تسريع إنشاء الميناء الجاف يحل أزمة تكدس شاحنات ميناء الملك عبدالعزيز    الذهب لأعلى مستوى مع تراجع الدولار وترقب إشارات «الفائدة».. والأسهم ترتفع    النفط يستقر رغم انقطاع الإمدادات والمخاطر الجيوسياسية    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    الخليج يتخطى الشباب البحريني ويتأهل لنصف نهائي "آسيوية اليد"    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    خبر انطلاق منتدى مكة لريادة الأعمال وحفل التدشين    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    رهانات زيارة ماكرون للمملكة العربية السعودية    أشبال أخضر اليد يحققون انتصارهم الثاني في البطولة العربية أمام الجزائر    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    سهرة مع سحابة بعيدة    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    الشورى يطالب «التنمية الاجتماعية» بتغطية المناطق كافة    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    رغم تناقضاتهم.. تجمعهم كراهية السعودية !    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    ماكرون: لدى الصين دور رئيسي في تجنب التصعيد النووي    تحت رعاية خادم الحرمين.. مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    وطن الطموح    الترقيات الاستثنائية ودورها في حياة الموظف    كلب ينقذ سائحاً من الموت    نيابةً عن سمو ولي العهد.. وزير الخارجية يرأس وفد المملكة في قمة» العشرين»    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    أرامكو توسع مشاريع التكرير    ثقافات العالم    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    وزير الخارجية يترأس وفد المملكة المشارك بجلسة «التنمية المستدامة والتحول في مجال الطاقة» في قمة مجموعة العشرين    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    القبض على مواطن لترويجه 44 كيلوجراما من الحشيش في عسير    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    عودة للمدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو تأصيل عربي لثقافة الديموقراطية وحقوق الانسان
نشر في الحياة يوم 29 - 12 - 1999

تقع موضوعة الثقافة والديموقراطية اليوم في قلب الخطاب الثقافي العربي. ويصخب ايقاعها في ادبيات المثقف الذي ينازع تغيرات هذا الخطاب. ويبدو المثقف متناقضاً وهو يتبنى الديموقراطية ويعمل، في نفس الوقت، ضد ما تشترطه هذه الديموقراطية من تعددية ومؤسسات مدنية وحقوق انسان. ومصدر التناقض هو ان المثقف الذي يسعى لتضمين خطابه مفاهيم الديموقراطية وحقوق الانسان ينطلق من موقعين: موقع الحاجة الى احتواء هذه المفاهيم في عصر يتسم بسيادة مفاهيم الديموقراطية ومشتقاتها. وموقع حاجة المثقف الى بديل ظاهري عن الايديولوجيا ليكون هذا البديل محتوياً على جوهر الايديولوجيا التي يتبناها المثقف نفسه. ان عددا كبيراً من المثقفين ذوي الخطاب الديموقراطي يضيقون ذرعاً بالتعددية لأنها تقلل من حجم مواقعهم وتضطرهم الى المنافسة، ويعملون ضد مؤسسات المجتمع المدني لأنها تضيق من حجم احتكارهم وهيمنتهم. فمثلاً يندفع المثقف الى الانخراط في منبر ثقافي ويحوله الى منبر ديموقراطي في الظاهر وجوهر ايديولوجي شمولي في الباطن يحتكر الثقافة ويستشيط فرقاً اذا تأسس منبر ثقافي آخر يتيح للآخرين التعبير عن انفسهم لأنهم لا يتاح لهم التعبير عن ذلك في المنبر الاول. هكذا نجد ان الخطاب الثقافي الديموقراطي خطاب سلطوي ديكتاتوري اكثر منه خطاباً ديموقراطياً حقيقياً. اي انه خطاب ديموقراطي مزيف. وبهذا يقع المثقف في تناقض المطالبة بديموقراطية تقتصر على موقفه وايديولوجيته وهو الخطاب الذي شاع في الصراع السياسي والايديولوجي العربي طوال نصف قرن بين اليمين واليسار وبين الماركسيين والقوميين وبين السلطة والاحزاب المعارضة. لذلك نرى الخطاب الثقافي العربي الداعي الى الديموقراطية وحقوق الانسان ينزع للدفاع عن انظمة ديكتاتورية وقمعية تصادر حقوق الانسان وتسحق الديموقراطية لان هذه الانظمة تشترك في قاعدة ايديولوجية واحدة مع خطاب هذا المثقف، او انها ما تزال تمثل وتحمي مصالحه وموقعه ونفوذه او انه يجد دورا لدى القاعدة الاجتماعية التي تميل الى هذه الانظمة بحجة العداء للامبريالية مثلاً او رفض الغرب او ترديد مفهوم الحروب الصليبية او النظام العالمي الجديد والعولمة مؤخراً.
