في 1968 حين استولى البعث على الحكم في العراق، كانت الحجج والذرائع التي يستدعيها طلب السلطة جاهزة متوافرة. - عراقياً: تَعاقبٌ متسارع للحكومات العارفية بما يدل الى تضارب في البرنامج والى ازمة سلطة. وهذا ما بدا معطوفاً على ضمور دور العراق في اقليمه ومنطقته. - عربياً: هزيمة 1967 وما عنته من انتكاسة كبيرة اصابت الزعامة الناصرية وطوّحت هيبتها، ومن ثم ركودٌ بادٍ على حركة الوحدة العربية ونشاطها، على أثر الانفصال السوري عن مصر الى 1961 وما تلاه من نزاع ناصري - بعثي مفتوح سبّبه انهيار مشروع الوحدة الثلاثية في 1963. - دولياً: وَهَنٌ شرع يصيب الماركسية السوفياتية عبّرت عنه في العام نفسه انتفاضة تشيكوسلوفاكيا، ناهيك عن انتعاش البدائل اليسارية على اختلافها، من الثورة الثقافية في الصين، الى الظاهرة الغيفارية، ومن الحركة الطلابية في اوروبا الى فيتنام. وهذه مجتمعة شكّلت مناخاً منعشاً لكل من قدم نفسه يسارياً بطريقة او بأخرى، من غيرا ن يكون شيوعياً. الى ذلك امتلك البعث في العراق "تاريخاً" يبدأ بوراثة "حزب الاستقلال" و"نادي المُثنّى" وحركة رشيد عالي الكيلاني و"المربّع الذهبي". والاخيرة هي التي انشأ ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في شبابهما هيئة لنصرتها عُرفت ب "نصرة العراق". اما بعد تأسيسه كحزب وانتقاله عبر الطلبة السوريين الى بغداد، فساهم البعثيون كطرف ثانوي في مواجهة العهد الملكي، وكطرف أقل ثانوية في مقاومة الحكم القاسمي، لينتهي بهم المطاف الى سلطة عسكرية عابرة بعد 8 شباط فبراير 1963. وفي موازاة ذلك وُجدت لبعث العراق عُدّة لغوية ذات مفردات واستعارات خاصة بها، هي التي تشكلت من اندماج النص العفلقي والنص القومي في بغداد كما صاغه تلامذة ساطع الحصري. يكفي ان نقرأ، مثلاً، من مقدمة النظام الداخلي ل "نادي المثنّى" في 1935، هذه الفقرة البعثية قبل الولادة الرسمية للبعث باثني عشر عاماً: "كان لنا الصوت الأعلى وكان الدهر ليّن الاخارع مُوطأ الاكناف وكانت العقيدة العربية تملأ الجوانح وتفعل في نفس الشاب العربي فعلها فيندفع وراءها يحمل روحه على كف، واسم أمته على الكف الأخرى، وينظر الى سجل الخلود ليكتب لأمته صفحة جديدة بين اسماء الامم. فكان مثال النجدة والتضحية والوفاء والعزّة والاباء والأنفة، ومثال التقدم يجيب النداء الاول لأول صوت، ويلبي الصريخ الاول لأول صيحة. يغيث المستغيثين وينصر الضعيف ويغضب للحق. ثم تنمّر الدهر واستأذب الزمن فكمنت تلك العقيدة في نفوس الابناء بعد ان فعلت فعلها في نفوس الاباء ... وما كادت الامة العربية تنهض في العصر الاخير، الا ووجدت نفسها مهددة بمطامع واخطار من شأنها اذا استفحلت ان تقضي على كيانها وتمزق شملها، ما لم توجد فئة من المتّحدين تقف سداً منيعاً امام هذه الاخطار، وتبعث في هذه الامة روحاً تدفعها الى الجهاد في سبيل حريتها. وفي هذا العصر، عصر الوثبات والندفاعات وتسابق الامم الى المجد والعزة والقومية، نرى عادات وافكاراً دخيلة هدّامة ونزاعات خاصة اقليمية وفكرية واجتماعية من شأنها ان تبدد الرأي وتبلبل الفكر، تتسرب الى شبان العرب فيندفعون وراءها اندفاعاً يؤدي الى ضعف العقيدة القومية وتخاذل النفوس وتقهقر الطباع العربية ... وماذا يقف امام بغداد التي كانت بالأمس مركز الخلافة للبلاد العربية والاسلامية وينبوعَ العلم للواردين اليها من تلك البلاد، ان تكون اليوم للأمة العربية موضع رحلتها