بعد ضربة 11 أيلول سبتمبر صدر الكثير من الكتب الأجنبية والعربية تتناول القضايا الساخنة في "قوس الأزمات" الممتد من أفغانستان الى فلسطين. وركزت تلك الكتابات اهتمامها على مسائل الإسلام وآسيا الوسطى ومستقبل المجموعات الإسلامية في الهند والفيليبين واعادة صوغ المنظومات الدفاعية في غرب آسيا وصولاً الى بحر قزوين. الا ان الكتابات الأبرز كانت تلك التي اهتمت بشؤون الارهاب وتفرعاته والوجود الأميركي العسكري على طول "طريق الحرير" اضافة الى خصوصية التحالف الأميركي - الإسرائيلي في دائرة الشرق الأوسط واحتمال تكييف المنطقة العربية في سياق مشروع متكامل ومترابط الحلقات يمتد من كابول الى القدس. وضمن هذا المناخ الساخن صدر عن دور النشر العربية الكثير من الكتب التي تناولت اهم النقاط الساخنة وهي فلسطين وتداعيات القضية ماضياً وحاضراً، وأفغانستان ومستقبلها في ضوء تعقيدات تركيبها الاجتماعي - القبلي. وهنا قراءة في كتابين تحدث الأول عن فلسطين في سياق تشكل ما عرف تاريخياً بالمسألة اليهودية في أوروبا. وتناول الثاني أفغانستان مستعرضاً تاريخها وجغرافيتها ومدنها وتكوينها القبلي والسياسي. الكاتب: عفيف فراج. الكتاب: اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية. اصدار: دار الآداب، بيروت، 2001. في كتابه "اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية" يستخدم عفيف فراج مقولة الفيلسوف الالماني فريدريك هيغل عن "مكر العقل" او "العقل الماكر" لتفسير الانقلاب الثقافي - السياسي الذي قامت به الحركة الصهيونية ضد ألف سنة من العلاقات التي اتصفت بالتسامح الاسلامي مع اليهود في المنطقة العربية. فالعقل يحتال على التاريخ لتبرير سياسة ظرفية محكومة بعوامل موضوعية وذاتية. الى "مكر العقل" استخدم المنهج التاريخي قارئاً التحولات الاجتماعية ونزعاتها الثقافية والسياسية من ضمن الحاجات والوظائف التي تمليها عوامل محددة تجد تفسيرها في الاقتصاد والطبقات. ففراج حاول في بحثه الثمين والغني بالمعلومات ان يدمج الهيغلية بالماركسية لتفسير تاريخ اليهود الطويل الممتد على مساحات جغرافية وزمنية سبقت ظهور المسيحية والاسلام. ونظراً لصعوبة قراءة الكتاب وتلخيص افكاره من صفحاته الاولى الى الاخيرة، نبدأ بالاخيرة التي تختصر فكرة الانقلاب مكر العقل والوظائف التاريخية الحاجات الاوروبية في فترة التوسع الاستعماري. فالصفحات الاخيرة 187-226 تكثف تلك العملية الانقلابية التي اجتاحت الاقليات اليهودية في اوروبا بعد ظهور الحركة الصهيونية ونمو التيار الرافض للاندماج والمطالب بدولة في "أرض الميعاد". قبل الانقلاب كانت صورة المسلمين في ابحاث يهود القرن التاسع عشر مشرقة وزاهية الى حد تخيل مجتمع طوباوي يمثل النقيض التاريخي لصورة اوروبا الواقعية التي يعيشها اليهودي ويمقتها. يستند فراج في معلوماته على كتاب برنارد لويس "الاسلام في التاريخ" ومقدمة مارتن كرايمر لكتاب "الاكتشاف اليهودي للاسلام". فاليهود في القرن التاسع عشر، وبسبب ظروفهم الصعبة، اخذوا يدرسون الاسلام وتاريخه لتشكيل صورة مناقضة لتلك التي يعيشونها في اوروبا. وامتاز اليهود الناطقون بالالمانية بأنهم ابرز من اظهر الجانب التسامحي - الحضاري في ثقافة الاسلام اذ "اجتهدوا خلال القرن التاسع عشر في تأكيد علاقة قربى ثقافية وحضارية مع المسلمين". فابراهام غايفر 1810-1874 كان اول من خرق تقليد التحامل على الاسلام وقام بالدفاع عنه في بحث نشره في العام 1833. وتبعه المؤرخ غوستاف فايل 1808-1889 حين قام بزيارة الجزائر والقاهرة وحرص على تعريف اوروبا بالعرب والمسلمين، فترجم بعض المخطوطات