واذا تم فحص خطاب المثقف العربي نجد ان هناك تبجيلاً لغياب الديموقراطية عن طريق اتخاذها موضوعاً لدغدغة عواطف الجمهور. كما نجد في الخطاب الثقافي سخرية مبطنة من الديموقراطية باعتبارها جزءاً من الشكل الغربي للحياة السياسية والثقافية، وبالتالي فهي ضد سلطة الحزب الواحد التي عاش في ظلالها المثقف العربي ماركسياً او قومياً.
يتم طرح موضوعة الديموقراطية من وجهة نظر سياسية فقط ، بعيدة تماماً عن طابعها الثقافي وارتباطها بالذهنية والتصور والمفاهيم السائدة. فالديموقراطية، عربياً، حتى الآن على الاقل، مفهوم مطروح كنقيض للسلطة الحاكمة، ويبدو هذا كافياً، وبمعنى آخر ذريعة او تبريراً للموقف المعارض. وهي لا تتعدى هذا، لأنه بمجرد امتلاك السلطة على المجتمع او التجمعات، يبقى مضمون الفكر هو نفسه، ويبقى جوهر التحكم بالسلطة واسلوب استخدامها هو نفسه، حتى ان الثقافة، لدى المعارضة المنادية بالديموقراطية، هي ايديولوجيا وانتاج موجه ومسيطر عليه، يراعي الشروط الايديولوجية لهذا الحزب او ذاك من احزاب المعارضة، ولا يلتفت لشعارات الديموقراطية والمجتمع المدني والتعددية وحقوق الانسان التي دعا اليها من قبل.
ان المثقف العربي، كمثقف في الدولة، في الادارة الثقافية الحكومية، كمنتج ثقافة في اجهزتها الدعائية، وليس كمعلم، او استاذ في معهد، او موظف في جهاز الضريبة، او الضمان الاجتماعي، او الصحة او اية دائرة حكومية اخرى يرتبط ابداعه بمورده المالي. اي ان الثقافة تدر عليه مرتباً لأنه مثقف. وبالتالي فان نمطه الثقافي الجديد يكون، في حالات كثيرة، متعارضاً مع دوره وموقفه، لكن القضية الاساسية تبقى قائمة، وهي ان المثقف كمنتج لعمل ثقافي يقوم بدورة حصان الناعور، ويشكل احتكار الثقافة من قبل الدولة عائقاً كبيراً امام تطور المثقف. لكن، هل من الانصاف ان نقول ان المثقف يتحمل وزر هذه النتيجة التي وصل اليها ليقف اليوم وحيداً مهزوماً... وبالتالي فإن ثقافة حقوق الانسان تواجه تحدي المثقف المنادي بهذه الحقوق ايضاً.
التطورات العاصفة التي مرت بالعالم في عقد التسعينات وتعمق الصراع بين "الواقع" و"المفهوم" أرجع كثيراً من المفاهيم المطروحة في العالم العربي الى ما وراء الواقع، وبالتالي فإن هذا الواقع نفسه رمى المثقف العربي في الفراغ. فصار يبحث عن دوره في مكان آخر بعد ان كان يبحث عنه في حزب او حركة سياسية. لكن هذه النتيجة، لسوء الحظ، لم تكن بريئة ثقافياً، كما لم تكن بريئة سياسياً، خصوصاً لدى السياسة الرسمية. لكن النتيجة واضحة: ان دور المثقف ثورياً طرح لنا دوراً للمثقف المعني بثقافة حقوق الانسان والداعي الى المجتمع المدني والتعددية. اي انه تحول الى مثقف تنويري. ولكن كيف يمكن تجذير طرحه للمفاهيم المتعلقة بالديموقراطية وحقوق الانسان في المجتمع؟
المثقف التنويري نفسه، الذي كان يئن تحت وطأة الدور التثويري للمثقف، ما زال يئن تحت وطأة الدور النمطي الذي سيوسع الهوة بين المثقف النمطي وبين المثقف الحر اكثر فأكثر، بينما يضيق من الفجوة القائمة في التماثل بين الثقافة والدور النمطي للمثقف. اي ان التحدي الذي تواجهه ثقافة حقوق الانسان يكمن ايضاً في دور المثقف نفسه طالما يدور الحديث عن ثقافة حقوق الانسان.