في تحقيق املها وبعثها أمة واحدة قوية ناهضة. وهذه عيون العرب في اقطارهم متجهة الى بغداد تنتظر منهم الى تكون الزعيمة والرائدة الى المجد". لكن سريعاً ما تبيّن في الواقع الفعلي الذي تلا الاستيلاء على السلطة ان المقوّمات القومية لا تجدي كثيراً فيما الذرائع لا تعدو كونها ذرائع. فبالنسبة الى "الوحدة" لم تتحسّن علاقات بغداد مع دمشق بل ساءت، رغم تمسك الطرفين بلفظية راديكالية في ما خص النزاع العربي - الاسرائيلي. اما في ما خص الرئيس جمال عبدالناصر في سنتيه الاخيرتين، فلم يبادر العراق البعثي الى أية خطوة توحي التقارب فعلاً أو تدفع باتجاهه. وبالنسبة الى الموضوع الفلسطيني اقتصر الامر على تشكيل "جبهة التحرير العربية" كي تكون عين النظام على المقاومة الفلسطينية، وأداته للتأثير في قرارها والحدّ من استقلاليته. وفي المقابل فأمام تحديات اكثر جدية، صدرت الاوامر للقوات العراقية المتمركزة في الاردن، عام 1970، بالانسحاب من مواقعها بحيث لا تشكّل عازلاً يحمي قوات منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهتها مع الجيش الاردني. لكن الايديولوجيات، كما نعلم، لا صلة دائمة تجمعها بذرائعها او بمدى الحاجة الفعلية اليها. والراسخ ان الاحتياج الايديولوجي من حيث المبدأ، هو ما استدعاه تطلّب التوحيد المركزي الصارم والقسري للعراق، اي المهمة التي عجزت عنها السلطة المركزية منذ قيامها في ظل فيصل الاول. اما الامور الاخرى فمحض تفاصيل. والمقصود بالتوحيد ليس التقريب بين اطراف المجتمع، طبعاً، بقدر ما هو استخدام درجة من التقريب أتاحها الريع النفطي لاحقاً لتعبيد طريق السلطة الى المجتمع كله. لكن لئن استنجد هذا التوحيد من حول السلطة، بالذرائع القومية المذكورة أعلاه، فان اعتباراً آخر يخص البعث في العراق كان دائماً يعاكس مثل هذا الاستنجاد او يقوّضه. ذلك ان النزعة الثأرية كانت حاضرة على الدوام في "العودة" البعثية الى السلطة عام 1968. فهذه الاخيرة لم تفترق عن ميل حاد الى تصفية الحسابات مع قوى ساهمت، على نحو أو آخر، في اسقاط تجربة الحكم العابرة للعام 1963. فاذا لم تؤد الحملة البعثية آنذاك على "العصاة الانفصاليين البارزانيين" واستجلاب قوات سورية للمشاركة في قتالهم، الى تحقيق اهدافها، بل قادت الى اضعاف السلطة، فان مثل هذه الاهداف بدت قابلة للتحقق بعد ست سنوات. ولا بأس بالتخلي لايران عن شط العرب، في اواسط السبعينات، للتمكن من تصفية الحساب مع الأكراد. لكنْ لا بأس ايضاً بالانتقام من ايران، ولو تغيّر نظامها، بعد نصف عقد على ذلك. ولئن "خان" عدد من كبار الضباط حكمَ البعث الاول، فقد غدا اخضاع الجيش مهمة ملحّة بعد العودة، فقبع ضباط كثيرون في السجون وتم اغتيال حردان التكريتي، ذي المناصب العليا، يومها خارج العراق. ولما امكن لبعض السياسيين القوميين ان يلعبوا ادوارهم بعد سقوط البعث، وعلى حساب دوره، اضحى قلع شوكة هؤلاء السياسيين مطلوباً، على ما دل، مثلاً، تعذيب عبدالرحمن البزاز حتى الموت. وحتى البعث نفسه الذي كان انشقاقه في 1963 من مُمهّدات سقوطه، صار مطلوباً محاسبة الذين تسببوا في انشقاقه، ومن ثم استئصال كل احتمالات الخلاف والتبايُن في داخله. قصارى القول، وعلى ما يرمز التعاطي مع أكراد العراق خصوصاً، اصطبغت قسرية التوحيد بدرجة رفيعة من الثأرية، وكان كل اندفاع في أي من الوجهتين يغذّي الاندفاع في الوجهة الاخرى. وهذه المهام جميعاً، من التوحيد