لعل أول من استعاد التفكير بما سُمّي «مشروع النهضة العربية» هو المثقف القومي الأيديولوجي، أو تلك النخب التي حوَّلت الفكرة القومية، التي كانت في بداية نشوئها في أواخر العهد العثماني، متصالحة مع الليبرالية، إلى إيديولوجية قومية راديكالية شعبوية لا تقيم وزناً للفكرة الدستورية الديمقراطية، ومن ثم تصدَّرت العمل السياسي من أجلها، ولاسيما في الحقبة القومية الممتدة من الخمسينات حتى بداية السبعينات. وكانت مفرداتها المتداولة آنئذ هي: الثورة الاشتراكية، التقدمية، الوحدة ذات المضمون الاشتراكي، أما النهضة والثقافة والمشروع النهضوي فقد وضعتها في زوايا النسيان، ومعها الديموقراطية وحقوق المواطنة. لكن عندما وصلت تجربتها ( الثورية ) إلى طريق مسدود، وتبين بالأقوال والأفعال، أن الطريق إلى التنمية والوحدة والحرية، الذي سلكته، عبر بنائهم لنظمهم (التقدمية)، قاد إلى التضحية بحرية البشر وكرامتهم، وإلى خسران الحرية والوحدة والاشتراكية! هذا الفشل، قاد ما تبقى من نخب قومية أيديولوجية إلى استرجاع التفكير في النهضة، كنوع من الاعتراف بتقصير هذه النخبة عن فهم انفتاح الخطاب النهضوي على العالم وقيمه الديموقراطية، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية، شكَّل هذا الاسترجاع لها نوعاً من العودة النستولوجية لمرحلة انتهت وانقضت بانقضاء المرحلة التاريخية التي حاولت النهضة الإجابة عن أسئلتها،أي إلى المرحلة التي بدأ فيها العرب التعرف على تقدّم الغرب، قبل أن ينخرطوا في الحداثة ويشاركوا العالم فعلياً في مشاكله، ولو من موقع أضعف، وأدركوا حينها الفارق بين مستوى تطور بلادهم وتقدم أوربا، فصاغوا أسئلتهم وأجوبتهم للوصول لمعرفة السبيل لمواجهة تفوق الغرب، وانحدار الشرق، وذلك إجابة عن السؤال المفصلي الذي طرحه أرسلان، ولخَّص فيه إشكالية النهضة: لماذا تراجع المسلمون وتقدم غيرهم؟ وحاولوا في السياق نفسه إحياء تراثهم الثقافي واستلهام الثقافة المعاصر. لم يستطع النهضويون إنجاز مهماتهم لافتقادهم إلى قاعدة اجتماعية تاريخية مساندة لخطابهم، ولوقوع العرب تحت قبضة الاحتلال والانتداب والوصاية، ثم دخلوا بعدها في مسار مختلف، انخرطوا فيه في قلب التبادلات العالمية: تبادلوا السلع واستوردوا العلم والتحديث الثقافي المعاصر، وذاقوا طعم الاستقلال السياسي، وخاضوا تجارب مخفقة في التنمية تحت يافطات مختلفة كانت الديموقراطية إحدى ضحاياها. لكن كانوا خلال ذلك كله قد اندمجوا في التحديث، وأصبحوا جزءاً من العالم، دون أن يكونوا الجزء الأفضل فيه، وأبدعوا ثقافتهم القومية المعاصرة الموحدة، وأحيوا تراثهم الثقافي بكل جدارة، وكانت هذه أحد أحلام النهضويين. وظلت أمامهم مشاكل كبرى تنتظرهم: التنمية الإنسانية الشاملة تكون نقطة انطلاقها الإنسان وليس التقنية، وذلك بديلاً عن الإستراتيجية المتبعة القائمة على: صناعة بدل الاستيراد، ومن ثم الانخراط في العالم كمشاركين في صنع الحضارة الإنسانية، وصياغة تجمع عربي تكاملي وتعاقدي، على غرار أوروبا، عن طريق تطوير صيغة الجامعة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره .