أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    ورشة عمل لتسريع إستراتيجية القطاع التعاوني    إن لم تكن معي    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستشار الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف كارين بروتينتس: في التيه العربي . بوصول تشيرنينكو بعد رحيل اندروبوف قضت لجنة شؤون الشرق الأوسط نحبها ومات معها فريقنا 2 من 5
نشر في الحياة يوم 25 - 02 - 1999

خلاصة القول ان الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وان بقدر أقل، تقيّدا، لأسباب متباينة، باستراتيجية التوتر الموجه ولم يكونا ينويان التراجع عنها ما لم تتم تسوية مقبولة لهما. الا ان استراتيجية التوتر لم تكن بالنسبة الى السوفيات، خلافاً للاميركيين، خياراً طوعياً. ولم يكن خيار التسوية يتوقف على موسكو، بل على واشنطن. فهي الوحيدة المتمكنة من التأثير على اسرائيل وترغيبها في موقف بناء.
وخلافاً للولايات المتحدة لم يطرح الاتحاد السوفياتي - ولعله لم يكن قادراً ان يطرح مهمة ازاحة الاميركان من المنطقة. كان يريد تسوية يشارك فيها على قدم المساواة معهم. الا ان واشنطن ما كانت راغبة حقاً في التعاون مع موسكو في شؤون الشرق الأوسط.
وخلافاً للولايات المتحدة كان الاتحاد السوفياتي يريد تسوية شاملة. واليوم بوسعنا ان نحكم على خيار التاريخ ونقول ان السوفيات ايدوا برنامج التسوية الواقعي العادل. وهو في الواقع محور العملية السلمية الجارية الآن في الشرق الأوسط. وأعتقد ان ما يجري الآن يسوق الدليل على ان "الزمرة" القيادية في الدولتين الكبريين هي التي اعاقت الطرفين عن البحث عن سبل التسوية البناءة وتحقيقها من زمان، ربما من نهاية السبعينات.
فالبيان السوفياتي - الاميركي المشترك في 1 تشرين الأول اكتوبر 1977 يمكن ان يعتبر نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في المسألة الفلسطينية. لقد كان خطوة كبرى نحو المساومة بين الدولتين العظميين. فللمرة الأولى وافقتا على التعاون في حل مشكلة الشرق الأوسط على قدم المساواة. وكان تطبيق الاتفاقات المسجلة في البيان من شأنه ان يقود الاطراف المتنازعة الى توقيع الصلح وإحلال السلام في المنطقة. وللمرة الأولى دلل البيان على جدية جيمي كارتر واعترافه بحق الفلسطينيين وبضرورة انسحاب القوات الاسرائيلية وانهاء حالة الحرب. وكان ذلك تنازلاً من الولايات المتحدة لم تصدقه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في بادئ الأمر، حتى انني دخلت في جدال مع رفاقنا في مكتب الكساندروف. فقد قلت، وأيدني شيشلين مدير فريق خبراء قسم الاقطار الاشتراكية، ان ما حدث هو انعطاف في السياسة الاميركية قد لا يبقى محصوراً بالشرق الأوسط. واعترض علينا الكساندروف ووصفنا بالسذاجة. وكان هذا ايضاً موقف بوريس بونوماريوف وأوليانوفسكي وسمعته منهما في مكتب رئيس دائرتي بعد ساعتين. ومما يؤسف له ان تطور الاحداث اثبت صحة رأيهم. فبعد ايام ذكرني بونوماريوف متشفياً بتعليقاتي المتفائلة في شأن "الانعطاف الاميركي". ولزمت الصمت لعلمي بأن الولايات المتحدة سحبت تواً امضاءها من البيان المشترك كونه اضفى صدقية على الوجود السوفياتي في الشرق الأوسط ولأن اسرائيل اعترضت عليه بمنتهى الشدة.
وبعد شهور من فسخ البيان حلت مرحلة كامب ديفيد.
خلافاً للأميركيين الذين زعموا في رسالة من كارتر الى بريجنيف انهم لم يكونوا على علم مسبق برحلة أنور السادات الشهيرة الى القدس، لم تكن رحلته والاتصالات التي قادته الى كامب ديفيد مفاجأة بالنسبة الينا. كنا على علم بما يجري من خلال ضابط المخابرات المصري الفريق فوزي. والى ذلك حذرنا اصدقاؤنا العرب. فقد التقيت خالد محيي الدين في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1977 فأبلغني ان السادات ينوي الاقدام على تنازلات ويستعد لتسوية انفرادية يشرك فيها الأردن.
وفيما بعد كتب بريجنسكي في مذكراته يقول: "رضخنا لواقع ارجاء التسوية الشاملة لسنين عدة في افضل الاحوال. وبدلاً منها نحن مضطرون الى تحويل مبادرة السادات اتفاقاً ملموساً بين مصر واسرائيل... لنجعل العملية السلمية تمس الانظمة العربية المعتدلة على نحو يعزز المواقع الاميركية في المنطقة".
