1 كلمتان لجملةٍ واحدة. مفيدة. لا أكثر. ضد الحرب. تحتاج اللغة للإيجاز كلّما كان الوقت لا يسعف بالكثير من الكلام. الإطناب بتعبير العرب. ضد الحرب. جملة تجري في دمي. أحسها تائهة. لا أحد يكاد يسمعها. هذه الجملة التي تتحرك بين الدم واللسان. عند رؤية قتلى الحرب في أفغانستان. أو مشرّدي الحرب في أفغانستان. لا شيء يعلو على الإنسان. القتل هو القتل. ليست هناك تسمية اخرى للقتل. أبرياء ينامون. في بيوت من طين. لا هم محاربون ولا مجاهدون. بل لا يعرفون من الإسلام سوى شعائر. يؤدونها بطريقتهم. ثم قوافل الطائرات المغيرة. المجهّزة بأفتك وأحدث الصواريخ. أيُّ قلب يحمل أصحاب القرار! وبأي يدٍ يقود الطيارون القاذفات! وبأيّ عين يشاهدون الدمار! الحرب. وقتلُ أبرياء. قتلاً بالتعذِيب والتشويه. كل قتل لدى أصحاب القرار رحمةٌ للبشرية. كما يخطبون. بألسنةٍ تتغيّر أسماؤها. في المحافل. الندوات الصحافية. المآدب. يطالُ الحديث. الدفاع عن البشرية. عن الخير ضد الشر. عن معجم الجحيم. قبل أن يكون معجم اميركا التي قامت على المال. والتكنولوجيا. والإنتاج. والديمقراطية. ثم جاء عصر القوة. زمنُها. لكي لا تترك انساناً يحيا بغير إِذنِها. وهْيَ اليوم تدخل الحرب في أرض نائية لأنها أحسّت بالهوان. على أرضها. لم يقبل أحد أن يشاهد ما حدث يوم 11 أيلول سبتمبر. ذلك الرعب الذي اختلط بالأنين. والدمع. لا أحد. لكنّ الحرب. وهؤلاء القتلى الليليين. الذين لا يعرفون بأي عذاب أو تشويه سيموتون. وهذه القرى الصغيرة التي لم يسمع أحدٌ من قبلُ باسمها. هي اليوم تثير فينا الألم الذي أثارته تفجيرات 11 سبتمبر. إضافة الى أن القتلى هذه المرة وحيدون. من تحت الأنقاض ينتشلهم. أقرباؤهم. أشلاء أو جثثاً مشوّهة. يكْفي أن تلُقي نظرةً وحيدةً على وجهٍ واحدٍ لتتخيّل ما لا ترى. أنت الذي لا تسكن هناك ولا تزور أحداً. لا تبحث عن قريب من بين الأنقاض. ولا تتحسّر على أهل. لك أن تنظر قبل ان تُسرع اللقطة في اختطاف القتيل بمنطق نقل صورةٍ جديدة لك. أن تنظر. لترى الموت. والحرب التي تقتل. أبرياء في الخلاء. والقحط والجبال المسنّنة. الغريبة عن جغرافية السهول والوديان التي نأنسُ بها. هذه الحرب. والقتل، والقتلى. الذين لم يُذكر عنهم. أنهم قتلة. أو قطّاع طرق. أو مهرّبو أسلحة ومخدّرات. وجوه تتكلم بلغة تحاكم ضمير العالم. 2 بدويٌّ عاديٌّ. بادر بمحادثتي بعد صمت. "يقتلونهم ويبعثون لهم بالغذاء". إيجازٌ دامغ. بم يمكن أن تجيب؟ رؤية لا تفهم الفرق بين إسلام وإسلام. لا تفهم العلاقة بين الإرهاب وبين قتل هؤلاء الأبرياء. شخصياً أعجزُ عن النطق برأي مخالف. في الصباح. عندما أفتح الجريدة. وأشرعُ في قراءة الأخبار التي لا توردها القنوات التلفزية. في نشرات الليلة السابقة. نادراً ما يكون تأثير الكلمات مباشراً وفاتكاً. مثلما. الصورة. القاتمة. أو أحياناً لا أستطيع مواصلة القراءة. مثلما يحدثُ لي وأنا لا أستطيع مواصلة نشرة الأخبار. في التلفزة. البدوي الذي التقيتُه. في السوق. يتعدد. لكن الصمت هو ما يحافظ الناس عليه. صمتٌ يبدو وكأنه نسيان. أو لامبالاة. الحياةُ اليومية لها قسوتُها التي لا تسمح بوقت للتفكير في القتل. وفي موتى الليلة الماضية. وفي أرضٍ من أنين. أنا الآخر. أضيعُ في أشغال. وواجبات وعمل. ثم فجأة. كيف نسيتُ؟ أسأل نفسي. أهذا القتل يُنسى؟ وهل هؤلاء القتلى يستحقّون كل هذا الموت؟ يدور ذلك في خلدي. متباطئاً أبحث عن مبرّر. لكل هذا القتل. وفي نفسي ألمُ. أن أتذكّر وألمُ. أن أنسى. يصعب على النفس البشرية أيُّ تميز بين قتل وقتل. لا يعنيني أمر البحث عن طريقة أو طرق لحل نزاعات أو تنفيذ أحكام. لكن القتل. هو الذي يجعلني أمام وحيدين. بشرٍ يُقتلون. وبأسلحة تشوّة. تفتك. تحرق. تمزّق الجسد أشلاء. وفي كل قتلٍ تاريخٌ من الألم. هذا العويل الذي رافق القتلى في احتضارهم. أو هذا الصمتْ الذي ضغط على صدورهم وهُم في الدرك الأسفل من الموت. حيث الوحدةُ. وجنون أن تكون في لمح من البصر. عاجزاً مقذوفاً بسلاح دمّر. ليقتل. وهجم ليقتُل. بريئاً لم يستشره أحدٌ. في حربٍ. وفي قتل. يملك الطاغوت. كل طاغوت. لذة أن يقتل. بيدين هادئتين. أجادتا التدرُّب على القتل. تدقيق. التصويب. والرّماية. حتى يكون القتل باعثاً على الزيادة في القتل. وعلى تحسين أدوات القتْل. وتقنيات أسلحتها. وفي الحرْب ضد أفغانستان. أو في أفغانستان. مدرَّبون على قتلٍ. من نوع متطوّر. بالمقارنة مع حرْب الخليج. طيّارون يمتطون طائراتٍ للقيام بجولةٍ منعشة. في حلبة القتل. الأرض الشاسعةُ. الجبالُ الوعرةُ. الجدْبُ. الذي يسهّل على الطيارين ضبط المواقع. وبحركةٍ تشتد فيها اللذة. في مملكةٍ للطيارين. سماءٌ عاريةٌ. تنفّذ اليدُ الأمر بالقتل. ولا يرى القاتلون قتْلاهم. هذا منظر جديد. لم يعتدْه المحاربون التقليديون. من السماء. المشتركة بين أديانٍ عديدةٍ. على الأقل بين أهل الكتاب. تسقطُ آلات القتل. كل واحدةٍ منها تكفي لتقل أهل قرية. أسرابُ طائرات. وطوفانٌ من آلات القتل. حتى يتأكّد القتل. مرة تلو مرّةٍ. تلو مرةٍ. ولك أن تتخيّل. لحظة قتل. إبادة أهل قرية عن آخرهم. 