تطرقت الحلقة الثانية الى ظاهرة "الغيتو" والعوامل التي أسهمت في قيامها. وكيف أسهم "الغيتو" في تكوين خصوصية ثقافية وتحديد الدور الاقتصادي لليهود في أوروبا. في ضوء الوصف السابق راجع حلقة أمس لمؤثرات "الغيتو" نفهم قول مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة ثيودور هرتزل في كتابه "دولة اليهود" "إننا قوم من صنع الغيتو"، و"داخل الغيتو تطورنا الى شعب بورجوازي". و"الغيتو" في رأي هرتزل "لم يزل باقياً وإن كانت جدرانه تهاوت". ذلك أن اليهود باستثناء الأغنياء منهم والذين عاشوا خارج الغيتو بفضل ثرائهم لا يربطهم إلا القليل من التواصل مع المسيحيين. وتقتصر معرفتهم بهم في بعض الأقطار على قلة من الطفيليين والمستقرضين ومن هم عالة على غيرهم، وهم لا يعرفون شيئاً عن أخيار المسيحيين. وما يقوله هرتزل يضيف الى الأدلة التي تثبت الدور الخطير الذي لعبه "الغيتو" في تكوين الوجدان اليهودي على نحو خصوصي. ويبرر هرتزل تخصص اليهود بالأعمال المالية، ب"ظروف العصور الوسطى التي ساقتنا الى ذلك سوقاً"، "ويجري الآن تكرار هذه العملية ذاتها" يقول هرتزل، "إننا نضطر مرة أخرى الى التوجه نحو حقل المال، وهو اليوم البورصة، لأننا نُستبعد من ميادين النشاط الاقتصادي كلها. وبما أننا في البورصة، فإننا نتعرض من جديد للازدراء". إن هرتزل يقول في هذا النص نصف الحقيقة. فالوجود اليهودي في البورصة كان بالفعل مكثفاً، وجلب الثراء الذي حققه اليهود منها المزيد من العداء والازدراء، "إن معبدهم اليهود هو البورصة"، يجأر رئيس حزب العمال الاشتراكي المسيحي في ألمانيا عام 1878، "إنهم قوة لا دينية، وعن طريق ثرائهم أحالوا برلين الى مدينة يهودية وجعلوا من أنفسهم طبقة أرستقراطية". ويعتبر هذا الخطاب نموذجياً في مراميه التحريضية، وتوسله زعماء الأحزاب القومية المتطرفة في فرنساوألمانيا خصوصاً، وهما البلدان اللذان ظهرت فيهما اللاسامية الجديدة أول ما ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر. لكن قول هرتزل أن اليهود "يساقون سوقاً من جديد الى البورصة"، من دون غيرها من حقول النشاط الانتاجي، فيه الكثير من الادعاء. فلم يكن هناك في القرن التاسع عشر أسباب تمنع اليهود من الخروج على خصوصيتهم الوظيفية المالية والتحول الى فلاحين مثلاً، خصوصاً أن امتلاك الأرض وزراعتها كانا أفضل السبل لاندماج اليهودي في المجتمع الأوروبي، واكتسابه شعور الانتماء والولاء للوطن الذي يعيش على أرضه. لكن وظيفة المزارع لا تليق باليهودي الذكي كما يقول هرتزل نفسه معلناً رفضه محاولات "تحويل اليهود الى فلاحين في أوطانهم الحالية"، وناقضاً بذلك زعمه أن اليهود يستبعدون قسراً من ميادين النشاط الاقتصادي التي تقع خارج مجال المال. ويصف هرتزل الفلاح بأنه "طراز يوشك على الانقراض"، ويتساءل "هل نسجل لليهود، وهم أذكياء، فضل الرغبة بأن يصبحوا فلاحين من الطراز القديم"؟ وصحيح ان توصيف هرتزل للعمل الزراعي بأنه وظيفة بائدة قد ثبتت صحته في الغرب الصناعي المتقدم بدءاً بالنصف الثاني من القرن العشرين حين باتت نسبة العاملين في الزراعة في نهايات القرن تقل عن 4 في المئة في أوروبا الغربية وعن 2 في المئة في الولاياتالمتحدة، لكن ما يقوله هرتزل عام 1886 يتضمن الاعتراف بأن امكان عمل اليهود في القطاع الزراعي كان خياراً قائماً ومتاحاً في نهايات القرن التاسع عشر وأن القوميين اليهود أمثاله كانوا يرفضون مجرد التفكير في خيار كهذا لأن الزراعة هي وظيفة الثبات والاستقرار على أرض والانتماء الى وطن. فالمزارع يمد له في التراب جذوراً كالنبات ويصبح جزءاً من المكان، ويصبح معادياً لفكرة الانقلاع والانغراس في وطن آخر وأرض أخرى. إن عداء هرتزل للوظيفة الزراعية يصدر عن عدائه لفكرة الاندماج، وهو في رأيه لا يحل المشكلة اليهودية، بل يمكن ان يكون هو المشكلة الكبرى في المدى البعيد: "لعلنا نتمكن من دمج أنفسنا كلياً بالأقوام المحيطة بنا إذا تركنا هؤلاء بسلام على مدى جيلين اثنين. لكنهم لن يتركونا بسلام. إنهم يتحملوننا فترة قصيرة ثم تندلع عداواتهم مرة أخرى". ولم يخيب النازيون والفاشيون فأله ولو بعد موته. لكن قارئ هرتزل لا يجد في نصه الرجل الثائر على الكراهية التي أعلنتها أوروبا تكراراً على اليهود بكثير من الصخب والضجيج. فالكراهية هي التي جعلت اليهود يشعرون بأنهم شركاء في الغربة، وجذرت شعورهم بأنهم "جماعة تاريخية ذات خصائص واضحة نشترك بها جميعاً، والضغط وحده هو الذي يعيدنا بقوة الى الجذع الأم، وعداء الأعداء جعلنا شعباً واحداً على الرغم منا، كما يحدث في التاريخ مراراً وتكراراً. إن المحنة تشد بعضنا الى بعض فتوحدنا، وفجأة نكتشف قوتنا". هكذا تكلم هرتزل في خطاب يشهد على تاريخ تلازمت فيه اللعنة والنعمة وكانت الواحدة منهما تتحول الى نقيضها بشكل تبادلي ودوري عبر التاريخ اليهودي. كأننا نشهد في هذا التاريخ مفهوم مكر العقل الهيغلي في أوضح تجلياته التاريخية. ان هجرة اليهود الجماعية من روسيا ودول شرق أوروبا الى دول غرب أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر خلقت مشكلة سوغت للحكومة البريطانية الحل الجاهز الذي قدمه هرتزل عام 1902 الى اللجنة الملكية لهجرة الغرباء. "... إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم، فأين سيذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون اليه من دون أن تثير هجرتهم له المشكلات التي تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشكلات إذا وجد لهم وطن يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً". وهكذا يتبدى وراء تسامح هرتزل مع أوروبا إدراكه حقيقة مصالحها الامبريالية. ان أوروبا الامبريالية القوية، وبريطانيا خصوصاً، تبقى وحدها القادرة على تمكين اليهود من العودة الى "الوطن التاريخي". ويبدو هرتزل في كامل أهبته لعقد عهد جديد بين اليهود والإله الامبريالي الجديد يتعهد فيه الإله الامبريالي، بالرعاية والحماية، في مقابل تعهد الشعب المختار بأن يكون اليهود في فلسطين، والكلام لهرتزل، "جزءاً من السور الأوروبي ضد آسيا ومخفراً أمامياً للحضارة بوجه البربرية". وعلينا "كدولة محايدة" أن نظل على اتصال بأوروبا برمتها التي سيكون عليها أن تضمن