منذ دخوله رئيساً الى البيت الأبيض اريق الكثير من حبر الصحافة، وبحت اصوات اكثر المسؤولين العرب وهم يناشدون الرئيس جورج بوش ان يتدخل لوقف حمام الدم الفلسطيني والضغط على إسرائيل لاستئناف مفاوضات السلام. المناشدات الكتابية والشفوية، لم تحقق الغرض لكنها برهنت على ان اميركا لن تتحرك طالما ان الوضع تحت السيطرة ومصالحها غير معرضة للخطر. منذ ان برزت الولاياتالمتحدة قوة عظمى على الساحة الدولية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ ان ورثت الدول الاستعمارية الأوروبية كقوة مهيمنة على الساحة الشرق اوسطية تركزت السياسة الأميركية في المنطقة حول ثلاثة محاور رئيسة يسميها الخبير الأميركي المعروف، مايكل هدسون، بالثالوث المقدس، وهي: 1- منع الاتحاد السوفياتي من التغلغل الى المنطقة. 2- ضمان امن إسرائيل وسلامتها. 3- ضمان تدفق النفط من منطقة الخليج بأسعار مناسبة للاقتصاد الأميركي والغربي عموماً. 1- المرحلة الأولى 1948- 1973: احتواء الروس بعد انتهاء الحرب العالمية مباشرة تركزت السياسة الأميركية على منع الاتحاد السوفياتي من التغلغل جنوباً وغرباً وذلك باعتماد نظرية الاحتواء التي وضعها المفكر والكاتب جورج كينان، مدير إدارة التخطيط في وزارة الخارجية. في حينه ولتنفيذ عملية الاحتواء راحت واشنطن تعمل على بناء ما أخذ يعرف بحزام الأمن الشمالي وانصب الاهتمام خلال هذه المرحلة على تركيا، ايران وباكستان. ومنذ عام 1947 اخذت القضية الفلسطينية تستحوذ اهتمام الأميركيين عندما بدأ اليهود يضغطون بشدة للحصول على دعم واشنطن لإعلان دولتهم. ادى ذلك الى حصول اول انقسام داخل الإدارة الأميركية تجاه السياسة الشرق اوسطية. وتجلى الانقسام في المواقف المتناقضة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية. كان الرئيس هاري ترومان شديد التعاطف مع إسرائيل، كما كان شديد الحساسية تجاه الصوت الانتخابي اليهودي في سنة انتخابية حاسمة. ووزارة الخارجية من جهة اخرى كانت شديدة الحساسية تجاه المصالح الأميركية في المنطقة خصوصاً علاقاتها العربية والامتيازات النفطية. واشتد الخلاف بين الخارجية والبيت الأبيض عندما هدد وزير الخارجية جورج مارشال بالاستقالة في حال قرر الرئيس المضي قدماً في نيته الاعتراف بالدولة اليهودية. لكن الرئيس ترومان قرر تجاهل نصائح وزيره وأعلن اعترافه بدولة إسرائيل بعد مضي عشر دقائق على إنشائها، متذرعاً بأنه "ليس لدي الكثير من الأصوات العربية لكن لدي الكثير من الأصوات اليهودية في الولاياتالمتحدة". وبالفعل صوت لترومان 80 في المئة من يهود اميركا في انتخابات العام 1948. وتركز الجهد الأميركي على إقناع مصر بالانضمام الى حلف بغداد. لكن القاهرة بدت مهتمة اكثر بإجلاء الإنكليز من قناة السويس، وتحييد الخطر الإسرائيلي بعد الهجوم الشهير على قطاع غزة في شباط فبراير 1955. وبدأت واشنطن تنظر الى الصراع العربي - الإسرائيلي على انه عامل عدم استقرار في المنطقة، وعقبة في طريق تحقيق مشروعها الأمني. ولما كان ايزنهاور ينظر الى العرب على انها العنصر الأهم في المنطقة من جهة الرقعة الجغرافية التي يحتلونها والثروات التي يحوزونها فضلاً عن مخاوفه من إمكان ان يتحولوا الى التحالف مع موسكو، راح الجنرال السابق ينظر الى السياسات الاسرائيلية على انها عقبة على طريق تحقيق المشروع الأميركي. فظل يرفض تزويد اسرائيل السلاح، وقرر في احدى المرات تعليق برنامج المساعدات الأميركي لإسرائيل، وكانت قيمته في ذلك الوقت لا تتجاوز 30 مليون دولار سنوياً. وفي عام 1956 قرر ايزنهاور الوقوف ضد العدوان الثلاثي، ثم ارغم إسرائيل على الانسحاب من سيناء مطلع