القسري الى تطويع المجتمع و"الثأر" من بعض قواه، تستدعي وجود الأداة الحزبية اكثر من استدعائها الايديولوجيا. فالايديولوجيا قد تخدم التوحيد الا انها تتعارض مع الثأرية، غير ان الحزب، بعد تشذيبه وإحكام السيطرة عليه، يمكن ان يؤدي الغرضين كأداة نموذجية في تأديتهما. هكذا بتنا امام حزبية فائضة وايديولوجية مضبوطة، متلوّنة وانتهازية، الشيء الذي تجسّد خصوصاً في التعامل الاستئصالي مع بعض ابرز ايديولوجيي الحزب، العراقيين بينهم كعبدالخالق السامرائي وفاضل البرّاك وعزيز السيد جاسم، وغير العراقيين كمنيف الرزاز. اما من تبقى من ايديولوجيين كسعدون حمادي وطارق عزيز فقُدموا جميعاً كسياسيين وجهازيين في مؤسسات الدولة والحزب. فصدام حسين، اذن، لم يحرص على غوبلزه أو على جدانوفه حرص هتلر وستالين عليهما، الا اذا افترضنا هذا الدور في لاجئين بائسين كشبلي او الياس فرح. على انه حرص، في المقابل، على بنية حزبية ليست قليلة التماسك ابداً، تتفرّع عنها تنظيمات شبابية ونسائية تمسك بخناق المجتمع. وهذا يردّنا الى ما هو في العراق الصدّامي اقل حداثية وأكثر أهلية، اي في هذه الحال ثأرية، مما في المانيا النازية وروسيا الستالينية. الى ذلك هناك إشكال آخر يخص العراق البعثي في علاقته بالايديولوجيا العروبية المفترضة. فأهلية العروبة محدودة جداً، بل خلافية، حين يكون البعث هو الطرف الحاكم الذي يريد دمج العراق والعراقيين. فالنازية، مثلاً، لا تتعارض توتاليتاريتها مع المانيتها، والشيء نفسه يصحّ في الستالينية التي كيّفت امميتها مع الدور القيادي والخاص لروسيا التي غدا الولاء لها معيار الاممية. اما في العراق فلا تنفع العروبية كثيراً، في الحيّز المتبقي لدور الايديلوجيا، لتوطيد الحكم التوتاليتاري. وتزداد صعوبة المهمة مع نمو الدولة وجهازها وجيشها وثقل دورها في الاقتصاد والتعليم، وهي العملية التي لعب فيها توسيع القطاع العام دوراً كبيراً. فاذا جاز لنا استخدام اللغة البعثية قلنا ان الفكرة القومية باتت تتعارض مع واقع قطري متنامٍ. فحين نضيف تعاظم الريع النفطي نجدنا حيال اغراء يداعب التوتاليتاريين جميعاً، وهو توافر الوسيلة للخلق من العدم. وهذا سبب آخر للحد من الالتصاق بالايديولوجيا البعثية. فقد غدا بناء الدولة القسرية ممكناً بخليط ايديولوجي قليل التماسك تم فيه اقحام سومر وأشور وأكد وتاريخ ما قبل العرب والعروبة عموماً. ومن ناحية اخرى عمل التورط في الحروب منذ مطلع الثمانينات على تكييف الايديولوجية البعثية في شتى المناحي والاتجاهات. فخلال الحرب مع ايران زادت الجرعة السنية من جهة، العِرقية من جهة اخرى، وخلال الحرب التي أثارها غزو الكويت زادت الجرعة الاسلامية شبه الاصولية. وهذا العنصر في الحقيقة مشترك بين التوتاليتاريات التي عملت جميعاً على احداث تعديلات ايديولوجية في أزمنة الحرب. وربما كان أشهر الأمثلة مصالحة ستالين، ابان الحرب الثانية، مع الكنيسة الارثوذكسية والقومية في روسيا، وكذلك مراسلاته عشية الحرب اياها مع هتلر حول "القرابة الدموية" بين الشعبين الالماني والروسي. تماماً كما استدعت "الحرب الباردة" تكييف الاحزاب الشيوعية بطروحاتها وسياساتها مع المتطلبات الاستراتيجية والمصلحية للاتحاد السوفياتي. غير ان الخاص في عهد صدام حسين تحديداً، وهو البادئ في 1979 قبيل انفجار الحرب مع ايران، انه كله زمن حروب، ومن ثم زمن تعديلات وتكييفات ايديولوجية تُضعف الاصل حتى توهنه. ما