ترى مَنْ مِن البشر، والمثقفين خصوصاً، لم يحلم بأن ينتفض يوماً في وجه رؤسائه أو أصدقائه، أو في وجه عدد كبير من الناس ليقول لهم رأيه فيهم، بكل صراحة ومن دون خوف على عمل، أو قلق من رد فعل؟ لقد كتبت روايات وحققت أفلام حول هذا الموضوع أو ما يدنو منه، لكن الواقع ظل بعيداً جداً من هذا، إذ نادراً ما نسمع حكاية من هذا النوع، لكن في تاريخ الأدب السويدي كتاباً ربما يكون منسياً بعض الشيء اليوم، خطّه قلم شاب في الثلاثين من عمره، سيحقق لاحقاً في حياته شهرة كبيرة ويصبح الأب الشرعي للمسرح السيكولوجي الحديث، ليس في السويد - وطنه - وحده، بل في أوروبا والعالم كله. انه أوغست سترندبرغ، صاحب المسرحيات الكبيرة التي أثّرت في ابسن وتشيكوف ثم على سينمائيين كبار من أمثال انغمار برغمان ووودي آلن. أما الكتاب فعنوانه «الكراس الأحمر»... وهو ليس مسرحية، مع أن معظم كتابات سترندبرغ كانت مسرحيات. وليس رواية. بل هو كتاب أدبي شاء المؤلف الشاب - في ذلك الحين - أن يقدم فيه صوراً أدبية لعدد كبير من أعلام الفكر والصحافة والمجتمع في مدينة استوكهولم. فأتت الصور قاسية ساخرة، لتثير زوبعة في وجه الكاتب، لم تهدأ إلا لاحقاً حين بدأت مسرحياته تُمثل وصار، بدوره، علماً من أعلام الكتابة في بلده. وعلى رغم مسرحياته وشهرته ظل سترندبرغ يقول دائماً إنه انما يدين الى ذلك «الكراس الأحمر» بالاعتراف العام الذي قد صار من نصيبه. اذاً، أصدر سترندبرغ ذلك الكتاب وهو في الثلاثين، وهو كان قبل ذلك، ومنذ تجاوز سنوات مراهقته وقرر أن يمتهن الكتابة، كان خاض كل أنواع الكتابة، من صحافة وقصة ومسرحية ونقد، ولكن دائماً من دون طائل... والأهم من هذا - طبعاً - هو أن تلك التجارب التي خاضها وضعته على تماس تام، مع الكثير من شخصيات تلك البيئة وذلك الزمن... وهو اذ اكتشف أن أياً منهم ليس على استعداد لدعم أي موهبة أدبية شابة تحاول أن تستعين به، كشف عورات أولئك الناس... فاستخدم قلمه اللاذع لشن حرب ضدهم. وكان «الكراس الأحمر» هو «مدفعيته» الثقيلة في المعركة. ولقد زاد من فاعلية كتابه أن كل الذين كتب عنهم فيه وصوّرهم، انما كانوا ملء الأسماع والأبصار، وكان ذكر اسم أي واحد منهم على غلاف الكتاب كافياً لانتشار الكتاب. وهكذا بضربة معلم، تمكن أوغست سترندبرغ من أن يضع اسمه مع الكبار، بل في موقع الساخر من الكبار. في «الكراس الأحمر» اذاً، صفحات وصفحات تصور الرسامين والكتّاب والمسرحيين وحتى العلماء كاشفاً أسرار شخصياتهم، متوقفاً عند نقاط ضعفهم... حتى من دون أن يلجأ الى أي أكاذيب وافتراءات، ما أنقذه من أن يصل الى القضاء. كل ما في الأمر هنا هو أنه جمع الحقائق المعروفة ليلقي الضوء الساخر عليها وعلى خلفياتها، من دون أن يأبه بمكانة أي من الذين كتب عنهم... ومن هنا انفجر الكتاب كالقنبلة، وصار الكاتب أشهر شخصية أدبية في ستوكهولم بين ليلة وضحاها... وكان ذلك بعد أسابيع من التقديم الفاشل لواحدة من أولى مسرحياته «المعلم أولوف» التي - مع هذا - ستظل واحدة من مسرحياته الأكثر فشلاً، حتى وإن كان النقاد والباحثون سينظرون اليها لاحقاً على أنها الأكثر قوة في أعماله. في الوقت الذي كان سترندبرغ منهمكاً في كتابة «الكراس الأحمر» كان يعيش موزعاً بين رغبته في أن تعترف الأوساط الأدبية به - وهو اعتراف كان يرى أنه تأخر كثيراً! - وبين شعوره بأن اهتمامه الأول في حياته يجب أن يكون اهتماماً فنياً وذا مستوى. ومن هنا، حين صاغ صفحات وفصول ذلك الكتاب، حرص على أن يجعل من موضوعه وسيلة لفرض مكانة لنفسه في ستوكهولم الثقافية، ومن أسلوبه