وجودنا. في كل حال، ا ن الغرب الأوروبي كنيسة وملوكاً وأمراء وإقطاع وبورجوازيين في عزلهم اليهود وتهميشهم والانحطاط بهم من مستوى المواطنية الى مستوى الرعية، دفعوا بهم الى تأكيد ذاتهم بواسطة المال وقوته الجبارة التي تفرض سلطانها على أعتى الحكام. أشار ماركس الى ثنائية نعمة - نقمة، أو ما وصفناه بمكر العقل، كما يتجلى في التاريخ حين ذكر "أن اليهودي، الذي قد يكون في أصغر الدويلات الألمانية بلا حقوق يقرر مصير أوروبا". ويجيء في الطبعة الحادية عشرة من دائرة المعارف البريطانية 1911 ما يؤكد ملاحظة ماركس، إذ تذكر الموسوعة تحت عنوان "اليهودية" "إن سيطرة اليهود على تجارة الامبراطورية البريطانية الكولونيالية الخارجية كانت تزيد في القرن السابع عشر على سيطرة كل التجار الآخرين المقيمين في لندن". والمفارقة هي أن فتح أبواب التجارة على أوسع نطاق أمام اليهود تم أولاً في عاصمة بريطانيا، وهي أول بلد أوروبي قام بطرد اليهود جماعة من أرضه في القرن الثالث عشر. ونقرأ في الموسوعة ذاتها أن حاكم شركة الهندالشرقية في العام 1668 كان اليهودي جوشيا تشيلد. وتؤكد دائرة "المعارف البريطانية" ما لحظه ماركس كذلك من تناقض بين وضع اليهود الحقوقي من جهة، ونفوذهم الاقتصادي - السياسي من جهة ثانية: "في القرون الوسطى كان اليهود من دون حقوق ومن دون امتيازات، وفي القرن الثامن عشر كانوا ما زالوا من دون حقوق ولكن كان لديهم امتيازات". وتضيف واقعة قبول اليهودي روتشيلد في مجلس العموم البريطاني دليلاً اضافياً على نفوذ اليهود المالي في الدولة الامبراطورية العظمى. فقد دافع رئيس الحكومة البريطانية ماكولي عن حق اليهودي روتشيلد في أن يكون عضواً في مجلس العموم بحجة أنه "إذا كنا سمحنا لليهودي بإدارة شؤوننا المالية الخاصة فلماذا لا نسمح له بالجلوس بيننا في البرلمان، وأن يكون له رأي في إدارة جميع شؤوننا العامة؟". ويعقب اسحق دويتشر على الحدث بقوله: "كان هذا صوت بورجوازي مسيحي اتخذ نظرة جديدة نحو شايلوك ورحب به كأخ". إن القوة الاقتصادية كانت قادرة على الدوام على النفاذ الى مواقع السلطة السياسية، ولا يقول تاريخ صعود البورجوازية وسقوط الاقطاع شيئاً غير ذلك. وفي هذا السياق يذكر سومبارت "لقد كشف اليهود كل الأسرار المخبأة في المال. لقد اكتشفوا قواه السحرية وأصبحوا سادة المال، وبواسطة المال ومن خلاله أصبحوا سادة العالم". وإذا كان اليهود هم "قوم من صنع الغيتو"، كما يقول هرتزل، فإن المذابح التي جرت في نهاية القرن التاسع عشر، قرن صعود القوميات، هو الذي وفّر للدولة اليهودية الأسباب المباشرة التي أدت الى قيامها. ويصف هرتزل كتابه الخطير "دولة اليهود"، 1896 الذي أعقبته الدعوة الى أول مؤتمر صهيوني في بال عام 1897، بأنه جاء استجابة وصدى ل"صياح يجأر به العالم ضد اليهود، وهذا الصياح قد أيقظ الفكرة الوسنانة"، أي فكرة دولة قومية لليهود. وجاء الكتاب والمؤتمر رداً على المذبحة الروسية المنظمة التي جرت عامي 1881 و1882 إثر اغتيال القيصر في حادثة اتهم بها يهودي. و"قد حولت تلك المذبحة الصهيونيين الروحيين والصهيونيين