بعد غياب طويل عن أزمة الجنوب اللبناني، عاد أرييل شارون وموشى أرينز الى مواجهة نتائج القرارات العسكرية التي اتخذاها بين عامي 1982 و1984. الأول أغرق اسرائيل في مستنقع عملية واسعة أدت الى إقصاء المقاومة الفلسطينية عن الحدود، وانبعاث مقاومة لبنانية عوضاً عنها... بينما أُنتدب الثاني عام 1984 كوزير دفاع بديل لإنقاذ الجيش الاسرائيلي من الورطة التي أوقعه فيها تهور شارون بعد غزو 1982. لم يكن اختيار نتانياهو لمنافسه على زعامة ليكود أرييل شارون أكثر من لعبة مزدوجة أراد بواسطتها إغاظة الوزير المستقيل ديفيد ليفي، وإحراج صديق واشنطن اسحق موردخاي. وبما ان شارون يمثل شريحة كبيرة من الجنرالات المغامرين، فإن وجوده داخل اللجنة الوزارية المصغرة أمن له الفرصة لمزاحمة موردخاي على كسب تأييد القيادة العسكرية. كما وان مواقفه السياسية المتطرفة أعانت رئيس الوزراء على الظهور أمام الرأي العام بمظهر المسؤول المعتدل القادر على موازنة الطروحات السلبية التي يعرضها وزير خارجيته. أما اختيار موشي ارينز، مكتشف نتانياهو وصاحب الفضل في تلميعه ديبلوماسياً، فقد خضع لاعتبارات أخرى تتعلق بظروف المعركة الانتخابية. ذلك ان انسحاب زعيم ليكود السابق دان ميريدور وبني بيغن نجل مؤسس الليكود مناحيم بيغن عرض الحزب الحاكم لهزة سياسية أربكت نتانياهو، وفرضت عليه الاستعجال لملء الفراغ بشخصية مجربة قادرة على استعادة الثقة من الشارع المشكك بفوز ليكود مرة ثانية. هذا الاسبوع أعادت أحداث الجنوب والبقاع الغربي الوزيرين شارون وارينز الى واجهة الأخبار على اعتبار ان الحكومة عهدت اليهما مسؤولية الدفاع عن القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن القومي. ولكي يثبت وزير الخارجية ان مشاركته في قمة "واي ريفر" لا تثنيه عن مواصلة تنفيذ مشروع الاستيطان، فقد وجه نداء الى المستوطنين يحثهم فيه على ضرورة الانتشار فوق التلال والهضاب. وكان من نتيجة ذلك انشاء سبع مستوطنات ضخمة نشرت "حركة السلام الآن" صورها في صحيفة "هآرتس"، مؤكدة ان الأشهر القليلة الفاصلة عن موعد الانتخابات ستشهد ازدهار المستوطنات كالفطر البري. وبما ان ارينز يقف في جبهة يمينية واحدة مع أنصار "اسرائيل الكبرى" مثل اسحق شامير وميخائيل كلاينر، فقد أعلن انه سيتم انشاء خمسة آلاف وحدة سكنية جديدة في "يهودا والسامرة". ومن المؤكد ان عملية البناء تسارعت قبل حلول موعد الانتخاب 17 ايار/ مايو خصوصاً وان المتنافسين يستغلون أصوات المستوطنين لزيادة حظوظ الفوز. وتتخوف الإدارة الاميركية ان تتمخض الانتخابات المقبلة عن ولادة حكومة يمين اخرى تقضي نهائياً على كل ما تبقى من تسوية شكلية لعملية السلام. والملاحظ ان زعيم "حزب العمل" باراك لم يجرؤ على انتقاد هذه العمليات المتنامية خشية ان يخسر أصوات المستوطنين وحلفائهم. ويبدو انه محاذر في التعاطي مع تجاوزاتهم بدليل انه أتهم نتانياهو بالخضوع للمستوطنين المتطرفين ووصفه بأنه أسيرهم. ولما سئل ما إذا كان سيصبح هو أيضاً أسيرهم إذا فاز برئاسة الحكومة، لم يقدم الجواب الحاسم، واكتفى بالصمت! الى جانب استغلال تأييد المستوطنين لكسب المعركة الانتخابية، يحاول نتانياهو مع أعضاء حكومته توظيف الموقف العسكري لخدمة الأهداف السياسية. خصوصاً وان عدداً كبيراً من المرشحين يطرح جنرالات الجيش كقوة احتياط وحيدة قادرة على انقاذ اسرائيل من أزماتها المعقدة مع العرب، وعلى هذا النحو يعرض وزير الدفاع المُقال الجنرال اسحق موردخاي برنامجه بدعم من الجنرال أمنون شاحاك رئيس