} بصرف النظر عن أي موقف سياسي، يدفعنا الوضع الراهن في أفغانستان الى التحديق ملياً في الشرط الانساني المعيش على الأرض هناك. فمأساة الأفغان، كما هي الحال في معظم الحروب، ليست من صنع أيديهم بقدر ما هي نتيجة الصراعات المنبثقة من مغايرة ايديولوجية حكامهم مع القوى العظمى السائدة في العالم. لكن المتدفقين بالملايين الى حدود باكستان وايران تاركين بيوتهم لغيلان القنابل المنهمرة من السماء، لم يكن يوماً لهم قول في صناعة المصير الذي أدركهم وجعلهم معتقلين ولاجئين ومشردين وجائعين ومرضى، الله وحده يعلم الى متى. بل سخرية الأقدار انهم كانوا ضحايا حكم جائر، ضيّق الأفق، مجحف حتى الاضطهاد بحق المرأة، وها هم يسامون قصاصاً باطشاً على أيدي اقوى قوة في العالم. في المقالات الآتية جولة على أفغانستان قبل حكم طالبان وخلاله وتركيز على أوضاع المرأة الأفغانية ومأساتها المضاعفة. ثمة مفتاح سحري أو "كلمة سر" لقلب الأفغاني، ان عرفتها وقلتها تستحوذ فوراً على ألباب الملايين وأملاكهم: "أنا عربي". هذا التعريف الذي يعتبر "شبهة" في بعض دول العالم، ودافعاً لدى بعض العرب للتبرؤ والتحلل منه، هو مركبة ضوئية السرعة لطَيْ آلاف الأميال من الماضي، والقفز فوق تاريخ هائل من الأصول والأجناس والأعراق والأنساب. فربما في أفغانستان وحدها تشعر اليوم بالاعتزاز لانتمائك العربي، بغض النظر عن الفئة أو العرق، أو القُطر. ويتسع السؤال في الذهن عن السبب الذي أعطى العربي هذه المكانة عند الأفغان، وعلى النقيض تماماً مما هو الحال في كثير من بلدان العالم الأخرى. هل أنت من عربستان؟ يبادرك الأفغاني. وكم تكون ذا شأن عظيم لو أنك تحفظ بعض آيات القرآن. إذ ذاك تتبدد كل الشكوك، وتنفرج القسمات، وتنبسط الأيادي، وتنفتح البيوت، فأنت ابن الأرض المقدسة التي يتعلق بها الأفغان تعلقاً مذهلاً. وتكتشف أن أكبر عدد من الذين يؤدون فريضة الحج كل عام نسبة الى تعداد السكان هم من الأفغان، ومن بلغ منهم سن "التكليف" أي القيام بالواجبات الدينية الإسلامية ولم يؤدها يظل يعاني اضطهاداً نفسياً مؤلماً، وشعوراً "مهيناً" من عقدة الذنب، حتى يحققها في "العام المقبل ان شاء الله". وجهوهم من طبيعة ارضهم وجوه الأفغان التي نالت الشمس منها، وأكسبت قسماتها اكتئاباً وجهامة توحي بانطباعات غير ودية، فيها الكثير من خصائص الطبيعة الأفغانية ذات التضاريس الوعرة، والملامح الغامضة، إلا ان هذه الانطباعات سرعان ما تتبدد بمجرد ان يحدثك الأفغاني. وعلى رغم الحروب والجيوش المتعاقبة على أرض أفغانستان وشعوبها، إلا أنها لم تدفع الأفغان نحو نزعة اقتناص الآخر وافتراسه، بل على العكس تماماً تراها اسهمت في تشكيل الروح والشمائل والقيم الأفغانية. فالأفغان - في الغالب - ليست لديهم نوازع نحو القتل، أو الغدر، أو السرقة، أو الخيانة. ومن دون ان يحدثك أحدهم يُشعرك انك كنت "صديقاً وأخاً ورفيق درب افتقدك طوال مدة غيابك عنه". وما ان تجلس الى جانب الأفغاني بعد أن يحييك وأجفانه مسبلة، ويده اليمنى على قلبه، يسكب لك قدح شاي أخضر، ويقدم قطعة حلوى لتدسَّها في فمك بدلاً من السكّر "المضر" وترتشف وراءها الشاي. فالضيافة "الحلال" التي تفتح الشهية وتهدئ الأعصاب المجهدة هي الشاي الأخضر، "موسِّع الشرايين ومهضّم الأكل". جبال يتعثر الغيم بها وجبال أفغانستان