الا ان اتفاقية كامب ديفيد اسفرت عن المزيد من التباعد بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة والى التقارب بين السوفيات والعرب وان كان وقتياً. وعندما استلم رونالد ريغان السلطة لم يعد ثمة مجال للكلام عن اعمال سوفياتية اميركية مشتركة وبناءة بقدر ما. وكان من نقاط الضعف الأساسية في السياسة السوفياتية ازاء الشرق الأوسط غياب العلاقات الديبلوماسية او اية علاقات جدية اخرى مع اسرائيل. ولم يكن ذلك يشغل بالنا كثيراً، فقد تعودنا على غياب تلك العلاقات منذ قطعها في العام 1967 لأسباب مفهومة، لكنها خاطئة على اية حال.
عموماً كان موقف معظم العاملين في قسم العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي تجاه سياسة اسرائيل سلبياً تحول في بعض الاحيان نفوراً سافراً منها. وأنا شخصياً لم اكن معجباً باسرائيل مع اني لم اتحيز ضدها. الا انني كنت امقت استعداد زعماء البلد الذي تعرض شعبه لتنكيل منقطع النظير ابان الحرب العالمية الثانية لممارسة نفس ذلك التنكيل ضد العرب واقتطاع المزيد من اراضيهم. وكنت اعتقد انطلاقاً من وجهة نظرنا الرسمية ان استئناف العلاقات الديبلوماسية يجب ان تسبقه، او ترافقه في اقل تقدير، خطوات نحو التسوية السلمية. وبالمناسبة لدي ما يبرر القول ان الاميركيين كانوا يعتبرون هذا الموقف معقولاً. وهذا ما اكده نائب وزير الخارجية الاميركية ر. ميرفي الذي زارني في 11 آذار مارس 1988. وعلى رغم ذلك كنت اعتقد ان سياسة الانعزال او الابتعاد التام عن اسرائيل غير مجدية بل وخاطئة، اذ حرمتنا من عتلة ما كان بالامكان الاستغناء عنها في شؤون الشرق الأوسط. وكان موقف صحافتنا معادياً لاسرائيل لحد يثير الخجل وهي الآن بدلت موقفها ومضت الى الجانب المعاكس ارضاء للضمير!.
في مطلع الثمانينات نشأ في الشرق الأوسط وضع غير ملائم للسوفيات. فقد ازدادت شراسة السياسة الاميركية وتضاعف الوجود العسكري الاميركي في الاقطار العربية في العام الاخير من ولاية الرئيس كارتر. وبمجيء رونالد ريغان اشتد الاعتماد على القوة والضغوط المقترنة الى التهديدات والاستفزازات، مثل اسقاط الطائرتين الليبيتين في خليج سيرت في آب اغسطس 1981 والرسالة التهديدية التي بعثها رونالد ريغان الى الزعيم الليبي معمر القذافي بواسطة بلجيكا. وكنا استنتجنا من وثائق الخارجية والمخابرات المركزية الاميركية ان الاتهامات ضد ليبيا كانت آنذاك مزورة ومفتعلة. وفي آذار مارس 1982 بعثت وكالة المخابرات المركزية الى اليمن الجنوبي فريقاً من 13 شخصاً بهدف تفجير المنشآت النفطية والمواقع الحساسة. وكان هناك فريق آخر من هذا النوع سحبه الاميركان بعد اعتقال اعضاء الفريق الأول.
وفي العام 1983 جرى الانزال البحري الاميركي في لبنان، فيما قصفت المدمرة "نيوجرسي" مواقع "امل" والحزب التقدمي الاشتراكي وكذلك المواقع السورية في لبنان. ولم تتخلف اسرائيل عن ولية نعمتها الولايات المتحدة. فقصفت المفاعل الذري العراقي في صيف 1981، واحتلت الجنوب اللبناني في صيف العام الثاني.
وكانت لدينا معلومات تفيد ان وزير الدفاع ارييل شارون التقى مدير المخابرات المركزية كيسي في واشنطن قبيل احتلال الأراضي اللبنانية.
الا ان كل ذلك لم يعد على الاميركيين بنفع يذكر. فقد انسحب مشاة البحرية من بيروت بعد ان فقدوا 241 شخصاً. ولم يلن عود السوريين واللبنانيين امام الضغوط الاميركية. وقبلها اخفقت "خطة ريغان" للتسوية في الشرق الأوسط، اذ فسخت اتفاقية ايار مايو 1982 التي فرضت على لبنان بعد الغزو الاسرائيلي.
وأسفر استعراض القوى الاميركي - الاسرائيلي عن تعزز التعاون العسكري بين الاتحاد السوفياتي وسورية. تقدمت صواريخ سام - 5 السوفياتية في وادي البقاع اللبناني، وأسقطت طائرتان اميركيتان في كانون الأول ديسمبر 1983.