عام 1957. على رغم ذلك ظلت علاقات واشنطن مع عبدالناصر تتدهور باطراد بسبب استمرار الرفض المصري الانضمام الى حلف بغداد، واستمرار القاهرة في مساعيها للحصول على السلاح من الاتحاد السوفياتي. مع اغتيال كينيدي تسلم نائبه ليندون جونسون مقاليد الحكم في البيت الأبيض. كان الرئيس الجديد اكثر تعاطفاً مع إسرائيل وفي عهده بلغت العلاقات مع تل ابيب اوجها. وعندما اجتمع ابا ايبان الى الرئيس جونسون طالباً النصح اشار عليه الأخير "ان إسرائيل لن تكون وحدها إلا اذا قررت ان تكون وحدها"، ما فسره الكثيرون على انه ضوء اخضر لإسرائيل للمضي قدماً في تحطيم الأسطورة الناصرية. في عام 1969 عاد الجمهوريون الى البيت الأبيض وعادت النظرة الى المنطقة من خلال منظور الحرب الباردة لكن الإدارة الجمهورية كانت منقسمة هذه المرة. وبرز الانقسام على اشده بين مجلس الأمن القومي، وعلى رأسه هنري كيسنجر، ووزارة الخارجية، وعلى رأسها وليام روجرز. رأى كيسنجر ان إسرائيل بعد نصرها الساحق في حرب 1967، يجب ان تكون حجر الزاوية في السياسة الأميركية في المنطقة. ورأى روجرز ان افضل طريقة لاحتواء الاتحاد السوفياتي تكمن في ارضاء العرب، وحل المشكلة الفلسطينية على اساس قرار مجلس الأمن 242. 2- المرحلة الثانية 1973- 1990: النفط والصراع العربي - الإسرائيلي الانفراج على الصعيد الدولي انعكس سلباً على المنطقة، وتمثل في تناقص الاهتمام الأميركي بإيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط. ومع تفرده بتوجيه السياسة الخارجية لبلاده اخذ كيسنجر يروج لفكرة ان المصلحة الأميركية تكمن في منطقة الخليج وليس على الساحل الشرقي للمتوسط. وعليه راح يركز على ايران التي حولها، بفضل الدعم الكبير، الى شرطي للدفاع عن المصالح الأميركية. ولكن الشرق الأوسط كان يتوعد كيسنجر ببعض المفاجآت التي جعلت المنطقة تتجه نحو واحدة من احرج الفترات في تاريخها المعاصر. قرعت حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 نواقيس الخطر في واشنطن، وبدا ان ما حاولت الولاياتالمتحدة منعه في المنطقة، على مدى خمسة وعشرين عاماً، بات على وشك الوقوع. ادى اندلاع الحرب الى تعريض الثالوث المقدس الى شبه انهيار. واكتشف الأسد ان كيسنجر لم يكن مهتماً إلا برفع الحظر عن امدادات النفط، فهاجمه واتهمه بأنه يقوم برحلات مكوكية بهلوانية لخدمة النيات العدوانية الإسرائيلية. على اية حال نجح كيسنجر في تأمين رفع حظر النفط مكتفياً بفك الاشتباك بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات السورية والمصرية من جهة اخرى، ثم عاد ادراجه الى واشنطن وكان على الجميع انتظار مجيء إدارة اميركية جديدة. في عام 1977 جاء كارتر الى الحكم في البيت الأبيض، ومع سقوط نظام الشاه في ايران والغزو السوفياتي لأفغانستان قرر كارتر انشاء قوات للتدخل السريع بمهمة محددة وهي احتلال آبار نفط الخليج في حال تطبيق حظر جديد للنفط، أو وقوع الآبار في قبضة جهات معادية للولايات المتحدة. لكن الأهم من ذلك كله ان ادارة كارتر بدت شديدة الاقتناع، وكان شبح النفط ما زال يحوم فوق رأس الأميركيين وبأسعار راوحت بين 32 و34 دولاراً للبرميل، بأن ضمان امدادات نفط رخيصة، لا يتحقق بمعزل عن حل القضية الفلسطينية. وكان ذلك اول اعتراف رسمي يصدر عن الولاياتالمتحدة، يربط بين امدادات الطاقة وعملية السلام في الشرق الأوسط. وفي السنتين الأخيرتين من عهد كارتر انصرف الاهتمام الى منطقة الخليج وانشغلت الإدارة بالتطورات الإيرانية والغزو السوفياتي لأفغانستان. وفي 1981 عاد الجمهوريون الى البيت الأبيض، وعادت النظرة الى المنطقة من خلال منظور الحرب الباردة، وعاد