديموقراطية واحتكار المهمات الايديولوجية ذاتها التي أصبحت محل نزاع البعثيين والشيوعيين في مرحلة من مراحل التاريخ العراقي المعاصر. ويتم هذا الاحتكار من طريق تغييب الآخر والغائه واحتواء شعاراته من دون اية أهمية للمحتوى. وكدليل الى ذلك فإن شعارات الاشتراكية ومعاداة الإمبريالية وانجاز مهمات مرحلة التحرر الوطني كانت مشتركة بين الحزبين المتحالفين الشيوعي والبعث، من دون ان تتحقق مهمات المرحلة ومن دون ان يفضي التحالف الى تطوير المجتمع وانما حدث العكس تماماً. وانخرطت - يلاحظ اني استخدم ما يليق من مفردات من دون حساسية بقدم أو تقليدية هذه المفردات - الثقافة العراقية الجمعية وهذا جذر آخر من جذور الأزمة في استقطاب سياسي وايديولوجي جاد. وبدوره أنتج هذا الاستقطاب ثنائية قسمت الثقافة الى وطني ولا وطني وتقدمي ورجعي وثوري ولا ثوري. وتم كل ذلك على أساس الولاء أو المعاداة على اعتبار حزبي ضيق أخذ يختصر نفسه في الولاء للقيادات الشخصية أكثر من الولاء للوطن والأمة والمبادئ. وبدل ان تكون الثقافة ابداعاً فردياً تحولت الى سلاح قمعي للآخر والى تجمعات تهدف الى احتكار الثقافة وقطع الطريق على تعددية الاتجاهات والمذاهب والمنطلقات. اين تقع أزمة الثقافة الجمعية؟ تقع في قلب المفهوم الغرامشي عن المثقف، أي "المثقف العضوي" الذي يتحول الى سلطة. ان تحويل المثقف الى سلطة جمعية سواء في النظام السياسي الحاكم السلطة على المجتمع أو في النظام السياسي الحزبي خارج الحكم السلطة في المجتمع نأي بالثقافة عن كونها مؤسسة مدنية تستمد سلطتها من استقلالها عن السلطة الرسمية. في هذه السلطة أصبح المثقف عضواً في قطاع المثقفين التابع للإيديولوجيا والحزب السياسي. وصار المثقف يستمد سلطته من سلطة هذا القطاع المنظم والمتحد والمؤهل لتنفيذ المهمات باسم الثقافة. البحث عن جذور أزمة الثقافة العراقية يقع في تحويل الثقافة الى اطار حزبي. لقد عمدت السياسة العراقية الى استكمال صورة المثقف السياسي الحزبي باعتباره جزءاً من حشد مكلف إيصال رسالة سياسية حزبية. في هذا الإطار كان الإبداع ثانوياً يستخدم للدلالة الى المثقف وليس لتعريف جوهره. وهذه الدلالة كانت تصنيف المثقف في سلطة الحزب السياسية في الدولة أو في المجتمع. في هذا التحويل الذي تم بنقل المثقف من موقعه المدني الى موقع السلطة الحزبية والرسمية، تحولت وظيفة الثقافة الى سياسية مباشرة. وجرى تصنيف أهمية المثقف وأهمية انتاجه استناداً الى موقعه في السلطة السياسية والحزبية. وأصبح المثقف العضوي الحزبي يقيس المثقف الآخر بقدر ولائه للحزب، وإذا نقص عدد المثقفين في الحزب فإن الحزب يعمد الى ترحيل انصاف مثقفين الى قطاع المثقفين. ومن سوء طالع الثقافة العراقية منذ الخمسينات حتى اليوم ان تكون العناصر الأساسية للهوية فيها هي العناصر السياسية. وعلى رغم التاريخ المدوي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، للعراق خلال نصف القرن الأخير، الا ان الثقافة، وبسبب الطابع الايديولوجي والحزبي الضيق، لم تستطع ان تكون المرجعية لذلك التاريخ. وهذه المفارقة قامت على الصدمة السياسية للثقافة، الصدمة التي أعاقتها عن ان تكون مرجعية تاريخية بسبب خوفها من التماس مع تاريخ يفترض تدويناً للأفكار قبل ان يفترض تدويناً للأحداث. وبانهيار تحالف الأدباء والكتّاب والفنانين من مسرحيين وتشكيليين وغيرهم عادت الثقافة الى انقسام سياسي وحزبي ثنائي. وفي مطلع الثمانينات وجدت الثقافة العراقية نفسها تعاني التسمية والاصطلاح والبحث عن مفهوم أو اطار جديد في المنفى، يميزها، سياسياً، عن ثقافة تنتج داخل العراق. فاخترعت مفهوم ثقافة البديل الذي لم يتميز سوى بطابع التوجيه الحزبي المباشر للثقافة. بدايات الأزمة منذ الخمسينات أطلق