نشرنا في الحلقات السابقة مقاطع من مخطوطة الدمشقي - الأفغاني أديب خان فتال "في الشغاف الآسيوية" تناولت مصاعب استقلال افغانستان ومشاهد رحلة في الولايات مروراً بتأسيس مزار الشريف. وهنا حلقة رابعة: ترجلنا عن جيادنا لاستحالة الانحدار وأخذنا نهبط الى واد سحيق ... من صخر لآخر قبل أن يحلك الظلام، وقد أشار إليّ الوالي على قلعة خربة تسمى شش برجه الأبراج الستة تبدو عن يميننا في آخر المنزلق. وقال: ان السردار اسحاق خان ابن عم الملك عبدالرحمن خان الذي كان ولاه ولاية تركستان فطمع بالملك كله وأخذ يتظاهر بالتصوف والتدين حتى اعتقد الناس صلاحه شأن كل طالب دين فدعاهم الى مؤازرته وأيقظ فتنة كبيرة في البلاد وتقدم حتى احتل قواده هذه القلعة دون نظر الى انها تنال من عل بالمدافع بكل سهولة. ففاجأهم جند الملك وهم في غفوة من امرهم وهدموا هذه القلعة على من فيها بمدافعهم وكانت هي الملحمة الأولى التي اسست الحجر الأول في زاوية ظفره النهائي على ذلك الخائن بالعهد. وظلت هكذا مهدمة ترمز لخيانته وغدره، وسأريك في طريقنا مواضع القتلى التي سنمر عليها. في آخر المنحنى كان عبدالله خان حاكم كاه مرد خافاً لاستقبال الوالي مع عالم غزير من رجالة وخيالة فرافق قفلنا الى مقر متصرفية فوصلناها في ساعة متأخرة من الليل ونحن لا نرى بليالي الجبال المتلألئة كواكبها النيرة لطفها المعهود لما نابنا من الونى. كاه مرد هذه مقر لحاكمية تضم لقرى تعد لعشرة آلاف دار أو ما يقارب الخمس وثلاثين ألف نسمة على وجه التقدير. وهي غنية بحاصلاتها. وأكثر سكانها من الأزبك الذين هم فرع من الأتراك المغول يسكنون بخارى وتركستان الأفغاني. ويتشابهون بالزي والعادة والشكل والخلق. برزوا لنا بجببهم العريضة المحشوة بالقطن وعمائمهم الكبيرة وزنانيرهم الطويلة على شاكلة عمائمهم التي تربط بطونهم حتى الصدور وأذقانهم الكثة المفلطحة. كان الأزابكة هؤلاء أبناء أولئك المغول الأقدمين الذين هم انسابوا غير مرة عبر الأرض لينثروا آي الدمار حيثما ثقفوا. ودعاءُ بسطاءُ ليس عليهم مسحة من تالد شراستهم إلا قسمات في وجوههم احتفظوا بها ببعض الجمود الذي قد يدل على القسوة فيما إذا أفلت زمام الأمر من يد حكوماتهم. ها هم وقد التفوا حول مخيمنا زرافات يحملون ما اصطادوه لنا من سمك بحرة النبع الذي يتغالون بفاخر جنسه. ولعمري ان سمكهم كان على انواع ومن اجودها نوع أبيض بض يتخلله نقط حمراء قانية. السبت 4 رجب ... مضيق باجكاه هذا هو تاريخي كما هو خالد. فكم اصغى لأهازيج الظفر من جنود الغزاة الذي كان منهم الأسكندر. وكم شاهد ارتداد الغزاة ناكصين منهزمين يذرعون الفضاء رعباً ووجوماً، فترك على مر العصور يستقبل الآمال الجريئة ليودعها آمالاً فانية محطمة. وهو في مربضه هذا يهزأ وسيهزأ بأطماع البشر على كر الأجيال. وآخر ما رآه من المجازر البشرية مجزرة كان المقتتلون بها اخوين، أجل أخوين من أب واحد. وأما السر في اقتتالهما فلأنهما من أمّين مختلفتين، فضل الوالد وهو الملك والأمير احداهما على الأخرى حتى جعل ابنه منها ولي عهده من بعده متناسياً ابنه البكر محمد