حين كانت المداولات تجري في أروقة الجامعة العربية حول آلية دورية انعقاد القمة العربية وبمبادرة تحسب لليمن الذي أطلق هذه الفكرة الوجيهة والصائبة، حينذاك مطلع العام الماضي 2000 لم يكن أحد يحسب ان قمة طارئة ستشهدها القاهرة في تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام، اي قبل خمسة اشهر فقط من موعد انعقاد القمة الدورية الاولى في الاردن بحسب ترتيب الاحرف الهجائية. وهذه الفسحة الزمنية القصيرة هي أقصر من تلك الفسحة التي ينتظم فيها الاجتماع نصف السنوي للمجلس الوزاري للجامعة العربية. وعليه، فإنه من منطق الامور ان تبدو قمة عمان الحالية وكأنها استكمال ومتابعة للقمة الطارئة السابقة، علماً بأن الحدث الكبير الذي شكل عامل ضغط على عقد اللقاء الطارئ للقادة العرب ما زال قائماً ومستمراً، ويتمثل في عدوان الاحتلال الاسرائيلي على الانتفاضة وابنائها وشعبها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الذي أودى حتى تاريخه بنحو 500 شهيد وعشرين الف جريح، وتدمير مئات المساكن، واقتلاع الآلاف من اشجار الزيتون، إضافة الى الخنق المستمر للاقتصاد الناشئ وتعطيل دورة الحياة شبه الطبيعية باعتبار ان الحياة لا تكون طبيعية في ظل اي احتلال وتعريض تجربة الكيان السياسي لمختلف صنوف الضغوط المادية الفعلية الامر الذي يهدده بالتفكك، ويعسر من صيرورته مشروعاً لدولة مستقلة. والآن، ومع التئام القمة الجديدة، من الضروري بمكان الاعتراف بأن القمة الطارئة فشلت في وقف ذلك العدوان، على رغم بعض النتائج الايجابية التي افضت اليها تلك القمة، ومن اهمها وقف أربع دول عربية علاقاتها التمثيلية مع تل ابيب، وهي سلطنة عمان وتونس وقطر والمغرب، والاخيرة كانت تنسج علاقات كاملة باستثناء الجانب الديبلوماسي. كما سحبت كل من مصر والاردن سفيرها من تل ابيب، وتم خفض مستوى تبادل الاتصالات بين البلدين مع الدولة العبرية. غير ان هذه الاجراءات على اهميتها لم تكبح العدوانية الاسرائيلية، التي حافظت على وتيرتها في ظل حكومة ايهود باراك، ثم تزايدت مع فوز ارييل شارون في رئاسة الحكومة الاسرائيلية. ان استمرار العدوان الاسرائيلي والعمل على وقفه، هو التحدي الاكبر الذي يواجه قمة عمان، خصوصاً بعد مضي ستة اشهر على حملات الشجب والتنديد والتحذيرات من مخاطر ما يجري على "عملية السلام"، وهي تحذيرات بلا طائل، اذ ان هذه العملية التي لا تعمل عصية على التأثر بما يجري كما هي حال اي كائن هلامي او رخوي لا يتأثر بضوء او درجات حرارة وبرودة. والحال، زاد هذا الفشل من سعار الحملة العدوانية المتوالية فصولاً، وهو عجز ليس بنيوياً بالضرورة، بل هو قصور ذاتي او وظيفي. فقد تم بذل بعض الجهود من اجل تأمين حماية دولية، واصطدمت المحاولات كالعادة بممانعة اميركية، وحتى بسلبية فرنسية وروسية. ومرد هذا الموقف هو ضعف الحملة السياسية او الاداء السياسي العربي، ومنه الفلسطيني. فالجانب الفلسطيني من جهته، كحال اطراف عربية اخرى، تغلبت عنده النزعة البراغماتية على الدواعي السياسية الجوهرية. فبدل ان تتصاعد وتتكثف الحملات والدعوات لإنهاء الاحتلال، واعتبار ما يجري ثماراً سامة لوجود الاحتلال واستمراره، فقد تمحور الخطاب السياسي حول ضرورة استئناف المفاوضات ووقف الحصار، وهو مطلب عاجل، الا انه لم يتم ربطه برفع الاحتلال، كمطلب آني واستراتيجي معاً. وفي النتيجة بدا ما يجري من اعمال تقتيل وتجريف وتدمير أشبه بنزاعات حادة بين "شركاء السلام" وليس تجسيداً لواقع الاحتلال وتداعياته التي لا يمكن ان تتصف سوى بالسلبية. مغزى ذلك ان الخطاب التحرري والاخلاقي قد غاب، ولم يكن يحضر سوى عرضاً في الخطاب الفلسطيني مما حرم الانتفاضة من اجتذاب التعاطف معها في اوساط الرأي العام. ولا يعود ذلك الى العنف الذي وسم بعض اداء الانتفاضة، اذ يتعذر ضبط الاحتجاجات حيث تواجه بقوة نارية كثيفة وبإرادة تدميرية. وكان يمكن لهذا العنف ان يكون مبرراً او مفهوماً بصورة اوضح لو حضر الخطاب التحرري بوضوح كافٍ وبشحنة انسانية عالية. وحين يجري التشبه بجنوب افريقيا ونظامها العنصري، فإنه يغيب عن ذهن من يدعون للتشبه بهذا النموذج وهو يستحق الاقتداء به بالفعل على رغم اختلاف الحالين واستهدافاتهما انه اتسم بدوره وفي العديد من المحطات بقدر من العنف، غير ان الطرح السياسي التحرري كان يشفع لهذا العنف الدفاعي. اما في الحال الفلسطينية فقد كان المستوى السياسي هو الذي يتسم بالدفاعية، فيما الطرح الاسرائيلي