التي يتعثر الغيم بها وتناطح السماء، والصخور ذات المغاور الشبيهة بالأفواه المدروزة في الأنياب، والصحراء آكلة الأجيال تبتلع أغاني الرعاة الحزينة المحمولة على متون الكآبة، كلها من العناصر الباعثة على الخوف والتوجس والدهشة، أنت أمام معضلة اختراق الطبيعة، مثلما كنت أمام سد الريبة الذي واجهك قبل التعرف الى الإنسان الأفغاني والدخول الى قلبه. إذاً ثمة سِرٌّ أيضاً لاكتشاف هذه التعاريج والنتوءات والجبال والصحارى التي ارتد الغزاة عنها وفي قلوبهم حسرة التمكن منها واخضاعها، أو - على الأقل - ترويضها، ها هي الطبيعة الأفغانية أمامك، تتلقاك من كل الجهات، وللتعرف عليها هناك أكثر من وسيلة: الجمل، الباص، البغل، سيارة الجيب، الشاحنات الخ. ولأن المشقة التي ستواجهها واحدة، الرجّة والرضوض وأشعة الشمس اللاهبة، تقتنع بأنه لا فرق بين أي من هذه الوسائل. وبسبب وعورة التضاريس لم تتمكن الحكومات المتعاقبة، ولا الاحتلالات من اقامة شبكة سكك حديد في أفغانستان لربط الأماكن ببعضها بعضاً. ومما يزيد الأمر تعقيداً وقسوة فإنك وفيما أنت مُجِدٌّ في مهمتك الشاقة ليس من كوب ماء على طول الطريق تبل به عروقك الناشفة. وبحسب "الموسوعة العربية" فإن أفغانستان بلد منحوت في الصخر، الناس فيه زرعوا دولة فوق تشكيل جيولوجي من الدور الثالث، وهو عبارة عن أحجار رملية وجيرية. وهي جزء من سلسلة منفصلة من الأحواض الهضبية المرتفعة، المغلقة حلقاتها، تمتد من البلقان والأناضول، فإيران الطبيعية حتى مشارف السند. وقد وُصفت بأنها "بلاد الإسلام المعلَّق، الذي يعتلي ظهور القلاع الطبيعية الشماء"، ويقول الرحالة الجغرافي العربي ابن حوقل من القرن العاشر الميلادي: "وأما خراسان فتشتمل على كور عظام، وأعمال جسام". وأمام هضبة البامير المطلة على زوايا التقاء الحدود الروسية - الإيرانية يقف الإنسان مذهولاً لشعوره بالضآلة والعجز أمام سلسلة الجبال الأكثر من شاهقة وشامخة، إذ يتراوح ارتفاعها بين 3000 و3900 متر، مما يجعل من رؤية قممها أمراً مستحيلاً للناظر اليها من الأرض. ويصل ارتفاع قممها ومروّساتها في داخل أفغانستان، الى 6069 متراً، ما جعلها تحظى بإجماع عالمي يصفها عن جدارة بأنها "سقف العالم" بحسب جغرافيين عالميين. وهكذا فحين تقترب من طبيعة أفغانستان، وتحتك بها عن قرب يعود اليك انطباعك الأول عن الأفغاني ذي الملامح القاسية والقسمات المتجهمة. فالجبال الصلدة الشامخة المجللة بالثلوج البيض على مدار العام، تنفجر من بين الصخور أنهاراً كالكريستال يُنبتُ الأزهار والأشجار والبشر والحيوانات جاعلاً كل شيء حياً. فطبيعة أفغانستان التي تهابها في بادئ الأمر وتخشاها تتبدد ملامحها الخشنة، وقسماتها المتجهمة كلما توددت اليها أكثر، لتكتشف ان لها وجهاً ملتبساً يخفي الكثير من عناصر الاثارة والتشويق. جسر العبور ولأفغانستان المتميزة بطبيعة موقعها خصوصية نادرة جعلت من هذا البلد جسراً للعبور الى القارة المحيطة بها. فدول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وايران والصين وشبه القارة الهندية لها مصالح حيوية، مشتركة معها. وعلى رغم صغر مساحتها 720 ألف كيلو متر مربع الذي لا يتعدى في مساحته ولاية تكساس الأميركية، وقياساً لمساحات الدول المحيطة بها، إلا ان الجميع كانوا يطمعون فيها، إذ ان السيطرة