وعلى حد علمي كان موقف عسكريينا آنذاك، او قسم منهم في اقل تقدير، حازماً للغاية. وقال لي رئيس اركان الجيش الماريشال اوغاركوف ان "قبضتنا" في المنطقة "اقوى" من الاميركيين والاسرائيليين. وبعد ايام، في 20 حزيران يونيو 1982 جرت مكالمة هاتفية بين يوري اندروبوف وكنت آنذاك في مكتبه ووزير الدفاع دميتري اوستينوف ووزير الخارجية اندريه غروميكو. وأصرّ وزير الدفاع على "تحريك" فوجين من قوات التغطية وارسالهما الى سورية، فأجابه اندروبوف: "سنفكر في الموضوع". واتصل بوزير الخارجية يستشيره، فكان موقف غروميكو مائعاً متردداً. وضع اندروبوف السماعة والتفت اليّ بسؤال مفاجئ: "ما رأيك، هل نرسل قوات الى سورية؟" فقلت باسماً: "لا ارى موجباً لذلك. اسرائيل لن تتجرأ على الهجوم الآن. ثم ان اميركا لن تسمح لها. وأعتقد ان المجازفة كبيرة، فسنؤزم الموقف كثيراً من دون موجب". فأطرق اندروبوف ولم يرد علي.
كانت اتفاقية كامب ديفيد غرست في نفوسنا التشاؤم لأمد طويل فيما يخص المساومة على السلام. ولم يخرجنا من حال اليأس ويدفعنا الى التحرك الا "خطة ريغان" و"بيان فاس" الذي انطلق فيه العرب، بتأثير من جانبنا، وللمرة الأولى من احتمال الصلح مع اسرائيل من دون الاعتراف بها.
وكانت الحرب العراقية - الايرانية التي شجعتها في الواقع الولايات المتحدة بتأييد العراق أساساً واسرائيل المرتبطة بإيران قربت لهيب النزاع من حدودنا. وألقى استمرار سباق التسلح عبئاً متزايداً وخطيراً على الاتحاد السوفياتي والدول الصديقة. وتأزمت العلاقات بين السوريين والفلسطينيين وتعقد الموقف في اليمن الجنوبي وتورطت ليبيا في تشاد وتقوى الاسلاميون في الجزائر وتعززت سياسة "المسافة المتساوية" بعيداً عن الروس والاميركيين.
وبتسلم يوري اندروبوف القيادة في الاتحاد السوفياتي وحزبه الشيوعي لوحظ بعض الانتعاش في السياسة السوفياتية الشرق أوسطية. وتألفت لدى المكتب السياسي للحزب لجنة شؤون الشرق الأوسط برئاسة الماريشال ديمتري اوستينوف، ولم يرأسها، كما يقتضي المنطق، اندريه غروميكو ربما لأنه مشغول بادارة لجنة اخرى، هي اللجنة الافغانية، وربما للأهمية البالغة التي يرتديها العامل العسكري. وتألف كذلك فريق عمل تابع للجنة برئاسة الماريشال اوغاركوف وعضوية كل من غ. تورنييفكو الخارجية وي. ميديناك الكي جي بي وكاتب السطور قسم العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. وأعد فريقنا صيغة القرار المستفيض، الأول والأخير، للمكتب السياسي في شأن السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط.
وبدأ التخلي عن سياسة التنابذ والنفور تجاه مصر نزولاً عند رغبة الرئيس حسني مبارك الذي التقى السفير السوفياتي في القاهرة ثلاث مرات في العام 1983. وبدوره التقى غروميكو سفير مصر لدى موسكو. وفي مطلع العام التالي وصل الينا وفد مصري لبحث استئناف التعاون العسكري والتجاري. كما بدأ ارسال الآليات العسكرية الى الكويت والأردن في العام 1984. الا ان تلك الخطوات كانت وقتية وذات تأثير رمزي. فبمجيء تشيرنينكو الى الحكم بعد وفاة اندروبوف قضت لجنة شؤون الشرق الأوسط نحبها وفريقنا مات معها بهدوء.
وبعد انتخاب ميخائيل غورباتشوف اميناً عاماً للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بعثت اليه في 31 آذار 1985 عن طريق الكساندروف مذكرة مسهبة، في 17 صفحة، "حول سياسة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط". وعندما راجعتها حديثاً وجدت فيها الكثير مما لا يخرج عن اطار المخططات السوفياتية المعتادة آنذاك. الا انها تضمنت مقترحات في شأن تعديل سياستنا جوهرياً. شددت المذكرة على ضرورة المزيد من الاهتمام "بالجناح المحافظ في العالم العربي، انطلاقاً من مصالحنا المستقبلية وليس الآنية فقط، ونظرا لكون جميع الانظمة العربية، اليسارية والقومية والملكية بما فيها العربية السعودية، لها مصلحة بهذا القدر او ذاك في حضورنا في الشرق الأوسط". والى ذلك اكدت المذكرة على "لزوم زيادة مردودنا السياسي من التعاون الأشبه بعلاقات التحالف مع الاقطار العربية التقدمية وخصوصاً سورية...".
وفي النصف الأول من الثمانينات اخذنا نوفق بين شتى عناصر سياستنا: التفاعل الواسع مع الاقطار العربية كافة، والحوار مع اسرائيل والأوساط اليهودية المتنفذة في الغرب، والبحث عن سبل التفاهم مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وقبل ذلك كنا نداري وهماً في شأن امكان تغيير توازن القوى وحمل اسرائيل على تنازلات تؤدي الى قبولها بمخطط لاحلال السلام هي مصرة على رفضه.