يتمتع بخاصية هجومية وهي وقف العنف، الذي لا يحبذه احد نظرياً ومبدئياً ولا واقعياً ايضاً. وعلى رغم محاولات معدودة للافلات من الموقف الدفاعي التبريري، كالعرض الصائب للاوضاع في المذكرة المرفوعة للجنة تقصي الحقائق، التي عرفت بلجنة ميتشل، الا ان السباق العام للخطاب السياسي تمحور حول خلافات تفاوضية بين شركاء السلام بدلاً من الحديث عن الطلاق مع قوة الاحتلال، وما ينجم عنها من تداعيات احتجاجية مشروعة. وبطبيعة الحال يندرج الطرح العربي في السياق نفسه. فالاحتلال مدعو لتمكين الناس من مزاولة حياتهم الطبيعية ورفع الحصار ووقف العقوبات الجماعية عنهم، لكنه قلما يُطالَب بالرحيل، وهو ما يسمح للسلطات الاسرائيلية بهامش واسع من المناورة في حملتها الديبلوماسية والاعلامية على العنف، باعتبار ان وجودها في الاراضي المحتلة لا يمت الى العنف بصلة، من حيث منطق وجودها ونشأته ووجهته. لقد بدا الفشل في تطبيق قرارات قمة القاهرة واضحاً في عدم التعاطي الجدي مع تلك القرارات. وأو ضح مثل على ذلك مصير القرار بملاحقة مجرمي الحرب ومحاكمتهم وفق أحكام القانون الدولي، وهو قرار كان من شأن السعي الى تطبيقه إظهار الحرب الجارية باعتبارها حرباً بين قوة الاحتلال والشعب الرازح تحت الاحتلال، مع ما تشتمل عليه هذه الحرب من جرائم ضد الانسانية اقتلاع الأشجار وتجريف الأراضي وقصف المساكن وسيارات الاسعاف. غير ان هذا القرار قد تم طيه عملياً، بعد احالته الى "لجنة قانونية" منبثقة من لجنة المتابعة العربية، وكأن من صاغ هذا القرار هو مجرد كاتب تعليقات متحمس لا يستحق معه المتابعة والتنفيذ أو حتى النظر الجدي، علماً ان متابعة هذا القرار كان من شأنها ان تضفي بعداً جديداً ونوعياً على مناخ المواجهة، وان تفرز منطقاً جديداً في تقويم ما يجري. وكذلك الأمر في مسألة دفع تعويضات عن الأضرار الفادحة، فقد دأبت الاطراف العربية والفلسطينية على التعفف عن المطالبة بتعويضات باعتبار ان "الأرض والروح لا تقدران بثمن". غير ان المسألة لا تقتصر على دفع مبالغ مالية، اذ تشتمل على تنفيذ حكم اخلاقي وقانوني، وبالتالي سياسي. وسبق للمجلس الوزاري للجامعة العربية، خارج مقر الجامعة في بيروت، ان طالب بتعويضات للبنان عن الاعتداءات التي تعرض لها هذا البلد. غير ان هذه المطالبات بقيت حبراً على ورق، ولم يكلف المسؤولون اللبنانيون والعرب أنفسهم عناء المتابعة، وذلك نتيجة تفكير شرقي ضارب الجذور يرفض مقايضة ما هو معنوي بما هو مادي، على رغم ان التعويض في جوهره معنوي. وأمام قمة عمان، في ما يخص الموضوع الفلسطيني وملف التسوية العربية - الاسرائيلية، ان تلتمس معالجات فاعلة وقابلة للتنفيذ، قبل فوات الأوان حتى لا تتحول الأراضي العربية المحتلة الى "أندلس مفقود". على هذه القمة ان تتبصر في قرارات لقاء القاهرة الطارئ وما آلت اليه من هزال في النتائج، وعلى الجانب الفلسطيني ان يتخذ زمام المبادرة بالدعوة في المقام الأول الى تنفيذ قرارات قمة القاهرة وان لا تقتصر المطالبات على الدعم المالي، بل تمتد الى تشديد الضغوط على شارون ووزيره بيريز، وذلك برفض اجراء اتصالات مكوكية قبل وقف الحرب على ابناء الضفة والقطاع ووقف التهديدات ضد لبنان وسورية، وان يكون وقف الانتفاضة أو حتى اعمال العنف مرهوناً بتعهد اسرائيل بانهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري، وان يكون هذا هو الشرط نفسه لاستئناف المفاوضات، من دون تفسير ذلك على انه شرط مسبق، اذ ان الشروط المسبقة هي تلك التي تتمحور حول ترتيبات إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية. وبما ان شارون يلقى نفوراً خاصاً من جانب القاهرة، بعد ان سبق لهذا الرجل ان أعرب عن عدم رغبته وعدم استعداده لزيارة مصر بما جعله شخصاً غير مرغوب بزيارته، فإن بوسع مصر، الرئيسة السابقة للقمة العربية، ان تقرن أية زيارة قد يقوم بها شارون الى القاهرة بإبدائه الالتزام بمبدأ اعادة الأرض مقابل السلام. وكذلك الحال مع الأردن الذي طالما لوح شارون بأنه وطن بديل للفلسطينيين، وبوسع الأردن ابداء عدم الاستعداد لاستقبال الرجل قبل التزامه بمقتضيات حل عادل، يضمن للفلسطينيين الاستقلال بحياتهم السياسية والوطنية على أرضهم في كامل الضفة والقطاع. وبغير هذه السياسة الهجومية والمحسوبة، فإن القمم العربية تصبح مهددة ليس فقط بالقطيعة مع الرأي العام، بل كذلك بفقدان الفاعلية والصدقية، ومما يهدر سلفاً مكسب الانعقاد الدوري للقمم. * كاتب أردني.