العماليين الذين كانوا في البدء ليبراليين وأمميين مؤمنين بضرورة اندماج اليهود بالحركات العمالية المنظمة في أوروبا الى صهيونيين يتجهون نحو الحل الفلسطيني لمصلحة الجماهير اليهودية". ويؤكد اسحق دويتشر، وهو اليهودي التروتسكي المعروف، دور الاضطهاد في تجديد الهوية اليهودية القومية. إن دويتشر ينقد انزلاق اليهود الى اقامة دولة خاصة بهم. لكنه يشير الى أن "المأساة المروعة" التي أنزلها هتلر باليهود، تجعل من الزعيم النازي "أكبر مجدد للهوية اليهودية". ولا يشكك دويتشر برقم الستة ملايين يهودي التي أشيع أن هتلر قتلهم، فمثل هذا التشكيك بدأ على أيدي مؤرخين غربيين في الربع الأخير من القرن العشرين، لكنه يشير الى الأثر السياسي الذي أنتجه الاضطهاد الهتلري، "إنه لأمر غريب ومؤلم أن يفكر أولئك الذين شددوا على اليهودية وبقائها، بأن إبادة ستة ملايين يهودي قد أعطت الحياة لليهودية". وعلى هامش هذه الواقعة المفترضة يسجل دويتشر موقفاً انسانياً يتوافق مع عنوان كتابه "اليهودي اللايهودي": "كنت أفضل أن تهلك اليهودية كفكرة سياسية ورابطة دينية قومية في مقابل أن يحيا ستة ملايين رجل وامرأة وطفل! فمن رماد الموتى أطلت العنقاء اليهودية. فيا له من انبعاث". إنه انبعاث مشؤوم من دون ريب. لكن الخوف هو مصدر انبعاث الفكرة الدينية - القومية، والخوف هو مفتاح الذهنية الاسرائيلية وهواجسها الأمنية التي جعلتها منذ انشائها دولة تنبني بأداة ذهنية غيتوية تهجس بالأمن وتحيط نفسها بأسوار الغيتو وتنفق 26 في المئة من موازنتها على التسلح، وهي موازنة مدعومة بثلاثة بلايين دولار أميركية سنوياً تساوي خمس المساعدات الاميركية الخارجية. ربط المسيري بين نظرة يهود الغيتو القديمة للأغيار ونظرة الصهاينة الجدد للعالم الخارجي المحيط. "إنها نظرة شك عميقة، وإحساس بأن هذا العالم متربص بالحمل اليهودي الوديع". وتستند نظرية الأمن الاسرائيلية الى هذا التوجس. فإسرائيل لا بد من أن تظل مسلحة الى أقصى حد، ويمكن القول ان اسرائيل هي الغيتو المسلح فعلاً. إن تأكيد هرتزل تحالف اسرائيل مع أوروبا المتحضرة ضد "آسيا البربرية" يتضمن معنى الانقطاع عن المحيط والصدام العنيف مع المحيط الآسيوي، مما يجعلها تنوجد في الشرق من دون أن تكون من الشرق، تماماً كما كانت الأقليات اليهودية في المحتجزات الغربية تنتشر في المجتمعات الأوروبية من دون أن تكون منها. إن اليهودي الذي عاش حياة الترحل على قلق هو شخصية مبرمجة بالهواجس الأمنية التي خلفها العنف الجسدي والمعنوي المتمادي في اليهودي عبر التاريخ، وقد كان هذا العنف في أحد أبعاده رداً على عنف اقتصادي مارسه اليهودي طائعاً - كارهاً من ضمن خصوصيته الوظيفية الربوية والمالية. ولا بد من التذكير بأن اسرائيلي العصر هو نتاج تاريخ قلق. وكل ما حققه من انتصارات عسكرية على جيوش الأنظمة العربية لم يبدد قلقه، وهو المبرمج بذهنية يغلب فيها الجزع على الرجاء والأمل، وقد يبلغ الجزع أبعاداً تبدو مستغربة في ضوء ما حققه من انتصارات على كل الصعد، كان يفترض أن تؤكد الثقة بالنفس وتوطد الشعور بالأمن. في كتابه "القوة