هيئة الأركان السابق. وهذا ما يتباهى به زعيم "حزب العمل" الجنرال ايهود باراك، الرئيس السابق لهيئة الاركان العامة. من هنا كانت الحاجة الانتخابية لإظهار بعض الحزم والعزم في منطقة الشريط الحدودي، وذلك بهدف رفع معنويات القوات المسلحة التي مُنيت بخسائر جسيمة في الأرواح والعتاد. ولقد فرضت الحرب الخاسرة ضد "حزب الله" استبدال العقيدة الأمنية السابقة بعقيدة جديدة وضعها رئيس الأركان شاؤول موفاز، أي العقيدة التي تنقذ اسرائيل من عقدة الاحتفاظ بالتفوق العسكري كشرط لتوفير الأمن... بدلاً من إبرام اتفاقات سلام تكون وحدها الكفيلة والضامنة للامن والإستقرار. وزير الدفاع ارينز بالتعاون مع وزير الخارجية الجنرال شارون، قرر العودة الى المكان الذي خسر فيه معركته السياسية يوم حاول استرجاع هيبة الجيش الاسرائيلي عام 1984، ولقد اختار بلدة "أرنون" الملاصقة لقلعة "الشقيف" لكي يعلن ضمها الى "الحزام الأمني" ويحيطها بالأسلاك الشائكة. ويستدل من هذا التدبير الجائر ان حكومة نتانياهو تريد ابراز رفضها لعملية الانسحاب من "الحزام الأمني"، وذلك عن طريق توسيع مساحة الرقعة المحتلة، والتأكيد بأن الأشهر الثلاثة المقبلة لن تشهد أي تراجع أو مساومة. ويبدو ان ارينز وشارون ما زالا مسكونين بهواجس الماضي بدليل أنهما اختارا بلدة ارنون للانتقام من العمليات الفدائية السابقة، والتي كانت أرنون الممر الدائم لها، علماً بأن أرنون في ظل المقاومة اللبنانية فقدت أهميتها الأمنية منذ بطل استخدام قلعة الشقيف كقاعدة سليمة لإطلاق صواريخ الكاتيوشا. لتغطية الحملة الديبلوماسية التي شنها لبنان في الاممالمتحدة، حاول موشي أرينز امتصاص الضجة الاعلامية الخارجية بالإيحاء ان المقاومة اللبنانية تستخدم نشاطها للتأثير على نتائج الانتخابات الاسرائيلية واحراج حكومة ليكود. وقال أمام وفد من زعماء اليهود الاميركيين: "ان لبنان يملك كل مظاهر الدولة المستقلة، بدءاً برئيس الجمهورية... مروراً بالبرلمان... وانتهاء بالسفراء. ولكنه في الحقيقة ليس دولة، ذلك ان القرارات في شأن ما يحدث في لبنان تُتخذ في دمشق، وان معظم العالم يساير هذه التمثيلية". وكان بهذا الكلام يرد على أسئلة أعضاء الوفد وما يتعلق منها بانتقاد عملية ضم "أرنون" وامتناع اسرائيل عن الانسحاب من الجنوب حسب القرار 425. ولقد برر وزير الدفاع الاسرائيلي قراره بأن المصالح الأمنية الحيوية تفرض أقصى الحماية في الضفة الغربية وجنوب لبنان والجولان. واستبعد في رده ان يأتي الحل من الدولة اللبنانية التي وصفها بأنها "ألعوبة" وان دمشق تتحكم بقراراتها، حتى تلك المتعلقة منها بنشاط "حزب الله". وعلقت الصحف الاسرائيلية على هذا الكلام بالقول ان سورية تفضل هذه المرة فوز باراك لأن "حزب العمل" وعد باستئناف مفاوضات السلام معها من حيث توقفت. وعلى هذا الافتراض تبني الصحف حساباتها كأن نشاط "حزب الله" يخضع لاعتبارات انتخابية في اسرائيل الهدف منها إحراج نتانياهو واعضاء حكومته، وإظهارهم بمظهر الخانع المتخاذل. في رده على مسألة ربط حركة المقاومة اللبنانية بالأهداف السورية، أجاب الدكتور بشار الأسد في حديثه لمجلة "الكفاح العربي" بالقول: "في رأيي ان المقاومة الوطنية اللبنانية حركت مشاعر العرب والعقل العربي، واعادت للعواطف القومية الحياة، ووضعت اسرائيل في حال الضياع والحيرة بين قرارين: إما البقاء في لبنان مع تحمل المزىد من الضربات والخسائر المستمرة... واما الانسحاب من دون شروط مع ما يعني هذا من مذلة ومهانة واعتراف بالهزيمة. أما