وأدت التبدلات في علاقاتنا مع الولايات المتحدة الى تحسن ملحوظ في بادئ الأمر ثم جذري في آفاق التسوية السلمية. فانحسرت استراتيجية التوتر الموجه لتخلي المجال لاستراتيجية السلام. صحيح ان "الانتفاضة" في الأرض المحتلة تركت اثرها الكبير ايضاً في تبدل الموقف الاميركي. وهذا ما اكده لي شخصياً و. كوانت مستشار الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر لشؤون الشرق الاوسط في 12 تموز يوليو 1988.
وسرعان ما لاحت ثمار النهج السياسي الجديد. ولعلي اقول ان نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط بلغ الذروة من جديد في نهاية 1987 ومطلع 1988 لكن على اساس مغاير. فنحن لم نكن بددنا قوتنا السابقة ولم نضعف ارتباطاتنا مع حلفائنا على رغم تقليص الجانب العسكري في تلك الارتباطات. الى ذلك فاننا لم نفقد ولاً حليفاً واحداً منهم. الا اننا فوق كل شيء، ولجنا باب قسم من العالم العربي كان مغلقاً في وجوهنا، واعني دول الخليج الاغنى بكثير من حلفائنا التقليديين.
وعلى سبيل المثال اذكر اني في تلك الحقبة قمت بجولة في الاقطار العربية بصفتي ممثلاً شخصياً لميخائيل غورباتشوف وحملت رسائل منه الى الزعماء العرب حافظ الاسد وحسني مبارك والشيخ زايد آل نهيان والأمير سالم الصباح والملك فيصل آل سعود.
وفي الوقت نفسه كان في زيارة تلك الاقطار وزير الدفاع الايركي ر. كارلوتشي، الا ان الصحافة اولته اهتماماً اقل من اهتمامها بزيارتي على رغم علو منزلته رسمياً. حتى ان وزراء خارجية مصر وسورية والكويت والامارات عقدوا مؤتمرات صحافية خاصة بنتائج زيارة ممثل غورباتشوف. ولا تفسير لذلك سوى ارتفاع منزلة الاتحاد السوفياتي يومها.
التقيت الشيخ زايد قابلته فيما بعد مرتين اخريين في العام 1991 والعام 1995 في قصر الرئاسة الذي بدا لي وكأنه مقتبس عن حكايات الف ليلة وليلة. عند البوابة وعلى محيط المبنى حراس في بزّات تشبه بزات العسكر الانكليز، لكن مدخل الجناح الذي يوجد فيه الشيخ نفسه يحرسه ابناء العشيرة بلحاهم ودشداشاتهم. والقصر مؤثث بأثاث فاخر ومزود بأحدث وسائل الاتصال. والشيخ في زيه العربي ومحياه المضيء بلحية انيقة وشاربين، كما عند معظم العرب، الا انك لا تجد للشيب اثراً فيهما على رغم ان الرجل في عقده الثامن. وعلى الوجه والعنق واليدين تلوح سمرة البادية الابدية. وعلى جانبي الشيخ جلس اعضاء الديوان الاميري يصغون بانتباه من دون ان يتفوهوا بكلمة تقريباً طوال ساعتين من اللقاء. وللمرة الاولى في حياتي استمعت الى مسائل السياسة الدنيوية تطرح في اطار الفلسفة الاسلامية واخلاق البادية. لم يسبق لي ان حضرت جلسات من هذا النوع.
كنت ادرك انني اتحدث الى سياسي محنّك يعوم بمهارة في بحر الاحداث المحلية والاقليمية المتشابكة، فأدهشتني تأملات الشيخ زايد الموشاة بالحكمة والفطرية والنباهة والذكاء. قادني الى النافذة العريضة المطلة على ساحل البحر واشار الى طريق السيارات الرائع الذي يطوقه من الجانبين حزام اخضر من اشجار تسقى كل واحدة منها بقناة ارواء يضبط الكومبيوتر كمية الماء فيها وقال ما معناه: عندما جئنا الى هنا كانت الارض قاحلة في كل مكان، ولكل عائلة بعير واحد لا غير، اما الآن فلدى العائلة الواحدة عدة سيارات. كل ذلك من عند الله لاننا نعيش في وئام ولا نقاتل احداً.
وتيقنت ان سياسة زعماء الامارات الموزونة والمتريثة، الى جانب الثروة النفطية، هي التي أمّنت هذا الازدهار.