النفوذ الإسرائيلي الى سابق عهده، على رغم ان منطقة الخليج وموضوع النفط ظلا يستأثران باهتمام الإدارة الجديدة. اعتبر ريغان إسرائيل حليفاً استراتيجياً في المنطقة، وراح يغدق عليها كل انواع المساعدة حتى ان اسرائيل حصلت في عام واحد 1981- 1982، على أكبر دعم عسكري اميركي تتلقاه على الإطلاق وتجاوزت قيمته 4 بلايين دولار. وباستثناء مبادرة هزيلة لحل الصراع اطلقها ريغان في بداية عهده، ورفضها العرب، لم تبد الولاياتالمتحدة اي اهتمام بالتسوية السلمية، وتركز اهتمامها بدلاً من ذلك على حماية امدادات النفط، وعزل موسكو وإرهاقها بسباق تسلح غير مسبوق، والوصول بالعلاقات مع إسرائيل الى مرحلة التحالف الاستراتيجي. في عام 1989 خلف جورج بوش ريغان في البيت الأبيض، وبدأ ولايته بفتح حوار مع منظمة التحرير بعد ان وافق المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التي عُقدت في الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر 1988 على الاعتراف بقرار الأممالمتحدة الرقم 242، ولكن الحوار لم يلبث ان انقطع بعد ان تذرع الأميركيون بالهجوم الذي قامت به جماعة "أبو العباس" في ايار مايو 1989. وبقيت الأمور على حالها حتى انهار الاتحاد السوفياتي وانتهت حرب الخليج الثانية. 3- المرحلة الثالثة 1991- 2001: الهيمنة المطلقة والسلام الإسرائيلي مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتبدد غيوم الحرب الباردة، زال احد اهم التحديات التي واجهت الولاياتالمتحدة في العالم ومن بينها الشرق الأوسط، كما زالت احدى العقبات التي ظلت تقف في وجه بسط هيمنة اميركية مطلقة على المنطقة. ومع قيام العراق بغزو الكويت توافرت للولايات المتحدة فرصة ذهبية لتحقيق ثاني اركان الاستراتيجية الأميركية، وهو حرمان العرب مرة واحدة وإلى الأبد من استخدام النفط سلاحاً لتحقيق اغراض سياسية. وبهزيمة العراق، وتصدع اركان النظام العربي، انفتح الطريق امام تحقيق ثالث وآخر اغراض الاستراتيجية الأميركية في المنطقة: فرض اعتراف عربي كامل بإسرائيل، ودمج الجميع في نظام اقليمي شرق اوسطي تهيمن عليه الولاياتالمتحدة يكون بديلاً للنظام العربي الذي بدا بعد حرب الخليج "خيالاً" غير قابل للتحقيق، فظهرت فكرة مؤتمر مدريد. وتمكن كلينتون من ابرام اتفاقيتي اوسلو ووادي عربة، لكنه فشل مع سورية ولبنان، وفي التوصل الى اتفاق الوضع النهائي مع الفلسطينيين. في عام 2001 جاء الى البيت الأبيض رئيس جديد وأعلن باول ان اميركا لن تتدخل في اي مكان في العالم إلا اذا تعرضت مصالحها للخطر. وعلى رغم التحدي الجدي الذي شكلته احداث 11 ايلول سبتمبر فمن الواضح ان الإدارة الأميركية لن تكون بعد ايلول احرص على تحقيق السلام في الشرق الأوسط مما كانت قبله، إلا اذا تعرضت مصالحها الحقيقية في المنطقة للخطر. حتى الآن لا يبدو ان شيئاً من هذا القبيل سيحدث. وإذا أضفنا الى ذلك وجود تماهٍ فكري وإيديولوجي بين اليمينين الأميركي والإسرائيلي، فإن الولاياتالمتحدة ستبقى معتمدة على شارون في ارهاب العرب وتطويعهم مستبدلة بذلك استراتيجية كلينتون في لم الجميع تحت القبعة الأميركية في مشروع شرق اوسطي تقوده إسرائيل اقتصادياً وتكنولوجياً. وحتى تتخلى الولاياتالمتحدة عن ديبلوماسيتها، على العرب ان يكفوا عن عبثية التوسل الى اميركا لتقبل العودة الى المنطقة، وأن يبحثوا عن طريقة اخرى ترغمها على ربط شارون، وربما إزاحته عن خشبة المسرح. وإذا فشل العرب في جعل اميركا تحترمهم فعليهم على الأقل ان يجعلوها تخشى على مصالحها في المنطقة. وتذكروا انه عندما فعل العرب ذلك جاءنا كيسنجر هرولة. مروان قبلان - جامعة مانشستر بريطانيا