"لم استطع تحمل الوضع اكثر من سنة، خصوصاً مع الاطفال الذين يأتي احدهم وبيده ورقة مالية من فئة خمسمئة ليرة سورية، ليشتري قطعة شوكولا ثمنها 100 ليرة، تاركاً بقية المبلغ غير آبه به". ما سبق كلام لبيبرت ابراهيم سنة ثالثة ر. ف.، الذي يعمل كشباب كثر غيره الى جانب دراسته ليؤمن مصروفه، وأحد الاعمال التي مارسها بائع في "كشك" بدوام ليلي، في منطقة من أفخم مناطق دمشق، وهي واحدة من سلسلة اعمال كثيرة مارسها: دهان - بلاط - معلم جبصين - سائق آلية تزفيت فرّاشة - مندوب مبيعات - تصوير مستندات - خدمات طالبية هندسية - وأخيراً طوَّر عمله باستئجار محل لصيانة الكومبيوتر وبيع الCD وهي الموضة الرائجة الآن. الا ان جميع هذه الاعمال لا تؤمن سوى "المصروف الخاص على رغم محاولات التقنين"، ولهذه الاعمال ضريبة، اذ اخذت كثيراً من سنوات بيبرت الذي ما زال بعد اكثر من 7 سنوات في السنة الثالثة جامعياً، وذلك لأنه يعمل صيفاً شتاء في اعمال أتقنها جميعاً على رغم محدودية ريعها، وعدا عمله كبائع والذي امّن له دخلاً شهرياً يتجاوز عشرين ألف ليرة سورية شهرياً، وهو اربعة اضعاف راتب المهندس في الوظائف الحكومية. وعلى رغم ذلك كان "عملاً سيئاً لأنه يجعلك في تماس مع اناس فارغين من عالم آخر، عالم وردي ليس كعالمنا، لا يتعب افراده للحصول على لقمة العيش". تجربة التماس مع العالم الوردي قد تكون رفاهية مقارنة بأعمال اخرى مثل لحام الحديد وما يسببه من اصابات عاناها محمود الحسن سنة ثانية اقتصاد جامعة حلب اذ اضطر للعمل بالحدادة اثناء العطلات الصيفية منذ المرحلة الثانوية لأنه كان "مضطراً"، علماً انها كما يقول: "أخطر مرحلة دراسية"، فلم يحاول تعلم المهنة من خاله لأنه وضع نصب عينيه ان يدرس بجد ليعمل في مهنة افضل فالحياة كما يرى "صعبة وقاسية"، والرواتب التي يتقاضاها "زهيدة جداً نسبة للجهد المبذول"، ناهيك عن اصابته في يده بالمطرقة اثناء طرق الحديد، والتهاب عيونه نتيجة النظر الى الضوء القوي الصادر من "الملحمة" ما اضطره الى فترة علاج طويلة، وفترة اطول ليعتاد على اللحام، كما ان كثرة الدق على الحديد جعلته يشعر "ان اذنيه ورأسه ستنفجر، يضاف الى كل ذلك قسوة خاله عليه بحجة تعليمه المهنة، وشتمه له، وان بعبارات بسيطة، كل ذلك دفعه ان يدعو الله من كل قلبه ليبدأ العام الدراسي سريعاً حتى يرتاح نفسياً. العمل أثّر سلباً على شخصيتي حسام الفرا حنتور معهد زراعي من محافظة إدلب، يقول: "أثر العمل على نفسيتي سلباً، لأنني شعرت بالاضطهاد من معلمي المصلحة، اضافة الى الشتائم التي كنت اتلقاها وأنا صغير، كما انني لم اعاشر العمال لجهلهم، ما منعني من اقامة حوارات معهم، اضافة الى الصعوبات الجسدية، فالعمل في دق البلاط مجهد جداً، اذ كنت استيقظ في الخامسة صباحاً ولا ارجع الى البيت الا بعد الثالثة ظهراً، وأنا منهك القوى، وما جعلني اصبر وأستمر هو تعلقي بالأمل، واقتناعي ان ما انا فيه مرحلة موقتة". المرحلة الموقتة رافقت حسام من المرحلة الابتدائية حتى تخرجه في الجامعة، وعمل خلالها بمهن كثيرة بخاخ سيارات - نجار عربي - دقاق بلاط - صبي مطعم - بائع جوال في سوق الهال/ سوق الخضار، وجرب حسام العمل في لبنان لفترة شهر، عمل بعدها بتجارة بسيطة بين بيروت وحماه. وعلى رغم كل هذا الجهد، لم يكن ما يدخره يكفيه الا لبعض الحاجات البسيطة، وما يلبث ان ينفد بعد اول شهر من الدراسة. على رغم ذلك يقول حسام: "كنت اشعر احياناً انني لا استحق اكثر من الاجر الذي اتقاضاه، الا ان هناك بعض المهن الشاقة كنت استحق فيها اجراً اكبر". اضطررت للعمل كوني يتيماً رامز الشيخ خالد سنة رابعة حقوق جامعة حلب اضطر للعمل منذ كان في السابع الاعدادي، لأن "والدي متوفى، وأمي هي معيلة الاسرة، لذا كنت مضطراً الى العمل في مهنة قاسية عمارة الحجر، حيث طلبت امي من