وفيما بعد حررت مذكرة الى الرئيس السوفياتي عن انطباعاتي عن زياراتي لدول الخليج. ولأهمية هذه الوثيقة التي لا مجال لنشرها هنا مع الاسف رأي غورباتشوف ان يبعث نسخة منها الى وزيري الخارجية والدفاع آنذاك بانكين وشابوشنيكوف كذلك رئيس اتحاد الصناعيين اركادي فولسكي ومدير الاستخبارات الخارجية يفغيني بريماكوف. وكنت شددت في ختام المذكرة على اهمية الاتصالات السياسية المكثفة بين الرئيس السوفياتي ورؤساء دول الخليج حتى من خلال المكالمات الهاتفية مع بعضهم على الاقل، وخصوصاً العاهل السعودي ورئيس الدولة في الامارات. ألم يكن الرؤساء الاميركان، وخصوصاً جورج بوش يستخدمون هذا الاسلوب في المناسبات؟
خلاصة القول ان الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وان بقدر أقل، تقيّدا، لأسباب متباينة، باستراتيجية التوتر الموجه ولم يكونا ينويان التراجع عنها ما لم تتم تسوية مقبولة لهما. الا ان استراتيجية التوتر لم تكن بالنسبة الى السوفيات، خلافاً للاميركيين، خياراً طوعياً. ولم يكن خيار التسوية يتوقف على موسكو، بل على واشنطن. فهي الوحيدة المتمكنة من التأثير على اسرائيل وترغيبها في موقف بناء.
وخلافاً للولايات المتحدة لم يطرح الاتحاد السوفياتي - ولعله لم يكن قادراً ان يطرح مهمة ازاحة الاميركان من المنطقة. كان يريد تسوية يشارك فيها على قدم المساواة معهم. الا ان واشنطن ما كانت راغبة حقاً في التعاون مع موسكو في شؤون الشرق الأوسط.
وخلافاً للولايات المتحدة كان الاتحاد السوفياتي يريد تسوية شاملة. واليوم بوسعنا ان نحكم على خيار التاريخ ونقول ان السوفيات ايدوا برنامج التسوية الواقعي العادل. وهو في الواقع محور العملية السلمية الجارية الآن في الشرق الأوسط. وأعتقد ان ما يجري الآن يسوق الدليل على ان "الزمرة" القيادية في الدولتين الكبريين هي التي اعاقت الطرفين عن البحث عن سبل التسوية البناءة وتحقيقها من زمان، ربما من نهاية السبعينات.
فالبيان السوفياتي - الاميركي المشترك في 1 تشرين الأول اكتوبر 1977 يمكن ان يعتبر نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في المسألة الفلسطينية. لقد كان خطوة كبرى نحو المساومة بين الدولتين العظميين. فللمرة الأولى وافقتا على التعاون في حل مشكلة الشرق الأوسط على قدم المساواة. وكان تطبيق الاتفاقات المسجلة في البيان من شأنه ان يقود الاطراف المتنازعة الى توقيع الصلح وإحلال السلام في المنطقة. وللمرة الأولى دلل البيان على جدية جيمي كارتر واعترافه بحق الفلسطينيين وبضرورة انسحاب القوات الاسرائيلية وانهاء حالة الحرب. وكان ذلك تنازلاً من الولايات المتحدة لم تصدقه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في بادئ الأمر، حتى انني دخلت في جدال مع رفاقنا في مكتب الكساندروف. فقد قلت، وأيدني شيشلين مدير فريق خبراء قسم الاقطار الاشتراكية، ان ما حدث هو انعطاف في السياسة الاميركية قد لا يبقى محصوراً بالشرق الأوسط. واعترض علينا الكساندروف ووصفنا بالسذاجة. وكان هذا ايضاً موقف بوريس بونوماريوف وأوليانوفسكي وسمعته منهما في مكتب رئيس دائرتي بعد ساعتين. ومما يؤسف له ان تطور الاحداث اثبت صحة رأيهم. فبعد ايام ذكرني بونوماريوف متشفياً بتعليقاتي المتفائلة في شأن "الانعطاف الاميركي". ولزمت الصمت لعلمي بأن الولايات المتحدة سحبت تواً امضاءها من البيان المشترك كونه اضفى صدقية على الوجود السوفياتي في الشرق الأوسط ولأن اسرائيل اعترضت عليه بمنتهى الشدة.
وبعد شهور من فسخ البيان حلت مرحلة كامب ديفيد.
خلافاً للأميركيين الذين زعموا في رسالة من كارتر الى بريجنيف انهم لم يكونوا على علم مسبق برحلة أنور السادات الشهيرة الى القدس، لم تكن رحلته والاتصالات التي قادته الى كامب ديفيد مفاجأة بالنسبة الينا. كنا على علم بما يجري من خلال ضابط المخابرات المصري الفريق فوزي. والى ذلك حذرنا اصدقاؤنا العرب. فقد التقيت خالد محيي الدين في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1977 فأبلغني ان السادات ينوي الاقدام على تنازلات ويستعد لتسوية انفرادية يشرك فيها الأردن.
وفيما بعد كتب بريجنسكي في مذكراته يقول: "رضخنا لواقع ارجاء التسوية الشاملة لسنين عدة في افضل الاحوال. وبدلاً منها نحن مضطرون الى تحويل مبادرة السادات اتفاقاً ملموساً بين مصر واسرائيل... لنجعل العملية السلمية تمس الانظمة العربية المعتدلة على نحو يعزز المواقع الاميركية في المنطقة".