فلقد تجاوز العرب الوضعية التاريخية للنهضة ،وأسئلتها وأجوبتها ،ودخلوا في طور جديد ،يحتاج إلى أجوبة ملموسة وليست ضبابية، تعيد تدوير أجوبة الماضي على أسئلة الحاضر. ولقد تلقفَّت النخب القومية فكرة النهضة، في سياق مراجعتها لتجربتها المرّة، فتوصلت، بعد حوار طويل، إلى صيغة، جمعت فيها بين أهدافها القديمة وفكرة النهضة الأكثر قدماً، تحت عنوان «المشروع النهضوي الحضاري العربي»، مضمونه الجمع بين بعث التراث الثقافي العربي، مع تفعيل علاقتنا بالثقافة المعاصرة، لنصبح على المستوى الندي لها، أما ضمّهم لعنصر «الحضارة» فهو نوع من التمسك بالخصوصية الثقافية العربية، لأن من واجب العرب، وفق زعمهم، وهم يصنعون نهضتهم المقبلة، أن يبدعوا حضارتهم الخاصة بهم، في سياق بناء الحضارة الكونية الواحدة، وذلك ليكونوا عنصراً مشاركاً لا يكتفي بدور المراقب، والمتلقي، ولم يكتف نهضوينا الجدد بهذا الطموح للصياغة الأكثر عمومية والأيديولوجية للنهضة العربية المقبلة، بل حاولوا وضع أهدافٍ ملموسة لهذا البرنامج النهضوي لخصوه ب: قضية الوحدة، وقضية الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، فاتجهوا بذلك إلى تسييس المشروع النهضوي العمومي، ليحولوه إلى برنامج حزبي يساري قومي، بديلاً عن شعاراتهم في المرحلة (الثورية): وحدة حرية اشتراكية. والحال فإن هذا المشروع، بما فيه من أهداف كبرى، ليس سوى طوبى جديدة تصنعها النخبة القومية، لتبرهن فيه على تمسكها بدورها «الطليعي»، الذي لا تستغني عنه، وعلى أنها القائدة المعبرة عن الأمة، والمفكرة بالنيابة عنها في مستقبلها، ولتبرهن على أنها لا تزال متمسكة بضرورة امتلاكها نظرية شمولية تحيط بكل شيء، كما أن تمسكها بفكرة (التنمية المستقلة) بديلاً عن (الاشتراكية العربية) يدل، مرة أخرى، على أنها لم تغادر بعد فكرة الدولة الشمولية التدخلية، بما تتضمنه من تخطيط مركزي شامل، وإشراف (الطليعة)على توزيع الفائض، وهي فكرة جربها العرب وجربها غيرهم فلم يحصدوا سوى خراب البلاد والعباد. والحال إن الحضارة، أي حضارة، لا يمكن التفكير بها وبعناصرها وأساليبها، وسلوكياتها مسبقاً، قبل أن يتم صنعها بالممارسة، فالحضارة مثل السباحة، لا يمكنك أن تصنع نموذجها مسبقاً في الذهن، فهي تُمارس أولاً ثم يجري التفكير فيها لاحقاً، فلا يمكن الوصول إلى معرفة «النموذج الذهني» للموسيقى أو الرواية أو القصيدة، أو العمارة، أو المأكل، والملبس، وأساليب الزواج، وطقوس الزيارة والتحية، فهذه مسائل تُمارس، ثم يأتي التفكير بها في ما بعد، وبكل الأحوال تظل مجالاتها متروكة للمفكرين، وصانعي الأفكار للتأمل فيها، وليست من الشؤون السياسية اليومية، والاستراتيجيات الحزبية، فهي مسألة تُدرس (بعدياً ) في مجال الأنثربولوجيا، وليس قبلياً في الاستراتيجية السياسية. فعلى الحزب السياسي، أن يتخلص من وهم إمكانية صنع أيديولوجية شمولية تحيط بمعرفة كل شيء من قانون الذرة إلى المجرة، وأن يتمركز نشاطه على الشأن الملموس من القضايا التي تهم المجتمع أو الجمهور، والتي تتعلق أساساً بالبرامج الانتخابية، وباستحقاقات صندوق الاقتراع. وفي الجمع بين مستوى البرنامج الانتخابي، وتحديد خطط استراتيجية قائمة على الوقائع، ويصبح من الضروري فصل الأيديولوجيا عن السياسية، وبين الدين والسياسية، كي ينتقل العرب من مجال المطلق إلى النسبي، ومن حكم الحزب الواحد، إلى صيغة التعددية الديموقراطية، ومن العقلية الانقلابية إلى فكرة التداول السلمي للسلطة. * كاتب سوري