لا يعني هذا بالطبع تبرير طبيعة واجراءات السلطة العربية القائمة. لكن هذه السلطة متهمة بمصادرة الديموقراطية، وبالتالي فإن علينا ان نرى كيف يمكن ان نعمل مع هذه القوى العربية من اجل الديموقراطية كممارسة وليس كشعار. اي تأصيل ثقافة حقوق الانسان كظاهرة مرتبطة بالقانون والدستور وطبيعة السلطة ودور المجتمع في هذا التأصيل.
ما يزال كثير من القوى السياسية العربية المعارضة ينشر الثقافة التي ترى في الديموقراطية طابع الرأسمالية والامبريالية والبورجوازية، وهي لا تشذ بذلك عن كثير من الانظمة العربية العشائرية او القومية الاستبدادية التي تحافظ على جوهرها ومضمونها بإحالة نقيضها، اي الديموقراطية، الى انتاج غربي. فالديموقراطية الغربية مطروحة في العقلية العربية السائدة على اساس انها ديموقراطية مزيفة. والديموقراطية الحقيقية هي ديموقراطية كل حزب وحده، وليست ديموقراطية الاحزاب الاخرى. وهذا الصراع لا يقوم على اساس تحقيق الديموقراطية او ممارستها او الوصول الى وعي حقيقي بها، بل الوصول الى وعي زائف. فالديموقراطية على هذا الاساس موجهة، مؤدلجة، ذات مضامين اقتصادية واجتماعية شمولية او شبه شمولية، والثقافة في هذا التصور عن الديموقراطية، موجهة وحزبية، واذا كان هناك سبيل لجعلها ثقافة الحزب الحاكم مستقبلاً، تحت راية الديموقراطية! فيجب جعلها هكذا، وأما التعددية فهي حالة منفى او حالة فقدان القدرة على السيطرة على توجيه الثقافة.
لعل هذا يكشف اهمية العلاقة بين الثقافة والديموقراطية وحقوق الانسان. فاذا كان كل نظام شمولي في حاجة الى منظومة ايديولوجية تتدخل في الخاص والعام، فإن غياب هذه المنظومة في البيئة الديموقراطية يشكل تهديداً لالديموقراطية المؤدلجة التي ترى حقها في فرض الهيمنة على المجتمع، وبالتالي ابقاء المجتمع في حال تبعية سياسية واقتصادية وفكرية للسلطة. فالسلطة هي نتاج ارادة سياسية سواء في الاستبداد او في الديموقراطية. لكن السلطة المستبدة هي سلطة فردية سواء كانت حزباً او طغمة او عائلة او زمرة، على العكس من السلطة في النظام الديموقراطي التي تقوم على عقد بين هيئتين او طرفين هما مجموع المواطنين الذين يتنازلون للطرف الثاني الدولة وليس السلطة عن ارادتهم، مقابل ان تكون هذه الارادة محترمة ومصانة تقوم الدولة بموجبها بالتصرف مقابل الالتزام بحماية حقوق المواطنين واحترام ارادتهم. وهذا العقد ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل هو عقد بمحتوى اجتماعي وشكل ثقافي لا يمكن الفصل بينهما. فالثقافة التي تقوم على وعي هذا العقد وشروطه وحقوق وواجبات كل طرف فيه، ترتبط بمضمون هذا العقد واهميته. والشكل الثقافي لهذا العقد ليس شكلا مجرداً، بل هو مرجعية اساسية للديموقراطية، لا يقوم خلاف الا ويتدخل هذا الشكل للحكم علىه وحله سلمياً قدر الامكان.
فالديموقراطية هي الدولة فوق السلطة بينما الديكتاتورية هي السلطة فوق الدولة. وهذا الشكل من العلاقة قام على ثقافة أصلت لهذه الظاهرة كمفهوم حقوقي واجتماعي وثقافي لا يمكن تجاوزه بانقلاب او خروج على السياق السلمي للدولة. فالسلطة في الديموقراطية لا تملك الدولة التي تظل ممثلة للجميع في حالات انتقال السلطة.
وبمعنى آخر، فإن الثقافة المرتبطة بالديموقراطية تتجنب العنف وتتجنب وسائل الاكراه الاخرى كالايديولوجيا الرسمية التي تمارس الارهاب الفكري والجيش والصحافة المؤممة والميليشيات واجهزة القمع المختلفة في حل الخلاف السياسي واختلاف وجهات النظر وفرض وجهة نظر واحدة ووحيدة عن طريق العنف والاكراه.