الادبية. وألف كتاباً في 1837 عن الشعر العربي تبعه بآخر عن النبي في 1843، معتمداً المصادر العربية مراجع لكتاباته. وأهم ما ألفه فايل عن الاسلام موسوعته "تاريخ الخلفاء" بين 1846-1862 في خمسة اجزاء رداً على كتاب وضعه معاصره الالماني فون رانكه عن "تاريخ البابوات". وكان يوسف دهرنبورغ اول من قدم كتاب اسامة بن منقذ للغرب الاوروبي عن حروب الفرنجة وعادات مملكة القدس وتقاليدها. وجاء الباحث غولدزيهر 1850-1921 من المجر ليظهر صورة الاسلام الزاهية في الغرب، فقام بزيارة بيروت ودمشق والقدس والقاهرة وأمضى فيها سنوات طويلة وبنى صداقة متينة مع جمال الدين الافغاني. الى هؤلاء هناك الشاعر هاينه 1823 الذي ابرز في مسرحيته عن "المنصور" تسامي الروح الاسلامية، وكذلك فعل وولف 1888-1953 وليبوبولد فايس 1900-1992. فكل هؤلاء اجمعوا على ابراز النزعة التسامحية في الاسلام مظهرين الوفاء بالجميل لتاريخ دين حافظ على معتقدات الاقليات وحقوقها. وقبل مؤتمر بازل واطلاق الحركة الصهيونية عُقد "المؤتمر الحاخامي الخامس" في بتسبورغ الروسية عام 1885 معترفاً "بالمسيحية والاسلام ديانتين شقيقتين". الا ان الامر تبدل مع تغير احوال المسلمين وتراجعهم امام الزحف الاوروبي. الانقلاب الثقافي - السياسي أطلق المستشرق برنارد لويس على تيار القرن التاسع عشر "يهود الاسلام". فهؤلاء حين اشتدت معاناتهم في الغرب اتجهوا نحو تشكيل صورة مضادة لواقعهم تمثلت اعجاباً بالاسلام وتاريخه وصلت احياناً الى حال من التماهي مع ثقافته وحضارته. فالباحث اليهودي العراقي نسيم رجوان يتحدث عن ثقافة "يهودية - عربية" لتفسير هذه الظاهرة، بينما يرجح لويس ان قناعات غولدزيهر وفايل ويارون تعود الى ايمانهم بوجود علاقات يهودية - اسلامية اقوى من علاقات يهودية - مسيحية. وتكرر المشهد الثقافي - السياسي في كتابات يهود القرن العشرين. فبرزت نصوص ابراهام ليون، وكلود كاهن، ومكسيم رودنسون، وبرنارد لويس التي انتجت قراءات، على تفاوتها، مختلفة لتاريخ العلاقات العربية - اليهودية وتمايزها عن تلك في اوروبا. فالاسلام اعترف بغيره من الديانات وتعامل مع اليهود كأهل كتاب، واعطاهم الحق في الاحتفاظ بتشريعاتهم وتنظيماتهم ضمن نظام مللي - تعددي. وحين سكن اليهود في حارات مستقلة لم تكن تشبه تلك الغيتوات في اوروبا. فالحارات للتمييز والغيتوات للاضطهاد. الا ان حظ تيار ما عرف ب"يهود الاسلام" في القرن التاسع عشر ناله التهميش والاستبعاد، كما يرى فراج، حتى غيّب من الموسوعات اليهودية المعاصرة بينما ورد ذكره في "الموسوعة اليهودية" الصادرة في طبعة 1905. ويشرح فراج السبب في المقطع الآتي: "وهذا يدل على ان الصراع الذي استحدثته الصهيونية اقتضى التأكيد على عناصر الاختلاف والتناقض الثقافي مع العرب والمسلمين، اعداء اليوم، بعد ان كان يهود القرن التاسع عشر يضيئون عناصر الائتلاف والتجانس بين اليهود والمسلمين، اصدقاء وأقرباء الأمس" ص 209. ويلاحق فراج تواصل الانقلاب الثقافي - السياسي ضد العرب والمسلمين. فالدولة الصهيونية "تمارس فعل خيانة للأصول الثقافية الشرقية، في الوقت الذي تستبقي فيه اليهودية معياراً للمواطنية في دولة اسرائىل" ص 216. والقيادة الاسرائىلية "الاوروبوية التمركز" تدفع بغربة اليهود عن الشرق الى ابعادها القصوى "وهي تشيح بصرها اشمئزازاً واحتقاراً عن العالم العربي - الاسلامي الذي اشتمل معظم العناصر الثقافية الشرقية القديمة التي تمثلتها اليهودية" ص 219. ويواصل فراج ملاحقة تدرج الانقلاب وصولاً الى الليكود وشارون وانتفاضة الأقصى، وأخيراً ضربة 11 ايلول سبتمبر في مانهاتن. فالمسلمون مرة اخرى هم الضحية، وهم الملاحقون باسم "الارهاب" في افغانستان. فالمسلمون هنا كما هم في فلسطين ضحية الصراع اليهودي - الاوروبي وهم ايضاً ضحايا مزايدة اليهودي الشرقي على الغربي في اظهار العداء للعرب والعربي. لماذا حصل الانقلاب؟ كيف حصل هذا الانقلاب، وكيف نفسر التاريخ التراجعي - التقهقري في رؤية اليهودي للعربي؟ فيهود القرن التاسع عشر، وفق منهج فراج، افضل من يهود النصف الاول من القرن العشرين، ويهود النصف الاول افضل من يهود النصف الثاني من القرن العشرين، ويهود النصف الثاني افضل من مطلع القرن الحالي. للاجابة عن هذا السؤال وتوضيح الحيرة، لا بد من العودة الى الفصول الستة من الكتاب. ففراج مستخدماً منهجاً مركباً من الهيغلية والماركسية قام بتفسير تاريخ اليهود منذ السبي الى استباحة "ارض الميعاد". يقرأ فراج تاريخ اليهود استناداً على عاملين: ديني ايديولوجي وتاريخي وظيفي. فالثقافة النابذة تأسست من مبدأ فكرة الاله عند اليهود. فالله عندهم خاص ويختلف عن المسيحية والاسلام اذ ان الله هو كوني وللجميع. فالاله اليهودي هو قبلي قام على فكره العهد او العقد الثنائي بين يهوه وشعبه، وكان العهد يتجدد في كل فترة بعقد ثنائي جديد. والمجتمع النابذ اوروبا قام على فكرة رفض الاندماج معيداً تجديد مبدأ النفي والطرد. وأدت جدلية اليهودي المنبوذ والمجتمع النابذ الى تكوين ثقافة تتميز بهوية خاصة نجحت في التكيف مع مختلف الظروف والمستجدات. فالمقدرة على التكيف انقذت الاقليات اليهودية المنتشرة في اوروبا من الانقراض ونجحت في تقوية عناصر الممانعة وتشكيل آليات دفاعية ضد الحصار الاجتماعي. فالغيتو حَصَّن الوعي الجمعي وأسس لليهود وظيفة اقتصادية منعتهم من الانصهار. فماركس قال ان إله اليهود هو المال وان اليهودية سارت مع التاريخ وليس ضده حين تهودت اوروبا وأصبحت رأسمالية تأليه المال. وبدوره انتقد هرتزل يهود عصره القرن التاسع عشر حين تأسف في رسالة كتبها عام 1895 منتقداً مادية اليهودي وعدم مقدرته على فهم "ان الانسان يمكنه ان يعمل بدوافع اخرى غير المال" هامش صفحة 23. واتجه ابراهام ليون الى قراءة "الشتات اليهودي" بتركيب وعي طبقي موحد. فوصف دور اليهودي بالأمة - الطبقة حين يقوم الشعب بوظيفة طبقة اجتماعية. وضعت هذه الخصوصية الثقافية الدينية - التاريخية اليهود في موقع تصادمي مع غيرهم في اوروبا، وأسهمت وظائف المعبد اليهودي المتشابه مع وظائف المعبد السومري في اثارة الكراهية في الطبقات الشعبية فاستغلتها السلطات السياسية والبابوية فأصدرت على مدى القرون الوسطى اقسى التشريعات المعادية لليهود التي توجت في مؤتمر ترنت عام 1563 ص 28. ولعبت القرارات السياسية والبابوية في عزل اليهود في "غيتوات" خاصة ومستقلة الى درجة قال هرتزل عنها: نحن قوم من صنع الغيتو. الا ان هذا "الغيتو" لم يكن ضد التاريخ بل معه. فأوروبا المتحولة تاريخياً فتحت ثغرات في حائط العزلة، ونجح الغيتو كذلك في فتح ثغرات في جدار اوروبا من خلال ما يسميه فراج بجدل "التكيف والتكييف الثقافي والسياسي". بدأت المحاولات الاولى للتكيف في حوارات اليهودية مع الفلسفة اليونانية وقادها فيلون وابن ميمون طبيب صلاح الدين الايوبي. وجرت المحاولات الثانية في الفترة الاولى من صعود الحركة البروتستانتية حين تعاطف اليهود مع اصلاحات مارتن لوثر ثم انقلبوا عليه وانقلب ضدهم في الفترة الثانية. ثم تحالف اليهود مع الكالفينية على رغم عداء مؤسسها كالفن لليهود. ومن الكالفينية انشقت الحركة الانجيلية الطهرانية التي اعادت قراءة العهد الجديد استناداً الى تفسيرات العهد القديم التوراة