اليهودية" يذكر غولدبرغ أنه على رغم ما أظهرته حرب الأيام الستة في حزيران يونيو 1967 من أن "أمن اسرائيل موطد بشكل يفوق كل تصور، وأن أي شيء يمكن أن يحدث عدا أن تكون الجيوش العربية قادرة على تدميرها. إلا أن ما تعلمته الجالية اليهودية الأميركية من تلك الحرب كان نقيض ذلك. وهو أن اسرائيل يمكن أن تدمر في أية لحظة، وأن العالم هو مكان خطر وعدائي وأنه سيسمح بدمار اسرائيل وأن لا أحد يكترث بمصير اليهود، وأن اليهود يجب ألاّ يكترثوا بمصير أحد". إنه الحاضر تشوهه القراءة بعين الذاكرة التاريخية وليس بالعين الحسية. والذاكرة اليهودية الجمعية، ذاكرة العلمانيين اليساريين والمتدينين اليمينيين على السواء، هي ذاكرة مثقلة بذكرى المعاناة في الشتات. عرّف هرتزل اليهود عام 1896 بأنهم "شعب من صنع الغيتو"، كما سبق ولاحظنا، وبعد نحو قرن يستعيد شمعون بيريز الاشتراكي العلماني، وداعية الحوار اليهودي - الفلسطيني - العربي الوصف ذاته. يقول بيريز "نحن أمة من اللاجئين. إننا نحمل في ذاكرتنا الجماعية تاريخ نفينا من وطننا الذي أخذ عنوة مرتين من أجدادنا. إننا نعرف عن تجوالنا في أوروبا وآسيا وأفريقيا". ويستعيد بيريز ذكريات الطرد الجماعي والمحارق النازية وحكاية اللاجئين اليهود الذين كانوا يزحمون الطرقات بين شرق أوروبا وغربها خلال عقدي الثلاثينات والأربعينات بفعل الاضطهاد النازي. وهذه الذاكرة التي يكتبها بيريز بأسلوب أدبي مثير ترخي بثقلها ولا ريب على القرار السياسي والعسكري الاسرائيلي. ولا ننسى أن بيريز الذي يقدم نفسه في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بوصفه "أحد ورثة أفكار عصر الأنوار"، وانه رجل الحوار "الذي يتطلع الى الأمام بأمل وليس الى الوراء في غضب"، هو نفسه صاحب مشروع تسلح اسرائيل النووي. فما زال حياً ذلك الخوف المتمادي من الغرباء الأغيار وما زال العالم منظوراً بعين ساكن الغيتو القديم، يتبدى معادياً الى درجة تشطر الوجود في الوعي الى ثنائية الأنا واللاأنا. من هنا نجد العلماني المستنير لا يتطلع الى الأمام الا بعد أن يتطلع الى الوراء. وإذا كانت هذه هي حال العلماني الاشتراكي، فإن وعي اليهودي الارثوذكسي ما زال محكوماً بالوعيد الديني الراشح من خطب أنبياء فسروا اقتلاع اليهودي والسبي البابلي بأنه من فعل يهوه الذي انتزع منهم الأرض التي وهبها لهم لأنهم خالفوا العهد ولم يوفوا بالتزاماتهم تجاهه. وإذا كان النوع الأول من الرهاب يدفع العلماني والمتدين معاً الى التسلح بما يفوق حجم الدولة العبرية الجغرافي والديموغرافي، فإن الرهاب الثاني يدفع المتدينين الى التشبث بأرض اسرائيل التوراتية المقدسة، وهي في الراهن أرض الضفة الغربية، أرض مملكة اليهود الجنوبية وعاصمتها القدس التي بقيت موالية للأسرة الداودية ويتراءى للمتدين المعاصر بطاركتها وهم يمشون على تلالها يوم كان لهم مملكة على أرضها. وهؤلاء المتديون الارثوذكسيون هم الذين انتدبوا، في شكل أو آخر، قاتل رابين إيغال أمير لارتكاب جريمة القتل في الرابع من تشرين الثاني نوفمبر عام 1995 وهي جريمة تعلن حقيقة أن الغيتو الاسرائيلي