أفضل خان. ظهرت بوادر الشر بعد وفاة الأب الملك الأمير دوست محمد ولم يقبل الابن البكر محمد أفضل خان الذي كان ولاّه أبوه ولاية تركستان البيعة لأخيه بالسلطة لا لحق سوى انه من زوجة احبها أبوه. فزحف الأخ الأصغر شير على تركستان بعسكره وصمد له الأخ بجنده عند فوهة هذا الوادي فاعتركا بعنف دونما مبالاة بالأرواح الزاهقة على مذبح هذه البغضاء التي خلقها الآباء بين بنيهم ولا شفقة على رعايا ليس لهم في الأمر من شيء .... ودارت الدائرة على محمد أفضل خان فانهزم الى وراء هذا المضيق يجمع شتات جنده ثانية ليرمي بهم أخاه. ومشائخ كلا الفريقين يفتون جهارا بأن قتلى الطرف المقابل الى الجحيم وقتلاهم الى النعيم والعليّين ودرجات الاستشهاد تفرق جزافاً على تلك القطعان البشرية. ولما طالت الحروب بين الاخوين خدع شهر علي خان اخاه بأن صالحه على اقطاعه ولاية تركستان كلها وعاهده عهداً كتبه على حاشية القرآن ثم غدر به وهو بعيد عن جنده ورماه في سجون غزني ليسارع الى قندهار حتى يحارب أخاه الثالث السردار محمد أمين خان لأنه لم يذعن لسلطانه فظفر بأخيه قتيلاً بعد حرب شعواء ذهب ابنه أيضاً شهيد اطماع الأب الذي خولط في عقله على اثر هذه المصائب. فاغتنم عبدالرحمن خان المشهور ابن محمد أفضل السجين الذي تولى الملك في ما بعد وأسّس ذلك السلطان العظيم للأمة الافغانية فرصة مرض عمه شير علي وآب من البلاد البخارية التي ذاق بها مرارة الهجرة نزولاً على امر ابيه درءاً لدوام الفتن، وقاد أجناده الذين هم احبوه حب العبادة من نصر الى نصر، حتى افتتح كابل وغزني واستخلص أباه منها وبايعه على الملك وأجلسه على عرش كابل، فلم يفسح الأجل بعمره اكثر من أربعة أشهر فأمر عمه محمد أعظم خان، وكان فظاً صلفاً فأضاع الملك واستقوى اخوه شير علي خان عليه حتى فر الى ايران وتوفي بها، ودانت البلاد لشير علي هذا اعواماً اخلدت بها الى الهدوء فسارت في طريق الرقي شوطاً أخاف الانكليز على الهند فواثبوها حتى مات شير علي خان قهراً آيباً الى تركستان يعض ناجز الأسف على تفريطه بأخوته. واغتنم الفرصة عبدالرحمن خان الذي كان طوال حكم عمه فاراً الى المستعمرات الروسية ساكناً في تاشكند. ففر منها ليلاً الى بلاده ليرفع علم الجهاد عالياً ضد الانكليز حتى توفق وطردهم عن بكرة ابيهم من بلاده واستعاد تاج ملكه شريفاً ولكن ضعيفاً من بعد تلك الغمرات والكوارث التي حلت به كل هذه الأعوام. قبيل الزوال بساعة بلغنا منزل بدر وهو لا يعلو عن سطح البحر اكثر من 6200 قدم وأخذنا به نصيباً من الراحة استعداداً لرحلتنا الشاقة على مصعد قره كوتل المصعد الأسود الذي هو من أشق مراحل هذا الطريق ومن اعلاها ذرىً وأكثرها ادغالاً والتواء، وترى السماء التي هادنتنا كل هذه الأيام أبت إلا مناصبتنا عداءها في هذا اليوم وإعطاءنا درساً قاسياً عن عظيم جبروتها. وساطت بسيوف بروقها قطعاناً عظيمة من الغمام اخذت تحتل جنبات الأودية وتملأها قتاماً ودخاناً يتمشى سراعاً على زعقات الرعود حتى احتل جنبات الفضاء والبطحاء وسوّد وجه السماء. بعيد العصر عندما بلغنا قمة قره كوتل العالية 