وشروحاته. فالصهيونية بداية انتشرت وسط شريحة مسيحية انجيلية قبل ان تنتقل الى نخبة يهودية حاربت فكرة الاندماج وقالت بالعودة الى فلسطين ارض الميعاد. وفي السياق السياسي المذكور دخل اليهود في حوار مع فلاسفة عصر الانوار وتتابع الحوار الجدل مع كانط ثم هيغل ونيتشه. وفي كل مرة كان يعاد تفسير تاريخ اليهود في ضوء الفلسفة المعاصرة المزدهرة في وقتهم. وفي كل مرة كان فلاسفة اليهود يبحثون عن التشابه او التماثل بين تاريخ اوروبا وتاريخهم الخاص. واستمر جدل "التكيف والتكييف" الى القرن التاسع عشر حين تنازعت اليهود اكثر من فكرة وانشقت اتجاهاتهم على اكثر من مدرسة. وفي تلك الفترة نهضت في اوساط اليهود تيارات متضاربة تتراوح دعواتها بين الاندماج الكلي في المجتمعات الاوروبية وبين الانسلاخ الكلي والعودة الى "ارض كنعان". وتعززت تلك التيارات بايديولوجيات اوروبية معاصرة. فتيار الاندماج مال نحو الاشتراكية وتيار الانسلاخ مال نحو القومية العرقية والعنصرية وبينهما نهضت تيارات ليبرالية تدعو الى التعايش مع الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية والدينية. ويقرأ فراج افكار تلك التيارات والتمزق الايديولوجي الذي مرت به الجماعات اليهودية الاوروبية ومحاولاتها الدائمة للمصالحة مع العصر والتكيف مع مساراته التاريخية انطلاقاً من الحرص على التميز والاحتفاظ بالخصوصية الثقافية - الدينية بعد ان ألغى التطور الاقتصادي الرأسمالي وظيفة اليهودي المرابي. وأدى هذا القلق التاريخي المتزامن مع مجموعة توترات وحوادث عنيفة ضد اليهود الى تشكيل ايديولوجيات معاصرة، وخصوصية جداً، عند الشريحة العليا من المثقفين اليهود. فالعلمانية القومية في اوروبا تحولت الى علمانية غيبية في الحركة الصهيونية، والغيتو اليهودي في اوروبا تحول الى حلم بانشاء كيبوتز تعاوني في فلسطين عند رواد الاشتراكية الصهيونية حزب البوند. وتأسيس "الانسان الجديد" الذي دعت اليه اوروبا الحديثة المتجهة نحو اميركا تحول الى اعادة انتاج "العبري الجديد" لكسر شخصية اليهودي المكروه في اوروبا. فالشخصية اليهودية في العقل الاوروبي التاريخ ارتبطت بنمط وظيفي المرابي ودور الخائف الجبان الذي يدفع المال لحماية نفسه وأسرته. باختصار، ادت المزاوجة بين القديم والجديد الماضي والحاضر الى تكوين ايديولوجية صهيونية دمجت بين الخاص اليهودي والعام الاوروبي نجحت لاحقاً في تشكيل ثقافة مستقلة في الحركة الاشتراكية الدولية وهوية مميزة في الحركة الصهيونية القومية. وبتحالف التيارين بدأت حركة الاستيطان، التي نقلت اليهودي من موقع الضعيف الجبان الى مقاتل، ومن وظيفة المرابي الطفيلي الى منتج، في تأسيس "دولة اسرائىل" بالتوافق مع مصالح اوروبا واستراتيجيتها. فمؤسس الدولة ديفيد بن غوريون يعتبر الحركة الصهيونية انها "حركة اليهود الغربيين". ويتحدث هرمان هس عن تقاطع الاهداف الصهيونية مع هواجس الغرب الاقتصادية والعنصرية. وأشارت حنة ارنت 1906-1975 الى الوظيفية الاستعمارية للدولة اليهودية. وقال مكسيم رودنسون ان اللجوء الى فلسطين كان هرباً من هتلر ومن عدم سماح الدول الاوروبية اللجوء اليها. والخلاصة ان الفكرة القومية الاوروبية منعت اليهود من الاندماج فكانت فلسطين هي البديل عن الفشل. ودائماً كان الاسلام يدفع الثمن. فالفشل الاوروبي في حل المسألة اليهودية، الى تقاطع المصالح بين الصهيونية والاستعمار، الى التصالح اليهودي مع ايديولوجيات العصر، أدى حاصل مجموعهم الى تأسيس الانقلاب على تاريخ ألف سنة من العلاقات الطيبة بين اليهود والعرب ص 192. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".