سبق لا يعني، بطبيعة الحال، انتفاء الحاجة الايديولوجية، بقدر ما يعني توظيفها حتى الاسترقاق. فاذا اهتمّت السلطة البغدادية بالثقافة والمثقفين على نحو غير معهود عربياً، بهدف بناء جهاز سلطوي من اجهزة الدولة، الا انه كان في وسع هذا الجهاز ان يقول اي شيء شريطة ان يمجّد الزعيم ويكرر ما يطلبه الظرف السياسي في لحظة معينة. فالقول ببعث مجد بابل ممكن تماماً كالقول ببعث مجد العرب أو مجد الاسلام. فلما كانت الحاجة الى الحزب شديدة الالحاح، ولما كان كل جهاز حزبي لا يلبث ان يستقل بذاته عن الايديولوجيا ويتحول عصبة تلوك سقط متاعها الايديولوجي، فالعصبة العراقية في هذا المعنى اكثر انفكاكاً عن مصادرها الفكرية المفترضة، وأصعب محاكمة تبعاً لمعايير عقائدية. فنحن يستحيل علينا، مهما تراخى النازيون والستالينيون في معتقداتهم، ان نفكر في بقاء سلطة نازية من دون محاولة نصر العِرق الاري او تسييده، كما يستحيل ان نفكر بسلطة يقيمها الحزب الشيوعي من دون همّ بناء الاشتراكية. لكننا في حالة العراق نعيش حيال سلطة بعثية ما عادت على الاطلاق مهتمة بتقدم حركة "الوحدة والحرية والاشتراكية" على نطاق عربي. وعلى ضوء هذا الفائض الحزبي والثأري مصحوباً بضمور المقدمات الايديولوجية، يمكننا ان نفهم خصوصية الدور الشخصي لصدام حسين. صحيحٌ ان الانظمة التوتاليتارية الحديثة تحتفظ كلها بجرعة وثنية تتمثّل خصوصاً في عبادة القائد. وصحيح ان هذا الاخير، على ما تدل حالتا هتلر وستالين، لا يلبث ان يتحول الى رمز أبوي لمشروع سياسي كامل والى لحمة للبناء العضوي الذي يتم تشييده. مع هذا، وعلى رغم فساد كثير عرفه النظامان النازي والستاليني، فان الزعيمين، لانهما ايديولوجيان وتاريخيان، لم يرتبط اسمهما بفساد، ولا ارتبط بالفساد اسم اي من اقاربهما المباشرين. وهذه ليست حال صدام أبداً هو الاقرب الى نموذج تشاوتشيسكو، او ربما عرّاب مافيا يلعب الدم، بمعناه المباشر والبسيط، دور الهادي "الايديولوجي" والسلوكي لحركته. فالثأر يرتبط بالدم، دم العدو، تماماً كارتباط الفساد بقرابة الدم التي اذا ما تم التنكر لها، على ما فعل الصهران، كان الموت جزاءهما المحتم. وحتى في المعركة الدائرة مع الولاياتالمتحدة يبقى لافتاً هذا النقص الكبير في البعد الايديولوجي والاعداد العقائدي للنزاع، بحيث تُصوهر المسألة في صورة ثأرية فحسب، كما لو ان هناك طرفاً يكره العراق لثأر له عليه، يجاب على كرهه بكره العراقيين له. وكم تعبر عن هذا الطابع المصطلحات البدوية للقاموس البعثي ك "ام المعارك" و"المنازلة الكبرى". والراهن ان صدام حسين يضعنا ازاء سلطة لا تقوم على الشرعية البرلمانية طبعاً، ولا تقوم على الشرعية التقليدية. الا انها ايضاً لا تقوم على "شرعية" ايديولوجية". ومع هذا فهي ليست بالاستبداد الشرقي البحت الذي يتجنب الفتنة بالطاغوت. فصدام يشبه في طاغوتيته مستبدين شرقيين كعبدالناصر او السادات، لجهة الانفصال عن المجتمع ومراتبه، ولجهة حكمه من خارجه لمجرد الاستيلاء على أدوات العنف. لكنه يغاير الاستبداد الشرقي في ان الفتنة، على يده، احتمال مقيم على الدوام، يغذيه الطاغوت ويراكمه في الخفاء، بدل ان يحول دونه. فالأهلي في هذه الظاهرة دموي وثأري، يرد الى المافيا. والحداثي فيها تنظيمي وقمعي، يرد الى النازية والستالينية. اما الافكار فليس هناك في الصدامية ما يرد اليها. فكرة واحدة فحسب تهيمن في غابة البعث على ما عداها هي فكرة الخوف.