هنا بالضبط تقوم مفارقة كبرى بين الديموقراطية والاستبداد، بين الليبرالية والشمولية، وتتمثل هذه المفارقة في التماثل بين الثقافة والايديولوجيا. فالديموقراطية تدفع الايديولوجيا الى الخلف وتقيم الثقافة محلها، وهي تسعى الى تعميق الفروق بين الثقافة والايديولوجيا، بينما يحدث العكس في التصور الايديولوجي الشمولي، اذ تتماثل الثقافة والايديولوجيا وتحل الايديولوجيا محل الثقافة.
ويشهد الوضع العربي، حتى في المعارضة التي تتحلى بثقافة -ايديولوجيا، تماثلاً وتطابقاً بين الثقافة والايديولوجيا، وبذلك تسود المفاهيم الايديولوجية عن الديموقراطية، وتتأدلج الديموقراطية، وتسود ثقافة مضللة ومؤدلجة عنها تبقي المفاهيم الحزبية السائدة كما هي، وتحارب بشعار الديموقراطية بنفس العزيمة التي تدافع بها عن معتقدها الايديولوجي.
تحت هذا الفهم تصبح التعددية ضربا من الوهم. فالتعددية هي الاعتراف بالحق المتساوي للآخر، وليس الاضطرار الى التعايش معه فترة محددة. ويقوم فهم ثقافي - ايديولوجي عن التعددية يعتمد المنافسة غير المشروعة التي تقوم على التشهير والابتزاز للحفاظ على الهيمنة ومواقع النفوذ باسم الديموقراطية ورفع شعاراتها.
ان الاسلوب السائد يفرضه تاريخ من الثقافة الحزبية والسياسية عن موقع ودور الدولة - السلطة وحقها المطلق في فرض الواجبات والتمتع بالحقوق وموقع المجتمع بالنسبة للحزب، خصوصاً الحزب الحاكم، الذي يقوم بفرض سلطته على المجتمع من خلال استخدام ادوات الدولة، ويلغي مفهوم المواطنة لمصلحة مفهوم عضوية الحزب.
ولعل شعار "كل مواطن بعثي وان لم ينتم" الذي طرحه حزب البعث الحاكم في العراق في بداية السبعينات يكشف بوضوح الايديولوجيا التي تتحكم بالعلاقة بين المجتمع والدولة من خلال الحزب الحاكم الذي يضع الانتماء الحزبي فوق الانتماء الوطني. وفي العالم العربي تأخذ الدولة موقعا اكبر بكثير من موقعها في الفكر السياسي او في الذرائع الايديولوجية المقدمة عنها حيث تتماثل السلطة مع الدولة. فمفهوم الدولة العربية مايزال قائماً على امتلاك حق التصرف بالمجتمع واخضاعه لإرادة الدولة، وتنتج الدولة مفاهيمها الثقافية عن المجتمع والعلاقة بينه وبينها، وتصدّر هذه المفاهيم الى المجتمع من فوق الى تحت عبر وسائل الاكراه التي تملكها، ومنها وسيلتان تتعلقان بموقع هذه الدول في اطار نمط الانتاج الآسيوي الذي يتصف، في جملة ما يتصف به، بقدرة الدولة على امتلاك موقع اقتصادي يجعل الناس في حاجة الىها لا العكس، كما يتصف بالقدرة الايديولوجية والمعتقدية للدولة التي تفرضها، وتفرض هيمنتها بواسطتها، على المجتمع.
ويأخذ الشكل الحديث لهذا النمط دولة الريع التي تعمد، في احسن الحالات، الى سد حاجات المواطنين الاقتصادية مقابل التنازل عن دورهم السياسي. وهذه الظاهرة الجديدة كرست ثقافتها التي تحولت الى قناعة لدى كثير من افراد المجتمع الذين أناطوا، بعقد آخر، غير متفق عليه وغير موثق إلا من طرف الدولة عبر هيبتها، ممارسة النشاط السياسي بالدولة- الحاكم وليس بالأحزاب السياسية.