عليها من قِبل أي قوة ذات شأن - عسكرية أو غير عسكرية - يعني الوصول المباشر الى أبواب جيرانها. وقد زادت الطبيعة الجبلية من أنَفَة وشموخ الأفغاني مما نلاحظه في سلوك الناس وعاداتهم وجدّهم ولهوهم على السواء، وقد ظل الأفغاني انساناً صعب المراس، لا يلين ولا يهزم، وظلت أفغانستان قلعة استعصت على الغزاة والفاتحين، وظلت جميع المحاولات للدخول اليها معقودة على اقتحام الجبال أولاً. جميع الجحافل مرت فوق صخور أفغانستان، وأشهر الغزاة مروا من هناك. ولكن لم يطب المقام لأحد فيها، أو يهنأ، أو يستقر على أرضها، فالاسكندر الأكبر، وجنكيز خان، وتيمورلنك، ونابليون بونابرت أرسل مبعوثاً الى كابول ليمهّد لفتح الهند، لكنه لم ينجح في سعيه، وجيوش القياصرة: قياصرة الروس، والامبراطورية البريطانية. ولأن المسلمين لم يكونوا غزاة استعماريين وحده الإسلام استقر هناك في منتصف القرن الثاني الهجري. ولعل قبائل نورستان والطاجيك هي مضرب مثل في شجاعة الأفغان وبأسهم. إلا أن الأفغاني - عموماً - هو من أكثر المقاتلين شجاعة وجرأة واقتحاماً. أشهر أغانيهم القديمة تقول: "خير لك ان تعود الى بيتك مخضباً بالدماء، على أن تحيا حياة الجبناء". ومنذ زمن بعيد صنع شعب أفغانستان البندقية والمسدس بإمكاناته الفقيرة، على رغم العوز والتخلف، وتفنن في تجميل اسلحته الى حد تطعيم مقبض السلاح بالزخارف والأصداف. اما روسيا القيصرية فطالما سعت الى السيطرة على الأجزاء الشمالية من أفغانستان. وكذلك فعلت بريطانيا العظمى ابان الحقبة الاستعمارية إذ بذلت جهوداً كبيرة، على رغم وجودها في الهند القريبة. وعلى رغم وصولهما الى كابول أكثر من مرة، إلا ان الدولتين العظميين فشلتا في احكام قبضتيهما عليها. الى ان قررتا تحييد أفغانستان، واستمر الحال كذلك مع أميركا وارثة نفوذ بريطانيا في آسيا، ما بعد الحرب العالمية الثانية. توافد الاستعمار الغربي وفي القرنين السابع والثامن الميلاديين انطلق الزحف الإسلامي من أفغانستان، وكان سبباً في توافد الاستعمار الغربي الى آسيا. فالكاتب السياسي الهندي ك.م. بانيكار أشار في كتابه "آسيا والنفوذ الغربي" واصفاً التوافد الاستعماري المذكور الى القارة في القرن الخامس عشر بأنه "حرب صليبية جرّدها الغرب لوقف المد الإسلامي الى آسيا الذي انطلق من قلعته الحصينة في خراسان"" ويقول بانيكار: "ان هذا ما يفسّر اهتمام البابا برحلة فاسكو دي غاما الى آسيا في عام 1498، وارساله بعض المبشرين معه". وعلى مر العصور فإن الظروف التي توافقت معها توازنات القوى الكبرى، وبسبب المعطيات الطبيعية في أفغانستان وطباع الأفغان أنفسهم الموروثة والمكتسبة ظلت أفغانستان بلاداً لم يفلح أحد في استعمارها على مر التاريخ. وفي حين وقع العالم الإسلامي كله تحت سيطرة الاستعمار الغربي ونفوذه بعد الحرب العالمية الثانية، شذ بلدان فقط عن القاعدة هما: المملكة العربية السعودية وأفغانستان. وكان حدثاً عظيماً في التاريخ المعاصر يذكره العالم، وتذكره بريطانيا على وجه التحديد، إذ كانت المرة الوحيدة في التاريخ التي أُبيد فيها جيش لبريطانيا لعظمى من جانب دولة صغيرة هي أفغانستان، فسمي مضيق كابول "مضيق جورج" إذ كان مسرحاً شهد تراجيديا سقوط جيش الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مما حفر هذا الاسم في الذاكرة