اليسار العراقي على ثقافته اسم الثقافة الوطنية ذات الطابع الديموقراطي. وتوسع استخدام المصطلح من دون ان تتطور معانيه التي اقتصرت في أغلب الأحيان على تماثل الايديولوجيا الماركسية بشأن توصيفات مثل المثقف كبورجوازي صغير، والأدب البروليتاري، والوظيفة الاجتماعية للأدب والفن. وقاد الخوف من تهمة المثقف كبورجوازي صغير الى تماثل بين الايديولوجيا والثقافة جعل المثقف العراقي اليساري يكرس دوره الحزبي ويسعى للتحول الى "مثقف عضوي" على طريقة غرامشي. بهذه الطريقة أصبح المثقف اليساري محارباً في الصفوف الأمامية للأحزاب يضخ في ابداعه الشعارات والتصورات والمفاهيم الايديولوجية لحزبه، ويترقب عضوية الحزب بعد سنوات من حضور الاجتماعات الحزبية التثقيفية التي يترقى خلالها المثقف الذي غالباً ما يكون ممارساً للاغتراب بقيادة مسؤولين بعيدين من الوسط الثقافي ينظرون الى المثقف بريبة ونزعة عدوانية. وخلال عقدين أو ثلاثة كانت النتيجة ان المثقف العراقي جمع السياسي والثقافي والايديولوجي في شخصية واحدة، وسينعكس هذا أكثر في المنفى في مطلع الثمانينات. في مقابل هذه الظاهرة برزت ظاهرة ثقافية أخرى اتسعت في نهاية الخمسينات وتبلورت مطلعت الستينات، تميزت بظهور المثقف القويم الذاهب الى عروبة الثقافة وتراثها منغمساً في تصنيف المثقف الى شعوبي وعروبي، عازفاً عن رؤية ذاته الا من خلال استقطابه في طرف ايديولوجي قومي يحارب مستقطباً في طرف ايديولوجي آخر. خلال هذا الاستقطاب انقسمت الثقافة الى مصطلحي ثقافة اليسار وثقافة اليمين، والى مصطلحي الثقافة التقدمية والثقافة الرجعية والى مصطلحي الثقافة الثورية والثقافة المحافظة. وفي عام 1973 تم التحالف بين حزب البعث الحاكم وبين الحزب الشيوعي العراقي. وتم تقسيم الثقافة العراقية الى اتجاهين وانتماءين حزبيين المشترك بينهما تمثيل اليسار بشقيه الماركسي والقومي، وبدأ الهجوم على المثقف الذي لا يستجيب للعمل الحزبي أو الإيمان بالاشتراكية والتقدمية كما في الذهنية الدوغمائية. وتم النظر الى الثقافة كانعكاس ايديولوجي. وشكل هذا الموقف امتداداً للاحتراب الايديولوجي والسياسي الحزبي في نهاية الخمسينات. وحين تدهور التحالف واضطر الشيوعيون للرحيل الى المنفى برزت بصورة أكثر الحاحاً مساهمة المثقفين العراقيين في "النضال ضد الدكتاتورية واسقاط النظام". وتم تشكيل رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين الديموقراطيين العراقيين لحشد أكبر عدد من الأشخاص في تنظيم ثقافي حزبي مع بعض العناصر الديموقراطية المستقلة. كان هذا التنظيم واجهة سلمت للأعضاء الحزبيين بعد ان حشدوا فيه كماً مختلف المستويات والمواقع الثقافية، وانخرط فيه أشخاص اميون لا علاقة لهم بالثقافة سوى محاكمتها بين فترة وأخرى انطلاقاً من التوافق مع الحزب أو أعضائه الذين أخذوا بدورهم يخضعون للمحاسبة على الولاء للقيادة لا للحزب، ومنع أي انتقاد أو تفكير ثقافي خارج مسطرة الولاء للقيادة. توزعت خريطة هذه المنظمة على بلدان عربية وأوروبية، أي حيث وجدت تنظيمات للحزب. وأخضعت لإشراف مباشر من المنظمات الحزبية التي تدخلت في توجيهها وفرض حزبيين لا علاقة لهم بالثقافة. وبعد سنتين تقريباً انحسرت الدائرة الإعلامية لهذه المنظمة وابتعد عنها الكثير من المثقفين العراقيين وبينهم حزبيون لم يستطيعوا تحمل التوجيه القاسي للثقافة على أساس الولاء لأشخاص في قيادة الحزب. واقتصرت على عدد من الحزبيين كانوا يستفيدون من مطبوعاتها ومطبوعات الحزب لتسويق أنفسهم ثقافياً ثم انحلت عام 1990 أوتوماتيكياً بعد ان استنفدت أغراضها الحزبية والإعلامية. ولا تزال تجربة هذه المنظمة بعيدة من التقويم سواء من الحزب أو من مثقفيه أو من المثقفين الديموقراطيين. * كاتب عراقي مقيم في لندن.