ويتضح من هذه الظواهر غياب تام للثقافة المتعلقة بالديموقراطية كونها نوعاً من المرجعية الاجتماعية للديموقراطية، اذ من دون مثل هذه الثقافة لا يستطيع المواطنون الحكم على ضروب من الاجراءات السياسية والاقتصادية والتأثير فيها ومعرفة حدود وصلاحيات هيئات الدولة، وعلى سبيل المثال، ما هو موقع الشرطي في العلاقة بين المواطن والدولة. وهو مثل قد يبدو بسيطا، ولكنه يشير الى جوهر هذه العلاقة. فشعار الشرطة في خدمة الشعب هو جزء من ثقافة الدولة - السلطة والدولة - الحاكم وليس من ثقافة المجتمع. لأن مايجري هو عكس هذا الشعار تماماً. كما ان المواطن العربي مشبع بروح الفزع والريبة من الشرطي الذي لا يحمي القانون فعلاً بقدر ما يحمي الدولة -السلطة او الدولة - الحاكم، وبقدر ما يحمي الطغمة الحزبية او العائلية او العشائرية من خلال حماية ما تعتقده الدولة. فالقانون لا يسري على هذه الطغمة والشرطة لا سلطة لديها على هذه الطغمة، وبالتالي فإن وعي مهمات الدولة ووعي حدود صلاحيات المواطن ودور كل منهما لا يكفي تحديده في قانون او قرار ولا حتى في دستور من دون اشاعة الوعي الخاص بهذين الدورين، اي التثقف بثقافة ديموقراطية ليست مؤدلجة او ذرائعية. وهذه الثقافة الضرورية تنسحب على جميع الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بنوع السلطة السياسية وموقعها بين المجتمع والدولة والمرجعيات المتعددة الرسمية والمدنية التي يمكن ان تحدد شرعية تلك الظواهر.
وفي هذا الاطار نفسه تتشكل معالم الثقافة وهويتها، بمعنى ان الثقافة الحزبية ليست بالضرورة ثقافة ديموقراطية، فهي تتناقض مع الوعي الديموقراطي بدفاعها عن احادية الموقف وواحدية السلطة. والثقافة تستطيع ان تلعب دوراً في الديموقراطية حينما تكون مستقلة، وحينما تكون انتاجاً للمجتمع المدني وليس مؤسسة رسمية او اتجاهاً رسمياً يعزز سلطة الدولة ويمنحها الطابع الأبوي الذي توجه من خلاله المجتمع نحو عبودية معممة تشمل فئات المجتمع المدنية والعسكرية، المدنية والريفية، المهنية والسياسية.
ويكتسب الدور الايديولوجي والاقتصادي للدولة - السلطة اهمية كبرى في اشاعة الثقافة الاستبدادية وفي تعزيز دور المؤسسة الحاكمة في الذهنية الاجتماعية وفي التراث الثقافي الخاص بالعلاقة بين المجتمع والدولة - الحاكم. فالطاعة العمياء للدولة اكتسبت نوعا من القدسية العرفية والتقليدية في اذهان كثير من افراد المجتمع وتجمعاته القبلية والمنتجة للموارد الاقتصادية ايضاً، خصوصاً في القطاع الزراعي الذي يشكل غلبة في المجتمعات العربية حتى الآن على الرغم من العجز الغذائي الذي تعاني منه البلدان العربية من دون استثناء، وبذلك تكون الدولة - السلطة في الذهنية الاجتماعية العامة رب عمل وممولاً وممثلاً للقيم الدينية والقبلية والسياسية والفكرية في نفس الوقت. وبسبب هذا الدور المركب للدولة لا يستطيع المواطن الاستغناء عن اعتماده الكلي عليها، فهي التي تعطيه دوره وموقعه وحاجاته وتحكم عليه من دون قانون عام، على عكس ما يحدث في المجتمع المدني في الدولة الديموقراطية. وبذلك تتمكن الدولة، بفعل جبروتها ذي المرجعية الواحدة، من مصادرة حتى وعي المواطن الفرد الى جانب مصادرة حقوقه وفرض الواجبات عليه. ولا تكفي التعددية الحزبية المعترف بها دستورياً، وحدها، للقضاء على هذه الظاهرة، اذ ان ثقافة الاحزاب في احيان كثيرة تتناسب مع الفكر المطروح عن شكل الدولة ومحتواها ووظائفها اي انها تجسد، في جوهرها، مضمون الدولة - السلطة ومضمون الدولة - الحزب، لذلك فإن مثل هذه الاحزاب تطرح فكرة الحكومات الائتلافية تجنباً للانتخابات وفقدان الهيمنة على المجتمع التي اكتسبتها من خلال الثقافة القديمة التي لا تتناسب مع فكرة المجتمع المدني ومضمونه.
* كاتب عراقي مقيم في لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.