بالنسبة الى مؤلف مسرحية "الآنسة جوليا"، وكما قال هو نفسه مرات عدة، بعد انتشارها وتمثيلها، كانت غايته من كتابتها أن يقدم برهاناً فنياً على صحة نظرية داروين التي كان بدأ يؤمن بها، والقائلة إن البقاء للأقوى. إذاً، للبرهان على صحة هذه النظرية، انطلق المؤلف من حادث كان يمكن ان يحصل في أية لحظة وفي أي مكان، ليحوله الى مسرحية مملوءة بالعنف واللؤم، من النوع الذي نلتقيه في حياتنا اليومية. وبالنسبة الى المؤلف أتت هذه المسرحية لتظهر الصراع بين الاندفاعات الأكثر بدائية، حيث يقر المؤلف بأنه أعطى شخصيتي العمل تلك الاندفاعات تاركاً اياها تودي بهما الى اقصى درجات التناقض واللاتفاهم بينهما. ومع هذا، ينطلق كل شيء في هذه المسرحية من حكاية غرام. من ناحية مبدئية، نعرف أن العلاقة التي تقوم بين السيد والعبد، هي واحدة من العلاقات التي كثيراً ما اجتذبت الكتاب والمبدعين في شكل عام، ولا سيما الكتاب المسرحيين، ذلك ان تناقض المستوى الاجتماعي وبالتالي الفكري والغريزي بين خصمين متجابهين من هذا النوع، يعطي المجال لابدال حال السيطرة بين طرف وآخر، ما يقلب المعادلة ويخلق حالات صراع ودراما عنيفة اهميتها في قدرتها على كشف المخبوء من السمات العميقة للكائن البشري. ولئن كان من الصعب وغير الممكن هنا ايراد لائحة بأعمال كان ذلك هو جوهرها، قد يكفي ان نذكر بعملين اساسيين من أعمال القرن العشرين في هذا المجال: "الخادم" لهارولد بنتر السيناريو الذي حوله جوزف لوزي فيلماً كبيراً، وفي مجال لا يفضح طابع الصراع فيه بين المهيمن - بكسر الميم - والمهيمن عليه، إلا ضمنياً: مسرحية "عربة اسمها اللذة" للكاتب الاميركي تينيسي ويليامز. ولم تكن مصادفة أن يعلن بنتر وويليامز دائماً انتماءهما، الى عالم أوغست سترندبرغ - مؤلف "الآنسة جوليا" - القاسي والمفرط في تشاؤمه. ومسرحية "الآنسة جوليا" التي كتبها سترندبرغ في العام 1888، وتعتبر من أشهر أعماله، الى جانب مسرحيته العنيفة الأخرى "رقصة الموت" ومن أكثر اعمال القرن التاسع عشر المسرحية تأثيراً في كتاب القرن العشرين. وهذا ما جعلها تعتبر رائدة في الحداثة المسرحية، الى جانب أعمال ابسن وتشيكوف، علماً أن هذه الأعمال جميعاً، تنتمي الى تيار واحد كان أصحابه بدأوا ينظرون الى الانسان نظرة أقل تفاؤلاً، ولا سيما تحت تأثير ارهاصات التحليل النفسي. تدور أحداث "الآنسة جوليا" في زمن معاصر، وهي - على عكس بقية أعمال سترندبرغ - تتألف من فصل واحد فقط، ينقسم الى قسمين: أولهما الذي يشكل نوعاً من المقدمة، والثاني - وهو أطول كثيراً - يشكل المتن والأساس. ولئن كان في المسرحية حضور ما لشخصيات أخرى، فإن الأساس فيها يتمحور حول شخصيتين: الآنسة جوليا، ابنة الكونت صاحب القصر الذي تدور فيه الأحداث، والوصيف جان، خادم الأب. وهناك كريستين الطباخة، خطيبة جان، لكن حضورها لا يهم كثيراً. أما الأحداث فتجري خلال مدة قصيرة جداً من الزمن: خلال احتفال بعيد ديني قروي هو من أعياد منتصف فصل الصيف. في ذلك الوقت يكون الكونت متغيباً في بعض أموره. ويكون أهل المنطقة غارقين في الاحتفال والرقص والشرب والعربدة. وإذ تعيش الآنسة جوليا ذلك كله بجوارحها، تجد نفسها مواجهة للوصيف جان، فيستبد بها شوق الى الحب تخاله عابراً، فتغويه فيما تكون خطيبته نائمة. أو لعله هو الذي يغويها، وهي يخيل اليها انها هي من يفعل ذلك. المهم في الأمر ان استسلامها اليه يختم القسم الأول من المسرحية. وهذا يقودنا الى القسم الثاني الذي يليه، زمنياً، في صورة مباشرة: هنا يكشف جان عن طبيعته الخسيسة. فهو إذ أقام تلك العلاقة مع جوليا، لا بد له الآن من أن يستغل ذلك ويستفيد منه. صحيح ان جوليا تدرك خسّته، لكنها ازاء ضياعها واحساسها بفداحة ما فعلت تتركه يقنعها