يعاني تشنجات يفرضها عليه الحل السلمي القاحم للمنطقة مستمداً اندفاعته من قوة المركز الامبراطوري، وانه لا يجوز الحديث بالتالي عن الغيتو في المطلق وكأن ساكنيه كتلة دينية متجانسة غير قابلة للاختلاف أو التمايز. وإذا كان القطاع العلماني من الاسرائيليين يدرك ضرورة التنازل عن الأرض من أجل السلام، فإن القطاع المتدين ذا الوعي المبرمج بالخطاب التوراتي يجزع من امكان التنازل عن أرض اسرائيل التوراتية. وهذا التيار الذي انتدب إيغال أمير، ولو بالإيماء، لارتكاب جريمته كان يرى في اسحق رابين "صورة الفرعون المصري الذي يتحدى إرادة الله". كما كتب رئيس تحرير صحيفة جوويش برس، شولوم كلارس تعقيباً على الجريمة. لكن الظاهرة اللافتة هي توافق العلمانيين الاشتراكيين، أمثال شمعون بيريز، مع الليكود والمتدينين الارثوذكسيين على إنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ورفض ازالة المستوطنات من على أرض الضفة والاصرار، قبل وبعد، على وجوب أن تبقى القدس عاصمة اسرائيل الواحدة الموحدة. والمبررات التي يقدمها العلماني المستنير بيريز لهذه اللاءات الاسرائيلية الثلاث لا تختلف من حيث المضمون والمصطلح اللغوي عن الذرائع التي يقدمها المتدين اليميني. يقول بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد": "ان المدينة المقدسة هي للشعب اليهودي بمنزلة القلب ذاته. إنها موضوع صلواته وأحلامه وآماله بالخلاص بعد ألفي سنة أمضاها في المنفى". وكل هذا العطر الروحي لا يحجب دور القدس في أن تكون مركز استقطاب للسياحة الدينية. والحل الذي يقدمه بيريز هو "أن تحتفظ اسرائيل بالقدس تحت السيطرة السياسية الاسرائيلية"، على أن تبقيها، وهي المدينة المقدسة عند المسلمين والمسيحيين، "مفتوحة لكل المؤمنين". وهو حل يحظى بالاجماع الاسرائيلي. من هنا فإن المسار الفلسطيني مرشح لأن يكون الأكثر مشقة، وأن تكون مكاسب الفلسطينيين عليه هي الأكثر شحاً. أما المسارات الأخرى التي يتغلب فيها الهاجس الأمني الذي لا يداخله الخوف من خرق المحرم الديني، فمن الواضع ان مسارها هو الأسهل نسبياً، خصوصاً أن التكنولوجيا العسكرية الحديثة قللت من أهمية المرتفعات الاستراتيجية، كما قللت الرؤوس النووية من ميزة الأكثريات العددية. أضف الى ذلك تحدي المساحات الصحراوية الشاسعة وبروز شبح الجفاف والتصحّر مما يجعل الحاجة الى الماء هدفاً استراتيجياً يدخل في إطار الأمن الغذائي والاقتصادي، كما أن التقانات الانتاجية الاسرائيلية بحاجة الى سوق "شرق أوسطية" تتوافر فيها أيد عاملة رخيصة وطبقة استهلاكية عريضة وأموال نفطية يحلم بيريز بتوظيفها في تقانات اسرائيلية انتاجية. ان بيريز يطل من صفحات كتابه "الشرق الأوسط الجديد" وهو يحمل وجهين متنافيين: وجه يهودي الغيتو وعليه ندوب الماضي التي عكست نفسها على دولة اسرائيل حتى بدت "أكبر غيتو عرفه التاريخ" كما يقول المسيري. أما الوجه الآخر فهو الذي يحمل سمات عصر العولمة ويجتهد في الخروج من العزلة ويرسم وجه اليهودي العالمي الذي لم يكن له من هوية في تاريخ الدول القومية التي عاش فيها ولم يكن منها سوى