الا ان اتفاقية كامب ديفيد اسفرت عن المزيد من التباعد بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة والى التقارب بين السوفيات والعرب وان كان وقتياً. وعندما استلم رونالد ريغان السلطة لم يعد ثمة مجال للكلام عن اعمال سوفياتية اميركية مشتركة وبناءة بقدر ما. وكان من نقاط الضعف الأساسية في السياسة السوفياتية ازاء الشرق الأوسط غياب العلاقات الديبلوماسية او اية علاقات جدية اخرى مع اسرائيل. ولم يكن ذلك يشغل بالنا كثيراً، فقد تعودنا على غياب تلك العلاقات منذ قطعها في العام 1967 لأسباب مفهومة، لكنها خاطئة على اية حال.
عموماً كان موقف معظم العاملين في قسم العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي تجاه سياسة اسرائيل سلبياً تحول في بعض الاحيان نفوراً سافراً منها. وأنا شخصياً لم اكن معجباً باسرائيل مع اني لم اتحيز ضدها. الا انني كنت امقت استعداد زعماء البلد الذي تعرض شعبه لتنكيل منقطع النظير ابان الحرب العالمية الثانية لممارسة نفس ذلك التنكيل ضد العرب واقتطاع المزيد من اراضيهم. وكنت اعتقد انطلاقاً من وجهة نظرنا الرسمية ان استئناف العلاقات الديبلوماسية يجب ان تسبقه، او ترافقه في اقل تقدير، خطوات نحو التسوية السلمية. وبالمناسبة لدي ما يبرر القول ان الاميركيين كانوا يعتبرون هذا الموقف معقولاً. وهذا ما اكده نائب وزير الخارجية الاميركية ر. ميرفي الذي زارني في 11 آذار مارس 1988. وعلى رغم ذلك كنت اعتقد ان سياسة الانعزال او الابتعاد التام عن اسرائيل غير مجدية بل وخاطئة، اذ حرمتنا من عتلة ما كان بالامكان الاستغناء عنها في شؤون الشرق الأوسط. وكان موقف صحافتنا معادياً لاسرائيل لحد يثير الخجل وهي الآن بدلت موقفها ومضت الى الجانب المعاكس ارضاء للضمير!.
في مطلع الثمانينات نشأ في الشرق الأوسط وضع غير ملائم للسوفيات. فقد ازدادت شراسة السياسة الاميركية وتضاعف الوجود العسكري الاميركي في الاقطار العربية في العام الاخير من ولاية الرئيس كارتر. وبمجيء رونالد ريغان اشتد الاعتماد على القوة والضغوط المقترنة الى التهديدات والاستفزازات، مثل اسقاط الطائرتين الليبيتين في خليج سيرت في آب اغسطس 1981 والرسالة التهديدية التي بعثها رونالد ريغان الى الزعيم الليبي معمر القذافي بواسطة بلجيكا. وكنا استنتجنا من وثائق الخارجية والمخابرات المركزية الاميركية ان الاتهامات ضد ليبيا كانت آنذاك مزورة ومفتعلة. وفي آذار مارس 1982 بعثت وكالة المخابرات المركزية الى اليمن الجنوبي فريقاً من 13 شخصاً بهدف تفجير المنشآت النفطية والمواقع الحساسة. وكان هناك فريق آخر من هذا النوع سحبه الاميركان بعد اعتقال اعضاء الفريق الأول.
وفي العام 1983 جرى الانزال البحري الاميركي في لبنان، فيما قصفت المدمرة "نيوجرسي" مواقع "امل" والحزب التقدمي الاشتراكي وكذلك المواقع السورية في لبنان. ولم تتخلف اسرائيل عن ولية نعمتها الولايات المتحدة. فقصفت المفاعل الذري العراقي في صيف 1981، واحتلت الجنوب اللبناني في صيف العام الثاني.
وكانت لدينا معلومات تفيد ان وزير الدفاع ارييل شارون التقى مدير المخابرات المركزية كيسي في واشنطن قبيل احتلال الأراضي اللبنانية.
الا ان كل ذلك لم يعد على الاميركيين بنفع يذكر. فقد انسحب مشاة البحرية من بيروت بعد ان فقدوا 241 شخصاً. ولم يلن عود السوريين واللبنانيين امام الضغوط الاميركية. وقبلها اخفقت "خطة ريغان" للتسوية في الشرق الأوسط، اذ فسخت اتفاقية ايار مايو 1982 التي فرضت على لبنان بعد الغزو الاسرائيلي.
وأسفر استعراض القوى الاميركي - الاسرائيلي عن تعزز التعاون العسكري بين الاتحاد السوفياتي وسورية. تقدمت صواريخ سام - 5 السوفياتية في وادي البقاع اللبناني، وأسقطت طائرتان اميركيتان في كانون الأول ديسمبر 1983.
وعلى حد علمي كان موقف عسكريينا آنذاك، او قسم منهم في اقل تقدير، حازماً للغاية. وقال لي رئيس اركان الجيش الماريشال اوغاركوف ان "قبضتنا" في المنطقة "اقوى" من الاميركيين والاسرائيليين. وبعد ايام، في 20 حزيران يونيو 1982 جرت مكالمة هاتفية بين يوري اندروبوف وكنت آنذاك في مكتبه ووزير الدفاع دميتري اوستينوف ووزير الخارجية اندريه غروميكو. وأصرّ وزير الدفاع على "تحريك" فوجين من قوات التغطية وارسالهما الى سورية، فأجابه اندروبوف: "سنفكر في الموضوع". واتصل بوزير الخارجية يستشيره، فكان موقف غروميكو مائعاً متردداً. وضع اندروبوف السماعة والتفت اليّ بسؤال مفاجئ: "ما رأيك، هل نرسل قوات الى سورية؟" فقلت باسماً: "لا ارى موجباً لذلك. اسرائيل لن تتجرأ على الهجوم الآن. ثم ان اميركا لن تسمح لها. وأعتقد ان المجازفة كبيرة، فسنؤزم الموقف كثيراً من دون موجب". فأطرق اندروبوف ولم يرد علي.
