أصيبت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بالحرج، بعد قليل من دخوله البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) 1969، لما سرّب صحافيون التقوا وراء أبواب مغلقة مستشار الأمن القومي الدكتور هنري كيسنجر ما قاله الأخير من أن «الإدارة الأميركية الجديدة تسعى إلى طرد السوفيات من منطقة الشرق الأوسط»، وهو ما شرح كيسنجر (في كتابه «سنوات إعادة التجديد»، منشورات سيمون وشوستر، نيويورك 2000، ص 353) وسائل تحقيقه عبر هدفين: عرقلة وإحباط أي تحرك عربي يعتمد على الدعم السوفياتي أو يستجلب تهديداً عسكرياً من موسكو، ثم تولي واشنطن عملية السلام لما يؤدي الإحباط لدى قادة عرب رئيسيين من الجمود القائم في التوازنات مع إسرائيل إلى فك ارتباط الأخيرين مع موسكو واستدارتهم عن واشنطن. إثر اتفاقيات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية (18 كانون الثاني/ يناير 1974) والسورية (31 أيار/ مايو 1974)، كان هناك مشهد شرق أوسطي جديد، تميّز بانحسار النفوذ السوفياتي عن المنطقة، وصعود واشنطن التي تولت رعاية تلك الاتفاقيتين: في صيف 1974 توصّل كيسنجر إلى رسم سياسة «الخطوة خطوة» في مقاربة الصراع العربي الإسرائيلي، بالتفاهم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد إسحق رابين الذي فضّل «الخيار المصري» على «الخيار الأردني» وعلى «اتفاقية ثانية» مع السوريين،على الضد من وزير خارجيته إيغال ألون الذي حبّذ اتفاقاً مع الملك حسين عبر «خطة ألون» (التي كانت نسخة سابقة بعقدين ل «اتفاقية أوسلو»)، وهو ما تلاقى مع الرئيس السادات الذي كان آنذاك بقوة ضد «الخيار الأردني» ومن أكبر الداعمين للمسار الذي قاد إلى قرار قمة الرباط (28 تشرين الأول 1974) باعتبار «منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني»، وهو أمر لا يمكن عزله عن (برنامج النقاط العشر) الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته المنعقدة في القاهرة في حزيران (يونيو) 1974 وكان يتضمن أول تبن فلسطيني لسياسة «إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة على أي جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها» بدلاً من «الدولة الديموقراطية... في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني» كما هو منصوص في (برنامج العمل السياسي) في شباط (فبراير) 1971 الذي وافقت عليه كل الفصائل الفلسطينية. كان تفاهم كيسنجر- رابين (أيلول/ سبتمبر 1974) يتضمن رؤية استراتيجية («سنوات إعادة التجديد»، ص ص 357-358) تهدف إلى التالي: إبعاد قضية حدود 1967عن جدول الأعمال -إبعاد موضوعي القدسوالفلسطينيين- منع هيمنة الموضوع الفلسطيني على المواضيع الأخرى أو ربط المواضيع كلها في رزمة واحدة. فشلت جولة كيسنجر المكوكية (7 - 22 آذار/ مارس 1975) في إحداث اختراق منفرد على الجبهة المصرية بسبب المعارضة السعودية - السورية المشتركة. كان نشوب الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان/ أبريل 1975)، مؤدياً إلى نشوء جو مؤات لتوقيع اتفاقية سيناء الثانية في 1 أيلول 1975، في ظل الحاجة الأميركية الشديدة لإحداث إنجاز في الشرق الأوسط يعوّض سقوط سايغون (30 نيسان 1975) والهزيمة الفيتنامية. كان انتهاء حرب السنتين اللبنانية عبر مؤتمر الرياض السداسي (16-18 تشرين الأول 1976)، الذي تضمن مصالحة سورية - مصرية وموافقة عربية على الوجود السوري في لبنان، مترافقاً، بعده بأسابيع، مع انتخاب رئيس أميركي جديد هو جيمي كارتر ومجيء خصم فكري لكيسنجر هو زبيغنيو بريجنسكي لمستشارية الأمن القومي الأميركي وهو كان القوة الفكرية وراء تقرير معهد بروكينغز (1975) الناقد لسياسة «الخطوة خطوة» والداعي الى تسوية شاملة، والذي علق عليه كيسنجر بالعبارة التالية ساخراً: كان التقرير صحيحاً لو كانت الديبلوماسية عملية بسيطة مثلما هي حال الدراسة في حلقة بحث أكاديمية حول العلوم السياسية. خلال أشهر عشرة من عام 1977 أحيت إدارة كارتر فكرة