12480 قدماً كانت العاصفة على اشدها ترمينا ببردها الضخم المؤلم وبثلجها الوارف وقد اشتد الصقيع حتى خشينا الكوارث واستحالت أنوفنا الى قطع جليدية وقد تولانا خشوع الخوف ورهبة الموقف وصعوبة التنفس من كثرة الابخرة ورقة الهواء واسترسلت الطبيعة في غضبها تدفع الغيوم بالغيوم حتى صعب علينا تبين ما بين أيدينا الا ما يشقه أمامنا البرق بين الطرق على نور صواعقه. وغلّف العساكر بنادقهم بأدثرتهم عقيدة منهم ان فولاذها يجذب الصواعق اليهم. وصفوة القول: ما بلغنا منزل ليلنا المسمى دواب شاه يسند، المبتنى في منعرج احد سفوح هذا المصعد الأسود حقاً، وتلمسنا جدرانه في حلك الغسق حتى ارتمينا في زواياه الرطبة لا نعلم اين نحن من فعل الونى والجهد الشديد، وقد ألف التعب بين السيد والمسود منا حتى ما فكرنا في طعام وبات اكثرنا يئن اعياء. وكذلك جيادنا اصبحت ولا قدرة لها على حمل هياكلها فكيف بحملها اثقالنا. تركنا الاحمال وبعض الرجال ليستريحوا يومهم وبدلنا جيادنا بما احضر لنا من بعض القرى القريبة. وتابعنا مسيرنا وتعب الأمس يرنح اجسادنا. الأحد 5 رجب 337 وكان طريقنا اليوم يصعدنا على جبال سهلة نوعاً ما ويطلّنا على وديان وارفة تلطف من شقاء الجبال الجرداء. وقد تناولنا غذاءنا في منزل روى العالي عن سطح البحر 6310 اقدام فقط وهو آخر حدود قضاء كاه مرد وأول الحدود التركستانية. ولجنا حدود هذه الولاية العظيمة بطريق جبلي وعر نقطع اليها سلسلة جبال تدعى جنبرك لمشابهتها بلفّات الزنبرك تبعث الملل بكثرة منحنياتها وثنياتها، حتى اخذت اعرض بذوقي في حبي الجبال ووصفها وقد عافتها نفسي طوال هذه الرحلة الشاقة ولم أر بها مباهج الخيال الشعري الذي كان يحملني دون ما تعب على أجنحة الفكر البديعة. بغتة انحسرت هذه الثنيات الممضة عن وادي خرم الرحب الارجاء. وخرم معناه النضير وكان حقاً نضراً بهجاً منعشاً بعد تلك المراحل الشاقة. وكان التركستانيون وقوفاً باستقبال واليهم الجديد يظهرون ضروب الحفاوة به مستأنسين بالحكم الجديد وهو يزف لهم بشرى ما يحمله من التعاليم التي تفل عن رقابهم أيدي الظالمين بمحياه الطلق. فارتفعت اصوات من بينهم تتساءل وهل محمد قاسم خان من بينهم. فقال الوالي بلى بلى سيعلو الحق ولا ينجي البغاة الا الاخلاص والصدق .... الاثنين 6 رجب 337 منذ ما وطئنا ارض ولاية تركستان اخذ واليها محمد سرور خان يهتم بي وبمن معي اهتماماً خاصاً ويظهر ضروب الحفاوة لأننا صرنا الى منطقة هو رئيسها والكل في الكل فيها، وقد تبدل من مسافر عادي وادع يأنس ويداعب ويضحك الى آمر يتصنع التواضع وأطرافه ترنحها الخيلاء. ويظهر الروية وارشاداته الصغيرة قوانين حاسمة جازمة لا محيص من تنفيذها على من يلقي اليه بها. والويل لمن لم يأنس في سلامه عليه بسمة من بين شفتيه. تحيي آمالاً له جساماً. والخير لمن ألقى اليه ولو من الباب دعابة. وأما اصحابه وأذنابه ومن التحق بهم فقد انقلبوا بين عشية وضحاها الى أولئك الزبانية التي كنت أسمع عنهم ولا أراهم وقد خلعوا لباس البشرية ليتقنعوا بجلد الوحوش الضارية يشتشمون روائح فرائسهم ويحيكون الحبائل