بسرقة والدها والذهاب معه بعيداً، إذ أصبحت عشيقته وبات مسيطراً عليها تماماً. وهكذا تجاريه في سعيه لتحقيق حلم قديم له: أن يصبح صاحب نزل كبير. وتتأرجح جوليا بين احتقاره وشعورها بالذنب والضعة، لكنها لم تعد قادرة على اتخاذ اي قرار. ثم يحدث، بعد أن يبدآ في تنفيذ قرارهما الرحيل عن المكان، أن تصر جوليا على أن تصطحب معها عصفوراً يخصها وهي مرتبطة به، فإذا بجان، ومن دون تردد أو شفقة يقتل العصفور متخلصاً منه. وهذه الفعلة تفجر ما يعتمل داخل جوليا من مشاعر متناقضة، فتخرج عن طورها وتهدد عشيقها وتتحداه طالبة منه أن يقتلها ليخلصها مما هي فيه. في تلك اللحظة بالذات ترتفع الأصوات معلنة عودة الكونت الى القصر... فلا يكون من الوصيف جان إلا أن يغير سلوكه بسرعة، إذ يستعيد مكانته كخادم ويواصل عمله كأن شيئاً لم يكن: لقد سيطر على الوضع تماماً، ولكن فقط عبر تركه جوليا مسلوبة الارادة غير قادرة على اتخاذ أي قرار، وغير قادرة أيضاً على تصور كيف ستكون عليه حال مستقبلها... وهنا، كالمنومة مغناطيسياً نراها تنصاع لما يمليه عليها جان بلا مبالاة تامة. فتلتقط موس حلاقة وتخرج به من المكان، ما يوحي بأنها سوف تنتحر، بينما نرى جان يبدأ بممارسة مهنته من جديد... من الواضح ان الشخصية المحورية هنا هي جوليا. فهي من نوع أولئك الأبطال السلبيين، الذين يتركون ظروفهم تتحكم بهم كلياً، ولا يفهمون أبداً ما الذي يحدث لهم، ولا يثقون بأن في امكانهم، بعد، أن يتصرفوا بما يشي بوجود ارادة لديهم. انها في هذا تعلن، مسبقاً، عن ميلاد "غريب" ألبير كامو، ذلك "البطل" المعاصر، الكائن الذي يوصله عدم قدرته على اتخاذ القرار الى ان يتحول كاتباً بيولوجياً صرفاً. وفي هذا الاطار نجد كم ان جوليا انكشفت كائنة بيولوجية تقع تحت سيطرة كائن بيولوجي آخر... وفي صراع كهذا يكون البقاء للأقوى. عبر هذه العلاقة وما تنتهي اليه، يرسم سترندبرغ، ملامح نزعته الطبيعية، في تصويره لعبة الحب والكراهية، وكيف تنمو من بداية تتمحور حول الانجذاب وصولاً الى الخيبة. لأن ليس ثمة تكافؤ بين أي كائنين، في نظر سترندبرغ: يجب أن يسيطر واحد. ومن يسيطر هو الذي يبقى وينتصر. ولكن يبقى هنا سؤال أساس: نحن لا نعرف أبداً ما الذي سيحدث لجوليا: هل ستنتحر؟ لو فعلت، ستكون أبدت من الارادة ما لم يسبق لها أن أبدته، وتكون خرجت عن حال اللاقرار، ومثل ذلك أيضاً لو أنها قررت ألا تفعل. ويقيناً أن قوة مسرحية سترندبرغ وايمانه بنظريته، يكمنان في تلك النهاية المعلقة. يعتبر أوغست سترندبرغ، من كبار الكتاب المؤسسين للحداثة المسرحية. وفي مجال رسمه العلاقات والنوازع البشرية، يعتبر من أبناء القرن العشرين، على رغم انه كتب القسم الأعظم من مسرحياته خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وهو ولد العام 1849 في بلدة لا تبعد كثيراً من استوكهولم عاصمة السويد، لأب يعمل في وكالات النقل البحري وأم من اصول بروليتارية. وأعلن اوغست دائماً انتماءه، اجتماعياً، الى أمه وطبقتها... ولا سيما في سيرته الذاتية التي عنونها "ابن الخادمة" 1886. وهو منذ فتوته رغب في أن يصبح ممثلاً، ومثّل بالفعل الكثير من الأدوار قبل أن يتحول الى الكتابة، المسرحية خاصة. وهو بدأ نشر مسرحياته في العام 1870، متأثراً في كتابتها بفلاسفة زمنه وبالفكر الحر اول مسرحية له كان عنوانها "صاحب الفكر الحر" على رغم ايمانه الديني الخاص. و كتب سترندبرغ اكثر من ستين مسرحية، منها ما هو اجتماعي معاصر، وما هو تاريخي، وغرائبي وديني. ومن أشهر أعماله، الى جانب "الآنسة جوليا": "الأب" و"رقصة الموت" في جزءيها و"سوناتا الشبح" و"الملكة كريستينا" و"الطريق الى دمشق" في أجزائها الثلاثة. ومات سترندبرغ في العام 1912 في استوكهولم. ابراهيم العريس