الانكليزية بحروف من دم. وروى الرحالة الانكليزي اندرو ويلسون مسجلاً انطباعاته ومشاهداته في أفغانستان، ولم ينسَ ان يشير الى قصة ابادة الجيش البريطاني التي قرأها وهو طفل في الصحف الانكليزية. ولا يزال ويلسون يذكر اسم الطبيب الضابط الوحيد الذي "نجا واستطاع الهرب الى بلدة جلال آباد حاملاً نبأ الفجيعة الى الحامية الانكليزية المرابطة في البلدة". ولا يزال الكاتب الانكليزي يذكر تفاصيل الواقعة التي حدثت في العام 1842 في كتاب أعده في ثلاثينات القرن العشرين. من هو الجندي المجهول؟ ولا بد لزائر كابول من الذهاب الى ضريح الجندي المجهول، وهو يعني في أفغانستان، وخصوصاً في كابول مقبرة "الجيش البريطاني المقتول". سُجلت هذه القصة في الكتب التي تتحدث عن أفغانستان، وتروي تاريخ الاستعمار في آسيا، إذ ان خلاف الأخوين "شجاع الملك" الذي فر الى "النبند" للاحتماء بالانكليز، و"دوست محمد خان" الذي استولى على السلطة وتحالف مع الروس، كان كافياً لخروج حملة انكليزية من الهند الى أفغانستان عام 1839، ووجهت برفض الأهالي وثورتهم وأدت الى قتل المعتمد البريطاني في كابول. لم يجد الانكليز مفراً من الانسحاب وسط صقيع وثلوج الشتاء، بعد ثلاث سنوات حافلة بالمتاعب، والخيبات والهزائم. وكان عددهم يتراوح بين 16 ألفاً و17 ألفاً بينهم 4500 مقاتل والباقون من المدنيين الانكليز والهنود، فوجئوا بكمين منصوب لهم عند مضيق كابول استطاع الأفغان فيه "ابادة الركب عن آخره". مما حمّل المضيق بجدارة اسم "مقبرة الغزاة". وكلفت هذه العملية شعب أفغانستان الكثير، إذ "دمرت كابول العاصمة على من فيها تقريباً". وفي عام 1878 اندلعت الحرب في أفغانستان ضد بريطانيا التي عادت ثانية لتخوض معارك عنيفة مع الروس. وكبد الأفغان بريطانيا العظمى "خسائر فادحة" انتهت بانتصار للانكليز "لم يهنأوا به، بسبب ثورات الأفغان التي لم تتوقف، مما اضطرها الى اعلان استقلال أفغانستان عام 1921، ومنذ ذلك التاريخ توقفت الغارات الخارجية على أفغانستان، وظلت موقعة كابول رمزاً لانتصار أهل الدار على الوافدين. وتعتبر كابول العاصمة "متحفاً حياً" إذا جاز التعبير. ولكي نتعرف على أفغانستان كلها عليك القيام بجولة في شوارع هذه المدينة المنحوتة في الصخور. كابول "الموقع" أي المكان مولودة منذ ولادة بلاد الأفغان ذاتها، وأفغان هو "حفيد بنيامين بن يعقوب عليه السلام، الذي سافر مع أبنائه الأربعين عندما حلّت الكارثة ببني اسرائيل، واتجه الى هذه المنطقة الواقعة شرق بلاد فارس وأقاموا فيها. في القرن الرابع عشر الميلادي زارها الرحالة ابن بطوطة فكتب يقول: "سافرنا الى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة، وفيها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان. ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية، وأكثرهم قطاع طرق". ويقول الدكتور جمال حمدان عن كابول "الموضع"، الخصائص والدور: "فهي حديثة العهد نسبياً، ومرتبطة بمولد أفغانستان للدولة في القرن الثامن عشر. قبل ذلك لم تكن الخريطة السياسية لوسط آسيا تعرف دولة بهذا الاسم، كانت هناك مقاطعات وممالك متناثرة، وقبائل راحلة وراء العشب والمطر، وكانت الممالك القائمة وقتذاك هي خراسان وسجستان وتركستان، والهند. كانت هناك الهندوسية ثم البوذية قبل دخول