للإيقاع بها. يتصيدون الهمسات وما قيل عفواً في مجلس المسامرات. وأما الرعايا فيفتدون لهو الزبانية عنهم ودفع أذاهم بما ينثرونه من نفائس الهدايا ليشبعوا بها نهم الحاكم ومن معه كل على حسب مراتبه، والشر لمن منح الكبير وأغضى عن الخادم الصغير. أو قدم الذرة بدل الشعير قراية لحمار التابع الحقير. قد يزول عجبك من قولي أيها القارئ اذا علمت ان الافغان حتى عهد الملك امان الله خان ما كان لها قوانين مدونة ولا أساليب مرتبة تقف دون النفس الأمّارة وتقوى على كبح جماحها. لم يكن في جميع الافغان ميزانية منسقة يسأل الحكام عن تطبيقها ومراعاتها. بل هناك نسبة للجباية عن كل ولاية على الحكام ان يرسلوها في رأس السنة المالية، وما زاد عن ذلك فالوالي هو الحاكم بأمره، ووجدانه فقط هو ميزان اطماعه بين ان تتساوى ابرته فيأكل بعض الشيء ويلقي بالخزائن بعض الشيء، أو يميل الى الاسفاف والعسف، وهذا هو الراجح في حياة الحكام حيث تخترمهم لذائذهم وتخرس اصوات ضميرهم التي لا تسمع الا في غسق الغيهب عندما ينهضون لعباداتهم وصلواتهم، فلا يزالون في سجود الأبرار وركوع الزهاد حتى اذا صلوا صلاة الفجر لبسوا لباس البأساء يصبّون على من ولّوا امرهم كؤوس الظلم دهاقاً كأنهم كانوا يعفّرون الجباه في سجودهم وخشوعهم ليمنحهم الله القوة على اقتناء الكنوز والقوة على مرضاة الحرم المكتظ بالنساء. وفي اوائل الأعوام المالية يرسل ما تفرضه خزائن العاصمة على الولاية من الضريبة المقررة ولا يسأل عن سواها في اعماله وحركاته الغير مقيدة بشيء ما على الاطلاق. ولا في احكامه التي تطلق بها يده خاصة حتى القتل. فلا يتورع عن ان يتداخل في المحاكم ويأمر القضاة وينسخ الاحكام. ولا يتورع قضاته ومفتوه عن تحوير المسائل الشرعية لحله مما يرتكبه من الاغلاط والاخطاء التي يرصدها عليه حساده في العاصمة ومناوئوه ومنافسوه، ولا يزالون به حتى يقلبوا له مجنة الحظ ويقذفوا به من حالق فيعود الى العاصمة عودة الذليل الخاضع، يحمل ما جمعه من شقاء المظلومين ومما اعتصره من دموعهم واستقطعه من دمائهم يشبع به نهم الجشعين في العاصمة ممن لهم شأن في بنيان حكمه السابق. أو يكون فعل سموم اعدائه به شديداً فيفتضح في بقايا عليه تطلبها الحكومة منه لأنه لم يؤدها في حينها فيذهب ماله نهباً وأملاكه ضبطاً فبيعاً ويرجع الى عمّة وجبّة ولحية يلبسها ليري الناس فقره حتى يأكل مما خبأه في ايامه البيض لمثل هذه الهنيهات السود. وليس لك ان تلوم هذا الحاكم الظالم في موقفه الذي سردت لك نتفاً منه طالما هو ان صلحت نفسه ومالت كفة ميزانه الى ناحية الخير. يكون سقوطه حاسماً وسريعاً لا ينجيه صلاح نفسه ولا عميم خيره طالما افواه من هم فوقه ودونه فاغرة بانتظار لقمه السائغة التي لا يطبخها الا الظلم والعسف. وأما من جره سوء حظه الى دفاتر دوائر مالية الحكومة ليسأل عنها فيغرق بين الأوراق حتى العنق ولا ينجو من ورطته ولا بعشرات السنين إلا سبقت إليه أيدي عزرائيل. هكذا كانت حالة البلاد وحكامها حتى انتهاء الحكم الحبيبي وقد فهمنا ان هذا الحكم الاقطاعي الذي هو نموذج قاتم عن غابر العصور