خالي تعليمي المصلحة، لقناعتها بأن "الدراسة ما بتجيب همها"، لكن في بداية العمل كان اجري لا يكفي للمواصلات، وعلى رغم انني كنت قانعاً، الا انني كثيراً ما شعرت ان معلمي ينصب عليَّ، عدا عن معاملته القاسية بحجة انه يريدني ان اتعلم وأصبح رجلاً، فعانيت كثيراً من لسانه السليط وشتائمه التي لم تتوقف الا بعد ان دخلت الجامعة، فأصبح يعاملني كأخيه، وأنا الآن اعيل نفسي وأسهم في مصروف العائلة، خصوصاً انني اكبر اخوتي الشباب". معاناة رامز دفعته لاتقان مهنته الصعبة قبل ان يدخل الجامعة، لأنه كان يخشى ان لا يحرز مجموعاً يمكنه دخول الجامعة التي تعتبر بوابة الى حياة اكثر راحة من تلك التي عايشها يومياً من السابعة صباحاً الى السابعة مساء صيفاً، واضطراره الى العمل بعد المدرسة شتاء، والحوادث والاصابات المرافقة للعمل، والتي يذكر احدها "وقعت مرة من السقالة من الطابق الاول، لكن لحسن الحظ لم أتأذى لوجود رمل يغطي الأرض". المصاعب التي لاقاها رامز لا تقتصر على ما ذكرناه، ولكن تتعداها الى امراض تظهر نتائجها لاحقاً مع التقدم في السن، اذ راجع رامز طبيباً بسبب اوجاع في ظهره، فنصحه الطبيب ترك عمله، لكن "ليس باليد حيلة". من الناحية النفسية كان للشتائم التي يتعرض لها تأثير سلبي عليه، اضافة الى معاملة رفاق المهنة الذين يفصله عنهم فارق كبير في المستوى العلمي والثقافي ما جعله يشعر بالاغتراب "وكأنني في وادٍ والآخرون في واد". هذه الحياة الصعبة كانت ايامها تنقضي على أمل انها "مرحلة موقتة وستمر ان شاء الله"، وجعلته يقتنع ان "الحياة قاسية، ولا مكان فيها لمن لا يعمل، والذي معه قرش يساوي قرش". المصاعب ترافق رامز أينما حل، فعلى رغم توجهه الى لبنان - الجنة الموعودة للعمال السوريين - أكثر من مرة، لم يوفق في ايجاد عمل. هذه الصورة القاتمة عن رامز والعمل، يقابلها صورة مشرقة من الناحية الاجتماعية "عاملني الناس معاملة ممتازة منذ صغري لأنني يتيم، وبعد ان دخلت الجامعة زاد احترامهم لي، لأنهم اعتبروني من الناس المناضلين، كوني عملت حتى نلت ما اريده، ولأنني لم اطلب مساعدة من احد، لذا سعى كثيرون لاقامة صداقات معي". ضريبة الصمت مصطفى عروب طبيب أسنان تخرج عام 1999 في جامعة البعث، عمل دهاناً من المرحلة الابتدائية وحتى السنة الخامسة من دراسته الجامعية، وأصبح معلماً في مهنته يقول: "لم اتوقع ان اصبح طبيب اسنان، فعملت على مبدأ "صنعة باليد أمان من الفقر"، وبما انني كنت يتيماً حرص اقربائي الذين عملت معهم على اعطائي ما استحق، وعاملوني بنوع من الشفقة، الا انني ما لبثت ان اتقنت المهنة، وفرضت احترامي على الجميع". مهنة الدهان التي مارسها مصطفى لا ترافقها متاعب جسدية، عدا بعض الحوادث البسيطة "تعرضت كثيراً الى الوقوع من السلم، وكنت اخاف دهان الاماكن الخطرة كالشرفة، كما ان رائحة الدهان اضرت بي". ضريبة الصمت هي ما اضطر مصطفى - كرفاقه - الى دفعه، نظراً الى الفارق الثقافي مع "رفاق الورشة" لذا كان يشعر بالوحدة "في البداية كنت اظن ان العمل بالدهان سيرافقني طوال حياتي، وكنت اشعر بالضيق لأنني طبيب وأعمل دهاناً"، لكن ما يعوض ذلك نظرة الناس له "اثناء الدراسة وقبل التخرج، كان الجميع يناديني يا دكتور، وفي بعض الاحيان كان اصحاب المنزل يناقشوني بالألوان المناسبة، ويأخذون رأيي لأنني جامعي". بالمحصلة ينظر مصطفى الى الايام الماضية على انها "احتوت صعوبات جمة، لكن الواقع يفرض عليك اشياء لا ترغب بها، فكنت اعمل على اساس ان ما انا فيه مرحلة من العمر وستمضي، والآن عندما انظر الى الوراء، اجد نفسي نسيت كل المضايقات التي تعرضت لها، وكأنها ذهبت مع الايام، اما الاثر الوحيد المتبقي حدث نتيجة ان العمل كان يأخذ كل وقتي فلا اعود الى البيت الا في وقت متأخر وأنا متعب، ما اثر على علاقاتي العائلية وعلى صداقاتي".