الإسلام. ويقال انهما ظهرتا للمرة الأولى في هذه المناطق، ثم زحفتا الى بقية دول آسيا، وحتى بعد الإسلام لم تقم الدولة الأفغانية الواحدة. بل قامت دول عدة تعتمد على العصبيات والأسس العرقية، وانفرط عقد خراسان وسجستان وتركستان. وعرف تاريخ المنطقة سجلاً طويلاً من الدويلات الصغيرة كالظاهرية، والصفارية، والسامانية، والغزنوية، والسلاجقة، والخوارزمية، والمغول والأوزبك وغيرها. وتحصن كل من هؤلاء في موقع له في الجبل، فحالت تضاريس الطبيعة دون وحدة هذا الشعب كما كانت حائلاً في وجه الغزاة. تحت أقدام جبل سليمان ترقد مدينة كابول. وتقول الأسطورة ان: "سليمان عليه السلام صعد فوق الجبل وألقى نظرة الى الهند، ثم رجع ولم يدخلها، ومن يومها سميَ الجبل باسمه". يحتضن الجبل ويحرس المدينة، والثلوج تغطي قممه على مدار العام، وعلى جوانب الجسور الستة لنهر كابول ينثر الباعة بضاعتهم، يسندون ظهورهم الى جدران البيوت ذات الطرز العتيقة، فيما المدينة الجديدة لا ترى النهر ولا تتعامل معه. إذ انها تقع على طرف آخر، ولها طراز آخر. تجمع كابول في أنماط ابنتيها وهندستها السكنية أكثر من طريقة عيش واحدة، وأكثر من زمن. فثمة مناطق تنتمي الى القرن العشرين، وأخرى تتراجع قرناً الى الوراء. أما إذا ذهبت الى حي "الأصمعي" فستنتقل الى قلب القرن الثامن عشر حيث تطل البيوت المبنية من الطين من فوق سفوح جبل سليمان. بيوت فقراء الأفغان لا تعرف الأثاث، وبعضها أقرب الى الكهف لصغرها وضيقها، السجاد هو كل متاعهم، وعندما صنعت قبائل نورستان المقاعد الخشب، اعتبر ذلك حدثاً مهماً ومثيراً. أما متوسطو الحال فأثاثهم السرير المصنوع من جذوع الشجر والحبال، ويسمونه "جاراباتي". وفي سوق كبير مخصص للسيّاح ينصب انتاج جميع القبائل والمقاطعات الأفغانية، وكان هذا السوق في الأصل للدواجن والبقول والخضار والطيور. ويرسم التنوع البشري أشكالاً مختلفة لفسيفساء أفغانستان، وأجناسها المتعددة المشارب والأشكال المتداخلة في نسيج اجتماعي واحد. وتتنوع صناعات كل من هذه الأجناس. فالسجاد من اختصاص عمل بنات التركمان ومروى، والجلود والفرو والعقيق من مناطق الطاجيك، والصداري المطرزة من غازني، والحلى والأساور الفضية من بلاد التركمان ونورستان، والبنادق والمسدسات المشغولة بالعاج من صنع أهالي الهزارة، وتختلف لغات الأفغان كما تختلف أشكالهم. إذ يصل عددها الى أكثر من عشرين لغة محلية. الا ن المعتمد منها رسمياً هما الباشتو وهي خليط من الأوردية والانكليزية، والعربية. و"الداري" وهي خليط من الفارسية والعربية. والصحف تصدر باللغتين، ونشرات الإذاعة تُقرأ بهما. الخبر الواحد يقدمه مذيع الباشتو، يتلوه على الفور مذيع لغة الداري. هذه حال اللغات، أما حال الأشكال والألوان والأجناس البشرية، فتمر أمام ناظريك في شوارع كابول غير مصدق ان هؤلاء الناس ينتمون الى بلاد واحدة، ويحملون جنسية واحدة. العاصمة الثانية وتعتبر قندهار اليوم العاصمة الثانية بعد كابول. وكانت في ما مضى عاصمة أفغانستان الأولى في عهد الملك أحمد خان مؤسس أفغانستان الحديثة. فالمدينة لا تزال تحتفظ ببعض آثار المجد الغابر، تنافس كابول في جمالها موضوعاً وشكلاً. عمارتها القديمة تشي بماضٍ عريق، بصماته تبدو أكثر وضوحاً في طراز المساجد وقصور أسرة الدوراني، وأسواقها عامرة بالبضائع