التسوية الشاملة والعودة لمؤتمر جنيف، وهو ما تتوّج في 1 تشرين الأول بالبيان الأميركي - السوفياتي المشترك، وكانت سبقته أجواء من طرح فكرة «الوفد العربي المشترك»، وتلقفتها أطراف عربية أخرى، وغربية، من أجل حل معضلة تمثيل الفلسطينيين: أطاحت زيارة الرئيس السادات للقدس (19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977) بكل هذه الأجواء العربية - الأميركية ومهّدت الطريق إلى تسوية مصرية - إسرائيلية منفردة. وأعاد الشقاق بين القاهرةودمشق أجواء التوتر إلى لبنان منذ حادثة ثكنة الفياضية (7 شباط 1978)، وانقلبت التحالفات اللبنانية مع دمشق عما كانت عليه في 1976، وكذلك اقترب ياسر عرفات من السوريين. في ظل تلك الأجواء جاء الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان (14 آذار 1978). وعملياً كان «السلام» المصري – الإسرائيلي في اتفاقيات كامب دافيد (17 أيلول 1978) ثم عبر المعاهدة الثنائية (26 آذار 1979) متزامناً مع ازدياد الاشتعال في بلاد الأرز، وكان اجتياح لبنان الثاني آتياً بعد أربعين يوماً من اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في 25 نيسان 1982. هنا، أتى (مشروع ريغان) في اليوم التالي لخروج ياسر عرفات من بيروت في 31 آب (أغسطس) 1982. كان رفض السوريين مشروع الرئيس الأميركي، ثم (اللعم) التي قالها عرفات، مع رفض تل أبيب المشروع، مؤدياً إلى موت ما أطلقه رونالد ريغان من مبادرة مستندة إلى القرار 242 لأزمة الشرق الأوسط. بعد حوالى العقد من الزمن، أتت مبادرة أميركية جديدة ثانية في أعقاب حرب أخرى في الشرق الأوسط، حين قادت إدارة بوش الأب المسار باتجاه مؤتمر مدريد بعد أشهر قليلة من حرب 1991. في هذا الإطار، يلاحظ أن ذلك الاتجاه الأميركي، الذي كان التوجه الأكثر اكتمالاً في التصورات عند واشنطن لتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، قد أتى ليس فقط إثر تلك الحرب التي جعلت واشنطن «قوة إقليمية حاضرة في الشرق الأوسط» وإنما أساساً إثر تحوُل واشنطن إلى وضعية (القطب الواحد للعالم) عقب هزيمة موسكو في (الحرب الباردة: 1947-1989). لم ينجح «مسار مدريد» في إنجاز التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي، وكانت وفاة هذا المسار في مؤتمر كامب دافيد الثلاثي بين كلينتون وباراك وعرفات (11-25 تموز 2000). وكُرّست تلك الوفاة باندلاع (انتفاضة الأقصى) في 28 أيلول 2000 ثم بانتخاب شارون رئيساً للوزراء في إسرائيل في 6 شباط 2001، ثم ليأتي ضرب برجي نيويورك في11 أيلول 2001 فاتحاً صفحة أميركية جديدة أدت إلى سياسة «إعادة صوغ المنطقة» عبر البوابة العراقية مع غزو 2003، وهو ما جعل كل ما طرحته واشنطن حول تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، بدءاً من «خريطة الطريق» عام 2003 إلى مؤتمر أنابوليس في 2007، يأتي على إيقاع ما يجرى في بلاد الرافدين، ثم بعد تنامي القوة الإقليمية لطهران، في المنطقة الممتدة بين كابول والساحل الشرقي للبحر المتوسط، يجيء في شكل مرتبط عضوياً مع الموضوع الإيراني. في بداية 2010 قال الجنرال ديفيد بترايوس، قائد المنطقة المركزية في الجيش الأميركي التي تشمل منطقة الشرق الأوسط بأكملها (ثم لاحقاً قائد القوات الأميركية في أفغانستان) أمام لجنة استماع في الكونغرس، العبارة التالية: «إن التوتر الإسرائيلي - الفلسطيني يمثل تحدياً واضحاً لقدرتنا على دفع مصالحنا في المنطقة... (وأن هذا) النزاع يزيد من المشاعر المعادية للولايات المتحدة بسبب فكرة محاباة الولاياتالمتحدة لإسرائيل»: بالتأكيد، أن الجنرال الأميركي لا يفكر في رام الله وتل أبيب منفردين بل بالترابط مع بغداد وطهران وكابول وربما صعدة وحتى إسلام آباد أيضاً. هل يمكن عزل الضغط الأميركي الشديد على الفلسطينيين والإسرائيليين عن كل ذلك؟ ثم إذا كانت مفاوضات 1974-1979 بفعل حرب 1973، و«مدريد» على إيقاع حرب 1991، فهل ستكون مفاوضات 2010، المتعثرة حتى الآن، في وضعية معاكسة تجاه حرب لاحقة؟. * كاتب سوري