دليلاً على تميزه في البعد الفني لعمله. وإذا كان قد حرص على شيء منذ البداية، فإنه حرص على أن يبتعد من أي نفحة عاطفية أو «ذاتية المنحى» في ما يكتب... وهو نجح في هذا أيضاً، حتى وإن كان الكتاب كله ذاتياً في نهاية الأمر. ولعله يكفينا هنا أن نقف عند بعض تعبيراته كي ندرك درجة السخرية المرة التي تملأ هذا الكتاب. فمثلاً حين يتحدث سترندبرغ عن الصحافة، يقول إنها لا تفتأ «تحطم القلوب مثلما يحطم المرء البيض»! وهو يتحدث عن المسرح بصفته قناعاً يخفي خلف أبهة الملابس والديكورات بؤس الممثلين وجوعهم. وإذ يذكر الأحزاب السياسية في طريقه يقول إن «الأحزاب، من أجل الائتلاف في ما بينها، تتنازل وتتنازل حتى تندمج جميعاً، في نهاية الأمر، في لون رمادي لا طعم له ولا لون». أما حين يصل الى الحديث عن الرسم بصفته الأول بين الفنون الجميلة، فإنه يبرهن كيف أن رسامي زمنه يزعمون، بادعاءاتهم الضحلة، انهم يقفون فوق السلة التي يتجابه في داخلها، و «في شكل ودي للغاية» اكاديميون ومضادون للأكاديمية قطعت رؤوسهم جميعاً من قبل. على رغم أن سترندبرغ لم يكتب «الكراس الأحمر» كمسرحية في البداية، فإنه مع ذلك حرص على أن يعطي النص عنواناً ثانوياً هو «مشاهد من حياة الأدباء والفنانين»... ومن هنا ما نلاحظه من أن هذا العمل قد قدم لاحقاً، على شكل مشاهد مسرحية... ولقد ساعد على هذا ان الكاتب، اصلاً حين كتب العمل، ملأه بالحوارات، حيث إن معظم النصوص والانتقادات جاءت في حواريات تخيّل وجودها بين أصحاب العلاقة أنفسهم... حوارات إذا كان في الإمكان تشبيهها بشيء فإنما بالحوارات التي تملأ مسرحيات أوسكار وايلد ويسودها تصوير مدهش للجهل وللنفاق الاجتماعي وللتكاذب المشترك بين البشر... ذلك النوع من البشر. انها، هنا لدى سترندبرغ، حوارات حادة قاطعة، تصوّر على الفور، ومن دون الحاجة للعودة الى قراءة ثانية، نساء متحذلقات، صحافيين لا وازع ولا ضمير لديهم، بوهيميين كاذبين، يجعلون لأنفسهم صورة خارجية فوضوية لكنهم يعيشون حياة مترفة. ولا ينسى الكاتب في طريقه أن يتحدث عن قساوسة جشعين ليس الدين بالنسبة اليهم سوى طريق الى المكسب والجاه... أما الناشرون فحدّث عنهم ولا حرج، انهم مجرد تجار، في رأي الكاتب، لا يقرأون حتى الكتب التي ينشرونها وتدر عليهم أموالاً طائلة. الكل تحت قلم سترندبرغ كاذب مدّعٍ... ولأنهم كذلك لا يريد الكاتب أن يرحمهم. انه هنا أشبه بالمغني - الشاعر جاك بريل وقد آلى على نفسه أن يقول الحقيقة في وجه من تعنيهم، مع فارق أساس يكمن في أن بريل، كثيراً ما جعل نفسه بين الذين يوجه اليهم الانتقادات، بينما نلاحظ كيف ان سترندبرغ ميّز نفسه بتغييبها عن ذلك الحفل الكتابي الفاضح. مهما يكن، حجة الكاتب في ذلك هي أنه، حين صاغ ذلك النصّ الفريد، في زمنه، كان لا يزال نكرة... مجرد موظف بسيط في المكتبة الوطنية يحاول جاهداً أن يشق لنفسه طريقاً. صدر «الكراس الأحمر» في عام 1879، ومنذ صباح اليوم التالي صار أوغست سترندبرغ (1849 - 1912) واحداً من أشهر الكتّاب في ستوكهولم. طبعاً أحس يومها بأن شهرته لم تأته من الطريق التي كان يفضل: أي من طريق مسرحياته، لذلك نراه من فوره ينصرف، اذ أحس انه صار مقبولاً، الى كتابة وإصدار مسرحياته الكبرى واحدة بعد الأخرى، من «سوناتا الأشباح» الى «الطريق الى دمشق» و «الأب» و «الآنسة جوليا»، وغيرها من أعمال كبيرة كان أهم ما فيها انها مكّنت أوغست سترندبرغ من فرض حضوره كاتباً مسرحياً كبيراً، ودفع الكثر الى الكف عن الحديث عن «الكراس الأحمر» ان لم يكن الى نسيانه تماماً. [email protected]