المظلمة والذي قلّ ان بلغ مبلغه من الكوارث التي شردت الناس افواجاً الى احضان الروس والانكليز قد كفن مع الحكم الراحل، وان الملك الجديد سيكون من اول اعماله في حكمه تقييد ايدي الحكام بقوانين تحدد وظائف كل مأمور وتحصر المخارج والمداخل بميزانيات مرتبة لا يقدر الحكام الى النفوذ اليها والاستفادة منها الا بقدر ما يصرح لهم مجلس الشورى العالي بعد مناقشة ميزانيتهم. وقد أعطى الملك لواليه هذا من التعاليم ما حلف على القرآن بحضوري ان يكون اميناً عليها قيماً على العدل الذي القيت مقاليده اليه. شديداً في اجتثاث وسائل الظلم. حتى تتمكن دار الشورى التي كان اعلن تشكيلها من اعطائه التعاليم القانونية الجديدة. هل تناسى كل تلك الايمان ليت شعري؟ وهل سيكون مثل سابقيه عنتاً وعسفاً وهو المصطفى لولاية تركستان المهمة التي يغرقها الظلم حتى العنق؟ لا أضمن هذا وهو الذي أشبع نهمه عندما كان رئيساً لمعامل الأسلحة في كابل! اذاً ما هذه الهدايا التي يتقبلها بكثرة دون معرفة حقيقة مهديها وأغراضهم. أهل هذا نوع من التكبيل لإرادته العادلة واستغلال لعطفه الذي لا يزال بريئاً من الخبث؟ لم حمل كل هؤلاء الرجال معه ليربك بهم أبناء البلاد فلا يعلمون من سيكون منهم حاكمهم في الغد؟ لم أحر جواباً لكل هذه الأسئلة فتركتها الى الأيام. ونهضت الى جوادي في التاسعة صباحاً وأمان الركب تهيأ للرحيل. وسرنا على حافة النهر نتبطن هذه التلال الوارفة. والهواء يبعث الى اجسادنا دفئاً لذيذاً حتى قرية سرآسيا التي كانت تتربع في مهاده المنفسحة وكلها عيون متفجرة ترسل الماء شآبيب. لؤلؤية على أرضه المخضرّة. تبعث انشوداتها الرقراقة بالنفس لذيذ الأماني حتى تمنيت لو يظلني هذا البقيع اشهراً وأنا غاف بأحضانه أحلم في مجد آسيا التي يذيبني شقاؤها ويغمرني تعسها، علّي أسلو الى المرير على الاوطان الآسيوية ذوات المجد التالد التي تقودها سلاسل جهلها الفاضح الى عنت الفرنجة ومهاوي استعمارهم البطاش. ظهراً بلغنا منزل سرباغ ونزلنا الى مضاربنا التي رفعت برشاقة على حافة النهر الفياض. وقضينا نهاراً كله سمر وفرح ونشاط وفي غدنا سافرنا الى آيبك نمر اليها من وادي زندان وقرية الكيرة .... تريثنا في ثاني ايامنا ايضاً في ايبك استزادة من بهجة الربيع. وأنا لا اشكو إلا كثرة التشريفات وتلك الكتل البشرية الصماء الصامتة التي كانت تأتي من جميع الانحاء لتقدم خضوعها وخنوعها ولتجثو امام حكامها بما يشبه الركوع دون ان تسمع منها صوتاً ينبيك ان في داخل تلك الجبب المبطنة بالقطن ارواحاً بشرية تشعر بزهو حرياتها وحقوقها. وللتركستانيين اخلاق شاذة عجيبة يغلبهم الصمت حتى الجمود. فإذا جلسوا جلسوا القرفصاء لا ينبسون ولا يعيرون كأنهم خشب مسندة. وقد يدعوك الواحد لداره ويقدم لك افخر اطعمته ويذبح لك افضل نعاجه. ولكن يجمع كلمات ترحيبه بإحناءة في رأسه يضمنها جميع عاطفته الخائبة تحت اطماره الثقيلة وقليلاً ما يشاركك الحديث. ونادراً ما يجالسك على طعامه وهو رب الدار. في الظهيرة مدّ السماط وتراصت فوقه الأطباق ودعينا الى مأدبة الحاكم التي اظهر بها من الكرم