هوية المال السائل والجوال، أي هوية البداوة المالية، وهي الخصوصية التي ترافدت وتفاعلت مع خصوصيته الدينية. وهذه الهوية العالمية هي هوية طاردة للهوية الأولى "الغيتوية". وعصر العولمة وهو، بنسبة أو بأخرى، عصر اليهودي العالمي، يغلِّب هوية اليهودي العالمي التي كان يواريها ويحجبها الوجه الغيتوي المبرمج بالهواجس الأمنية. وهذا الوجه العوالمي يؤكد نفسه بمقدار ما يتقدم مشروع السلام تحت المظلة الاميركية التي تبسط ظلها على الكوكب. وانفراد أميركا بمركز القيادة الامبريالية لا بد من أن يكون عنصر طمأنينة لبيريز وأمثاله لما لليهود الاميركيين من ثقل وازن في صنع القرار السياسي الأميركي. ومن يقرأ بين سطور بيريز يلاحظ أن الرجل يكتب نصه وكأن الروح الهيغلية الكونية التي تستوطن حقبة العولمة وتدفع التاريخ الى الأمام هي نفسها الروح العوالمية التي تملي عليه نصها. فهو يستعير من فلسفة هيغل نصاً يقول ان القادة والزعماء الذين يتخذون قرارات تاريخية خطيرة لا يدركون خطورة قراراتهم وأهميتها الا بعد انطواء حقبة من الزمن. فالتاريخ، في اليهودية والهيغلية على السواء، يتوسل القادة والزعماء كأدوات يحقق عبر وساطتها غاياته الأخيرة، وبيريز يقدم نفسه في الشرق الأوسط الجديد بوصفه واحداً من هؤلاء. فهل من نص عربي بديل، مضاد.. أو معدّل؟ حول النبوغ اليهودي يفاخر ثيودور هرتزل، أسوة بعشرات الكتّاب اليهود، بظاهرة الذكاء اليهودي كما تجلت في أسماء عباقرة يهود كبار أمثال نيوتن وأينشتين كانت لهم اسهامات جليلة في ما امتلكته البشرية من ثروة معرفية. وذهب البعض الى تفسير الظاهرة بأصول عرقية، ويضيف سومبرت الى العرق تقديس اليهود للمدرسة بوصفها المعبد، والتعلم بوصفه عبادة. لكن دويتشر، اليهودي التروتسكي، يضع هذه الظاهرة في إطارها الموضوعي الحقيقي إذ يلاحظ أن اليهود النوابغ لم يكونوا يهوداً وانهم بفضل ذكائهم تخطوا الخصوصية اليهودية الدينية الضيقة الأفق: "إن أمثال سبينوزا وهاينه وماركس وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وفرويد قد تجاوزوا حدود يهوديتهم لأنهم وجدوها ضيقة ومقيدة الى أبعد الحدود، وقد أكل الدهر عليها وشرب. لقد تطلع جميعهم الى مثل وانجازات تتخطاها، فهم حصيلة وجوهر كل ما هو عظيم في الفكر الانساني". ونذكر في هذا السياق أن العبقري اليهودي أينشتين رفض دعوة الزعماء الصهاينة لترؤس الدولة الصهيونية غداة قيامها مبرراً رفضه بالعبارة الشهيرة "إن معادلة فيزيائية واحدة أكثر بقاء من رئاسة أي دولة". ولا ينكر دويتشر، وهو اليهودي اللايهودي، ان في أعماق هؤلاء اليهود الكبار "شيئاً من جوهر الحياة اليهودية وفطنتها"، لكنه يفسر عظمة فكرهم الانساني "بقدرتهم على التفاعل الثقافي مع حضارات متباينة أنضجت عقولهم. لقد كان هؤلاء في المجتمع وخارجه، يعيشون في المجتمع وهم ليسوا منه". وقد مكنهم هذا الأمر من "الارتفاع بفكرهم فوق هذه المجتمعات، فوق أممهم وفوق عصورهم وأجيالهم، وأن يجولوا بعقولهم آفاقاً عريضة جديدة وبعيدة نحو المستقبل". * أستاذ الأدب المقارن والدراسات الحضارية في الجامعة اللبنانية