الاتهام بأن المقاومة هي ورقة ضغط سورية، فهذا تقزيم لدور المقاومة، ان المقاومة في نظري، ليست ورقة بيد أحد. بل هي حالة وطنية نشأت كنتيجة لاغتصاب أرض لبنانية". وحدث بعد استقبال الوزير أرينز لزعماء اليهود الاميركيين، واتهامه بأن "حزب الله" يعمل في المنطقة الأمنية بتوجيه من سورية... ان قُتل ثلاثة ضباط اسرائيليين في منطقة البقاع الغربي خارج "الحزام الأمني". وقدم سفير لبنان سمير مبارك لأمين عام الاممالمتحدة نتائج التحقيق الذي قامت به "لجنة تفاهم نيسان"، وفيه يثبت ان الضباط وبعض الجنود توغلوا خارج ما يسمى بمنطقة الشريط الحدودي، علماً بأن "تفاهم نيسان" يسمح للمقاومة اللبنانية بممارسة أعمال التحرير، كما تسمح كل القوانين الدولية بحماية أرض الوطن من كل عدو. وكتبت احدى الصحف المعارضة في اسرائيل تقول ان التوغل داخل الأراضي اللبنانية لا يعفي الجيش الاسرائيلي من المسؤولية. وذكرت الصحيفة بالأمر الذي أعطاه موشيه دايان لإسقاط الطائرة المدنية الليبية لأنها دخلت خطأ في المجال الجوي الاسرائيلي. وقالت ان الادعاء بأنهم ضلوا الطريق لا يعفيهم من مسؤولية ارتكاب الخطأ. يستفاد من الأحداث الجارية فوق الأرض اللبنانية ان الجنوب سيكون موضع اهتمام القيادة السياسية في اسرائيل، خصوصاً بعدما قرر ياسر عرفات ارجاء اعلان الدولة الفلسطينية الى آخر العام. ومعنى هذا ان حكومة نتانياهو فقدت ورقة ابتزاز اساسية في الانتخابات. وان التعويض عنها سيكون بتسخين الجبهة اللبنانية بشكل مضبوط لكي لا ينعكس القرار العسكري الخاطئ بشكل سلبي على الميزان السياسي، فيسقط نتانياهو بقانا ثانية. ويستنتج من كلام المسؤولين في "حزب الله" بأن نشاط المقاومة خلال فترة الانتخابات الاسرائيلية يجب ان يراعي أصول اللعبة السياسية بطريقة لا تسمح لنتانياهو بالاستفادة من العمليات. وهذا يقتضي مراعاة التنسيق مع الموقف الرسمي اللبناني لئلا تقع الدولة ضحية الحسابات الخاطئة. ومن المفيد في هذا السياق، ألا تركز الديبلوماسية اللبنانية على ضرورة الانسحاب من بلدة "أرنون" وحدها، بل يجب المطالبة بالانسحاب الكامل، ومن أرنون باعتبارها تمثل آخر الاحتلالات. والسبب ان حصر الضجة الاعلامية والسياسية، بمسألة الانسحاب من أرنون، يمكن ان تستغله اسرائيل للقيام بتنازل أخير بعد الانتخابات متظاهرة أنها أرجعت للبنان أهم موقع فقده. ولقد دلت التجارب التاريخية مع اسرائيل، ان الفتات الذي قدمته للفلسطينيين حُسب انه عطاء من عدها، وأن الأمتار القليلة التي تراجعت لأصحابها عنها في الضفة، أُعتبرت هدية تنازلت عنها في سبيل السلام! في رسالته الى الامين العام كتب سفير لبنان سمير مبارك يعلمه بأن القوات الاسرائيلية سيّجت القرية بأسلاك شائكة وقالت للأهلين ان ارتباطهم الاقتصادي والمعيشي اصبح من الآن فصاعداً مرتبطاً بمنطقة "الحزام الامني" الخاضعة للسلطة الاسرائيلية وان بحيرة أرنون اصبحت الآن هي الحدود الفاصلة. ومثل هذا الاجراء التعسفي يذكّرنا بعبارة حفرتها منظمة العفو الدولية قرب بوابة معتقل "اوشوتز" تقول: "بين قريتين… وشجرتين… وصديقين تُنصب أسلاك شائكة دونما سبب او ايضاح او تفسير". والتفسير قدمه المفكّر اليهودي الشهير شاحاك في كتابه "التاريخ اليهودي" بأن المضطهَد بفتح الهاء كثيراً ما يقلّد مضطهده. وهذا ما يدلل بالعمق ان الاسلاك الشائكة التي أقامها النازيون حول المعتقلات اليهودية ظهرت مرة ثانية حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وقرى الجنوب اللبناني. * كاتب وصحافي لبناني.