ما يشبه الاسراف. وعلى ذكر السماط لا بأس من ذكر شيء عن عاداتها وآدابها في مجالس الأفاغنة. يمد الفراشون خواناً من قماش ابيض على جلد من تحته احمر مزوّق بعروق من جلد اخضر يتراوح طوله بحسب مقام صاحبه، ثم يصفّ رئيس الفراشين الأطباق يرصّها في رأس المائدة من كل لذيذ، ولا تزال تقل الاطباق شيئاً فشيئاً حتى لا يكون في آخر السماط إلا صحون الرز الكبيرة المدفون بها اللحم او الدجاج. وترى الفراشين لا يتورعون عن وطء السماط بأحذيتهم وقد يصفّون قطع الخبز فيما وطئوه منه خلال ترتيبه. ويقل في الاسمطة الافغانية الخبز ويكثر الأرز الذي يطهونه على انواع وليس مثله ولا ريبة عند قاطبة الأمم في الجودة واللذة يكثرون به من البهارات والافاويات ذات الرائحة النكهة حتى لتستسيل اللعاب روائحه. يتقدم رئيس الفراشين بطشت وابريق نحاس من صنع الأفغان الممتاز الى رئيس المائدة فيغسل ايديه ويتناوب من بعده غسل الأيدي والأكثر رؤوس الاصابع الاصغر فالأصغر، كما يتناوبون تنشيفها بمنديل واحد يدار عليهم بالتتابع، ثم يرفع كبير الفراشين اغطية الصحون وينادي باسم الله، فيزحل كبير القوم الى رأس المائدة زحلاً ويتلوه الآخرون يجلسون بعضهم تربيعاً وبعضهم على الركب ويسندون مرافق شمالهم في احضانهم ويأكلون بأيمانهم ما يمزجونه بالرز من انواع البطاطا او السبانخ واللفت المطهي باللحم والسمن الكثير طهياً مجاداً فنياً. ومن أحب الاطعمة لديهم القاورمة وهي طعام خاص للأفاغنة مركب من اللحم والسمن والبصل الكثير. يحتاج طبخها لمهارة، ولهم حذاقة ودربة في تهيئة اللقمة وأكلها دون ان تتناثر فتاتها على الألبسة واللحية مما يصعب على غير الممارس لهذه العادة ويستحيل. وفي بدء الطعام يتذوق رئيس السفرة من كل ما تراص امامه من الاطباق ويتفرد بألذّها ويمنّ على الاقرب فالأقرب مما يفيض عنه. وقد يشجيك ان ترى البعيدين يترقبون وصول بعض الصحون اليهم بأعين والهة. وقد يعجبك خلط الرز بالمربّيات بدل المخللات والتوابل وهذه لا يستلذها إلا من تعوّدها وليست مثلما يظن، حتى ان الانكليز في الهند تعوّدوها بطبخة الكاري. وفي آخر الطعام يأخذ كلٌ خبزه فينظفه من نثرات الرز المتساقطة ويقطعه لقماً يُنهي بها اكله. فيرفع رئيس السفرة يديه بالدعاء فيشاركه الكل ويرفعون ايديهم، ويبدأ الفراشون برفع الاطباق، ويرتد الضيوف الى مواضعهم زحفاً ليغسلوا اياديهم على الطريقة الأولى. ومن عاداتهم ان لا يدعوا احداً الى الطعام فكل جائع يجلس من نفسه دون دعوة ولا يُحلّف اذا اكتفى ولا يُسأل الزيادة. وهذا وصف عمومي تقريباً لجميع الخوانات الافغانية، إلا طبقة خاصة تأكل في بيوتها على الطراز المألوف في الغرب. إلا اذا استطابت احد المآكل القومية فلا تعود الملاعق تقوم في اللذة مقام الاصابع، فتُرفع الاكمام وتغرس الانامل النظيفة بين ثنايا صدور الحجل والدجاج لتمزقه شرائح تجبل بالرز فتلقى في الأفواه بكثير من المهارة والذوق الذي سرعان ما يألفه مَنْ لم يتعوده فيستسيغه فلا يجد به ما يظنه من القذارة .... الحلقة المقبلة: مشاهد خيل وخطاب الى النساء في المانيا يساعد شكيب