كانت اتفاقية كامب ديفيد غرست في نفوسنا التشاؤم لأمد طويل فيما يخص المساومة على السلام. ولم يخرجنا من حال اليأس ويدفعنا الى التحرك الا "خطة ريغان" و"بيان فاس" الذي انطلق فيه العرب، بتأثير من جانبنا، وللمرة الأولى من احتمال الصلح مع اسرائيل من دون الاعتراف بها.
وكانت الحرب العراقية - الايرانية التي شجعتها في الواقع الولايات المتحدة بتأييد العراق أساساً واسرائيل المرتبطة بإيران قربت لهيب النزاع من حدودنا. وألقى استمرار سباق التسلح عبئاً متزايداً وخطيراً على الاتحاد السوفياتي والدول الصديقة. وتأزمت العلاقات بين السوريين والفلسطينيين وتعقد الموقف في اليمن الجنوبي وتورطت ليبيا في تشاد وتقوى الاسلاميون في الجزائر وتعززت سياسة "المسافة المتساوية" بعيداً عن الروس والاميركيين.
وبتسلم يوري اندروبوف القيادة في الاتحاد السوفياتي وحزبه الشيوعي لوحظ بعض الانتعاش في السياسة السوفياتية الشرق أوسطية. وتألفت لدى المكتب السياسي للحزب لجنة شؤون الشرق الأوسط برئاسة الماريشال ديمتري اوستينوف، ولم يرأسها، كما يقتضي المنطق، اندريه غروميكو ربما لأنه مشغول بادارة لجنة اخرى، هي اللجنة الافغانية، وربما للأهمية البالغة التي يرتديها العامل العسكري. وتألف كذلك فريق عمل تابع للجنة برئاسة الماريشال اوغاركوف وعضوية كل من غ. تورنييفكو الخارجية وي. ميديناك الكي جي بي وكاتب السطور قسم العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. وأعد فريقنا صيغة القرار المستفيض، الأول والأخير، للمكتب السياسي في شأن السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط.
وبدأ التخلي عن سياسة التنابذ والنفور تجاه مصر نزولاً عند رغبة الرئيس حسني مبارك الذي التقى السفير السوفياتي في القاهرة ثلاث مرات في العام 1983. وبدوره التقى غروميكو سفير مصر لدى موسكو. وفي مطلع العام التالي وصل الينا وفد مصري لبحث استئناف التعاون العسكري والتجاري. كما بدأ ارسال الآليات العسكرية الى الكويت والأردن في العام 1984. الا ان تلك الخطوات كانت وقتية وذات تأثير رمزي. فبمجيء تشيرنينكو الى الحكم بعد وفاة اندروبوف قضت لجنة شؤون الشرق الأوسط نحبها وفريقنا مات معها بهدوء.
وبعد انتخاب ميخائيل غورباتشوف اميناً عاماً للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بعثت اليه في 31 آذار 1985 عن طريق الكساندروف مذكرة مسهبة، في 17 صفحة، "حول سياسة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط". وعندما راجعتها حديثاً وجدت فيها الكثير مما لا يخرج عن اطار المخططات السوفياتية المعتادة آنذاك. الا انها تضمنت مقترحات في شأن تعديل سياستنا جوهرياً. شددت المذكرة على ضرورة المزيد من الاهتمام "بالجناح المحافظ في العالم العربي، انطلاقاً من مصالحنا المستقبلية وليس الآنية فقط، ونظرا لكون جميع الانظمة العربية، اليسارية والقومية والملكية بما فيها العربية السعودية، لها مصلحة بهذا القدر او ذاك في حضورنا في الشرق الأوسط". والى ذلك اكدت المذكرة على "لزوم زيادة مردودنا السياسي من التعاون الأشبه بعلاقات التحالف مع الاقطار العربية التقدمية وخصوصاً سورية...".
وفي النصف الأول من الثمانينات اخذنا نوفق بين شتى عناصر سياستنا: التفاعل الواسع مع الاقطار العربية كافة، والحوار مع اسرائيل والأوساط اليهودية المتنفذة في الغرب، والبحث عن سبل التفاهم مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وقبل ذلك كنا نداري وهماً في شأن امكان تغيير توازن القوى وحمل اسرائيل على تنازلات تؤدي الى قبولها بمخطط لاحلال السلام هي مصرة على رفضه.