والمشترين، ومعظمهم من السيّاح. مؤسس قندهار الأول هو الاسكندر الأكبر، الذي قدم بجحافله في القرن الرابع قبل الميلاد. حيث استمر حكم اليونان فيها قرنين من الزمن. ومثلما بنى الاسكندر اسكندرية مصر البحر التوسط، أراد ان يخلّد اسمه في وسط آسيا، فبنى اسكندرية "أراخوسيا" كما كانت تسمى قبل الميلاد، وحملت في ما بعد اسم "قندهار". هذه الصفحة لا تثير اهتمام الأفغان ، في حين يستحوذ على اهتمامهم واعتزازهم ذلك "المزار" الذي يُروى انه يحتوي على عباءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فيقرنون بين المكان وقيمة العباءة، ويطلقون على الاثنين اسم "الخرقة الشريفة". والرواية الأفغانية تقول ان "الملك أحمد خان هو الذي احضر العباءة الى عاصمة مُلكِه، تيمناً وتبرّكاً". الا ان أحداً لم يتحقق من صحة هذه الرواية، التي تماثلها روايات أخرى عن "مقدسات" في أنحاء أفغانستان، تثار تساؤلات عدة عن حقيقتها التاريخية. الطريق الى قندهار الطريق البري الى قندهار يقود الى هرات. ولكي تصلها يلزمك اجتياز مسافة 600 كيلو متر - أي ان تركب الجبل طوال يوم كامل - مصحوباً بحلقات جديدة من الرعب والمفاجآت في القمم الشاهقة، مشدود البصر الى الأفواه المفتوحة لصخور السفوح، ما ان تسمع صوت الموسيقى المتواصل تعرف انك أصبحت على مشارف هرات أو أنك في محيط قوم من أهلها. إلا انك تقطع الشك باليقين حين ترى المقاهي المزروعة على مساعفات متباعدة من الطريق، ثم تبزغ المنارات الست، التي كانت تحيط بالجامع الكبير الذي بنته احدى ملكات هرات في القرن الرابع عشر، العصر الذهب للدولة التيمورية التي قامت آنذاك. فمولانا نور الدين جامع أعظم الشعراء، وبهزاد هو أعظم الفنانين الأفغان اللذين انجبتهما الحقبة التيمورية. وقد ذكر ابن بطوطة هرات، إذ كتب يقول: "ومدينة هرات كبيرة عظيمة، كثيرة العمارة، ولأهلها صلاح، وعفاف وديانة، وبلادهم طاهرة من الفساد". وتاريخ هرات فيه أكثر مما قاله ابن بطوطة، فهي إضافة الى انها مدينة ناعمة شهيرة بالموسيقى والسجاد، ترقد على صفحات مثيرة من التاريخ، أقلها نابض بالحياة، لكن أكثرها غارق في الدم، وبعضها غارق في الدموع. فالاسكندر دمرها تماماً وبناها من جديد، ولا يزال أحد الحصون الذي شيد في عهده قائماً حتى الآن في قلب المدينة، يتخذه الباعة سوقاً لهم، ويفترشون أرضه، وتحتمي به الدواب والسابلة. وشهدت خراباً على ايدي السلاجقة في حروبهم ضد الغزنويين، ثم جاءت جحافل المغول غازية فتولى ابن جنكيزخان إمارتها. الا ان أهلها ثاروا عليه وقتلوه، فزحف عليها أبوه بجيش من "80 ألف رجل، ظلوا يدمرون ويذبحون مدة ستة أشهر، فلم ينجُ منهم سوى أربعين شخصاً". كما شهدت المدينة دماراً تالياً على يد تيمورلنك في القرن الرابع عشر، الا انها عرفت مرحلة من الهدوء والاستقرار في عهد ابنه شاه روخ الذي أعاد بناءها واعمارها. كل هذه العناصر شواهد من التاريخ تدل على أن أفغانستان بلد ينتمي الى الماضي أكثر مما ينتمي الى الحاضر، وفي طريق العودة من هرات، أي قندهار، الى كابول لا بد من المرور ببلدة باميان حيث نحت الرهبان البوذيون باقتدار وتفوق تمثالاً لبوذا في الجبال الصخرية الشاهقة، على ارتفاع 55 متراً، وفي العام الماضي تعرض التمثال لأضرار كبيرة أودت بالقسم الأكبر منه، وربما تكون أتت عليه بالكامل.