أرسلان عرفت اديب خان بعد الحرب يوم طلع علينا موفداً من قبل مليكه امان الله، وكان عندئذ احد اعضاء ذلك الوفد الذي قامت له قيامة الالمان، ذلك لأنهم عرفوا الشيء الكثير عن مجاملة دولة الافغان لهم في ابان الحرب العالمية وعناية مليكها وعطفه السامي على ذلك الوفد الالماني الذي ذهب برياسة الهر فون هنتيش قنصل المانيا حالياً في سان فرانسيسكو والهوبتمان فون نيدر مايلر الى كابول، طالباً مساعدة عاهلها الكريم، فأرادت الأمة الالمانية يومئذ ان تظهر ممنونيتها وتقوم نحو الوفد بواجب الضيافة خير قيام، فكانت الولائم والعزائم من كل فج وصوب في برلين كأنها في عرس دائم. عرفت في ذلك الوقت اديب خان فرأيته شاباً اديباً ذكياً فصيح العبارة يحن شوقاً الى بلاد الشام مقر ولادته على انه لم تكن محبته لبلاد الافغان بأقل من محبته للشام وليس من الغلو اذا قلت ان تلك المحبة كانت اشبه بشيء من العبادة فكان اسم كابول ملصقاً بلسانه وذكرها حلواً على لهواته وكان إذا حدثك عن تلك البلاد الشاسعة الاطراف تخال انك امام رجل تضرم احشاءه نار الوطنية. رقص طرباً لمجرد ذكر بلاده ولم تكن تنقص اديب خان كما قلت يومئذ لمن كان حولي الا الربابة يضرب بأنامله على اوتارها مترنماً بمحاسن الافغان التي اخذت بمجامع فؤاده. عرفته وطنياً غيوراً يتفانى بقلمه ولسانه في خدمة بلاده الى درجة ان المرء كان يلمس ذلك الشعور بكل مظهر من مظاهر حياته وله في وطنه مقالات رنانة. ثم انني اذكر انه لما اتم الوفد مهمته السياسية وذهب يطوف بقية العواصم الاوروبية بقى اديب خان معتمداً او بالأحرى سفيراً لدولته في برلين يفعل ما يريده غير مقيد بشيء من الاشياء نافذ الكلمة مطاعاً. ويجدر بالدولة الافغانية ان لا تنسى خدماته في برلين بعد ان خدمها خدمة يستحق عليها الثناء، ناهيك عن انه قد اشترى لها بيتين من اعظم البيوت بأبخس الاثمان من دون ان يكون لها علم بذلك، وهما الآن بيد السفارة الافغانية الحالية في برلين، وهما ثروة لا يستهان بها نتمتع بدخولهما وانني اذكر اني اجتمعت يوماً بالسفير القديم يتحدث عن اديب خان فأخبرني انه ترك كابول بعد ان استولى الثوار على جميع ممتلكاته، وآخر الاخبار تدل على انه تائه على وجهه في البراري والجبال ولا يعرف مقره. ثم سكت برهة وعاد فقال: ليته لم يكتب البيتين باسم الدولة الافغانية التي هي اليوم في قبضة الثوار بل كان خيراً لنا وله لو ابقاهما في حوزته، لأنه اولى بهما من الحكومة التي دمرت بيته وأضاعت ثروته. واذا نسيت فلست انسى مساعدته المالية والادبية لكل من هو شرقي بقطع النظر عن جنسه ودينه. ولما كان الشيء بالشيء يذكر اردت ان اخبركم عما فعله من الحسنات تجاه النادي الشرقي في برلين الذي كان يرأسه يومئذ عطوفة الأمير شكيب ارسلان لأنه لما رآه بحاجة الى مساعدة مالية قام على عادته مستعطفاً مليكه ومستنجداً أكف عاهل الافغان، الى ان جاء يوماً من الايام وبيده مبلغ عظيم قدمه الى ذلك النادي الذي عرف مواهبه فأجلّ قدره ورفع شأنه. برلين في 25 يونيو سنة 1930 الدكتور بيضا عن "الأهرام" عدد الأحد 20 تموز/ يوليو 1930