وأدت التبدلات في علاقاتنا مع الولايات المتحدة الى تحسن ملحوظ في بادئ الأمر ثم جذري في آفاق التسوية السلمية. فانحسرت استراتيجية التوتر الموجه لتخلي المجال لاستراتيجية السلام. صحيح ان "الانتفاضة" في الأرض المحتلة تركت اثرها الكبير ايضاً في تبدل الموقف الاميركي. وهذا ما اكده لي شخصياً و. كوانت مستشار الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر لشؤون الشرق الاوسط في 12 تموز يوليو 1988.
وسرعان ما لاحت ثمار النهج السياسي الجديد. ولعلي اقول ان نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط بلغ الذروة من جديد في نهاية 1987 ومطلع 1988 لكن على اساس مغاير. فنحن لم نكن بددنا قوتنا السابقة ولم نضعف ارتباطاتنا مع حلفائنا على رغم تقليص الجانب العسكري في تلك الارتباطات. الى ذلك فاننا لم نفقد ولاً حليفاً واحداً منهم. الا اننا فوق كل شيء، ولجنا باب قسم من العالم العربي كان مغلقاً في وجوهنا، واعني دول الخليج الاغنى بكثير من حلفائنا التقليديين.
وعلى سبيل المثال اذكر اني في تلك الحقبة قمت بجولة في الاقطار العربية بصفتي ممثلاً شخصياً لميخائيل غورباتشوف وحملت رسائل منه الى الزعماء العرب حافظ الاسد وحسني مبارك والشيخ زايد آل نهيان والأمير سالم الصباح والملك فيصل آل سعود.
وفي الوقت نفسه كان في زيارة تلك الاقطار وزير الدفاع الايركي ر. كارلوتشي، الا ان الصحافة اولته اهتماماً اقل من اهتمامها بزيارتي على رغم علو منزلته رسمياً. حتى ان وزراء خارجية مصر وسورية والكويت والامارات عقدوا مؤتمرات صحافية خاصة بنتائج زيارة ممثل غورباتشوف. ولا تفسير لذلك سوى ارتفاع منزلة الاتحاد السوفياتي يومها.
التقيت الشيخ زايد قابلته فيما بعد مرتين اخريين في العام 1991 والعام 1995 في قصر الرئاسة الذي بدا لي وكأنه مقتبس عن حكايات الف ليلة وليلة. عند البوابة وعلى محيط المبنى حراس في بزّات تشبه بزات العسكر الانكليز، لكن مدخل الجناح الذي يوجد فيه الشيخ نفسه يحرسه ابناء العشيرة بلحاهم ودشداشاتهم. والقصر مؤثث بأثاث فاخر ومزود بأحدث وسائل الاتصال. والشيخ في زيه العربي ومحياه المضيء بلحية انيقة وشاربين، كما عند معظم العرب، الا انك لا تجد للشيب اثراً فيهما على رغم ان الرجل في عقده الثامن. وعلى الوجه والعنق واليدين تلوح سمرة البادية الابدية. وعلى جانبي الشيخ جلس اعضاء الديوان الاميري يصغون بانتباه من دون ان يتفوهوا بكلمة تقريباً طوال ساعتين من اللقاء. وللمرة الاولى في حياتي استمعت الى مسائل السياسة الدنيوية تطرح في اطار الفلسفة الاسلامية واخلاق البادية. لم يسبق لي ان حضرت جلسات من هذا النوع.
كنت ادرك انني اتحدث الى سياسي محنّك يعوم بمهارة في بحر الاحداث المحلية والاقليمية المتشابكة، فأدهشتني تأملات الشيخ زايد الموشاة بالحكمة والفطرية والنباهة والذكاء. قادني الى النافذة العريضة المطلة على ساحل البحر واشار الى طريق السيارات الرائع الذي يطوقه من الجانبين حزام اخضر من اشجار تسقى كل واحدة منها بقناة ارواء يضبط الكومبيوتر كمية الماء فيها وقال ما معناه: عندما جئنا الى هنا كانت الارض قاحلة في كل مكان، ولكل عائلة بعير واحد لا غير، اما الآن فلدى العائلة الواحدة عدة سيارات. كل ذلك من عند الله لاننا نعيش في وئام ولا نقاتل احداً.
وتيقنت ان سياسة زعماء الامارات الموزونة والمتريثة، الى جانب الثروة النفطية، هي التي أمّنت هذا الازدهار.
وفيما بعد حررت مذكرة الى الرئيس السوفياتي عن انطباعاتي عن زياراتي لدول الخليج. ولأهمية هذه الوثيقة التي لا مجال لنشرها هنا مع الاسف رأي غورباتشوف ان يبعث نسخة منها الى وزيري الخارجية والدفاع آنذاك بانكين وشابوشنيكوف كذلك رئيس اتحاد الصناعيين اركادي فولسكي ومدير الاستخبارات الخارجية يفغيني بريماكوف. وكنت شددت في ختام المذكرة على اهمية الاتصالات السياسية المكثفة بين الرئيس السوفياتي ورؤساء دول الخليج حتى من خلال المكالمات الهاتفية مع بعضهم على الاقل، وخصوصاً العاهل السعودي ورئيس الدولة في الامارات. ألم يكن الرؤساء الاميركان، وخصوصاً جورج بوش يستخدمون هذا الاسلوب في المناسبات؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.