3 بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. نشأتْ في أوروبا حركاتٌُ أدبيةٌ وفنيةٌ وفلسفية. كردّ فعل على الحرب. أو على هذه الحداثة التكنولوجية. والعلمية. التي أعطت القتل بدلاً من أن تقدّم للبشرية السعادة الموعودة. ولا أفهم كيف يلغي صاحبُ فرضية نهاية التاريخ هذا البعد التدميريّ. الناشئ في مجتمع الديموقراطية والليبرالية الاقتصادية. لا أفهمُ أيضاً كيف يُلغي من التحليل دورَ هذه الدول الديموقراطية نفسها في سيادة اللاديموقراطية في البلدان التي كانت مستعمَرةً من طرف السادة الديموقراطيين. لا أجادلُ منظِّراً أصبح مرجعيةً في الحقل السياسي الدولي. الفلاسفة يقومون بواجب النقد والجدل. لكن سؤالاً محيّراً. يعود إليّ كل مرة وأنا أتابع تاريخ القتل في العهد الذي أعيش فيه. منذ الخمسينيّات من القرن الماضي. حتى اليوم: كيف ننصت الى الأنماط التي يتخذها أبناء الشعوب الضحايا. للتعبير عن رفضهم لهذه الحروب. المتتالية. من بلد الى بلد. ومن جيلٍ الى جيل؟ لم تتوقف الحروب لحظةً واحدةً في هذه البلدان الضحايا. فلسطينُ ذاتُ تاريخٍ مجيد في الاستشهاد. أميركا اللاّتينية. لا تزال تعيش زمنَ القتل. آسيا. وأوروبا وأفريقيا. فأين أنتهي؟ ولنا في كل منطقة نتاجاتٌ فنية وأدبية. تعارض القتل وتُدينه. لكن في أفغانستان؟ ما الذي قرأناه للشعراء الأفغان؟ كيف نقرأهُ وننصِتُ إليه؟ إنهم موجودون. فلا شعبَ بدون شعراء. وبدون فنّانين. فبأي لغة يتكلّمون. الآن؟ وأي حركةِ إدانة للحرب يمكن ان يتّبعوا. ضد الحرب؟ لذلك صلةٌ بالوضعيّة الثقافية العالمية. وطُرق إنتاج وتوْزيع النماذج الأدبية والفنية. لننْسَ هذا قليلاً. في لوبيانا. العاصمة السلوفانية. عُقد مهرجانٌ شعريٌ كبيرٌ. في بداية سبتمبر. وكان شعارُ ندوة المهرجان في صيغة سؤال. هل يمكن للأدب أن ينقذ العالم؟ يوم 7 سبتمبر كانت الندوة. آنذاك أحجمتُ عن المشاركة في النقاش لأني أحسستُ بشيءٍ ما لا يتجاوبُ مع ما أفكّر فيه. ولم تكن لديّ رغبةٌ في اتّباع وتيرة نقاش. فضفاضٍ. سؤالي كان عكْسياً: هل يمكن للعالم أن يُنقذ الأدب؟ بعد أربعة ايام فقط. جاءت قيامة 11 سبتمبر. وبعد شهْر. جاءت الحربُ. المنظّمةُ العلنيّة. على أفغانِستان. 4 ضد الحرب. هو ما كان الأدب كما كانت الفنون دائماً. أقصدُ الآداب والفنونَ ذات النزعة الإنسانية. التي اخترقت حضاراتٍ. وكبرت في لغات. وامتدت عبر أعمال. هي ما نتسمّى به في العالم. ونحن اليوم في هذه الحرب. معنيّون. لا بالجواب على سؤال. لا معنى له. بل معنيّون بأن نواصل قول. لا. ضد. هذا هو ما يمثّل جوهر الآداب والفنون. جوهر الثقافة. تعليقُ البدويّ. الذي التقيْتُه. كان كافياً ليلخّص موقفاً ضد الحرب. لم يصرّح على نحوٍ مباشر بهذه الضدية. لكنه أبرزَ صورةَ المنطق الفاسد للأميركيّين. وللحلفاء. الذين يقتلون ويبعثون بالغذاء. في أكثر من منطقة في العالم حركاتُ احتجاجٍ على الحرب. بدءاً من الولاياتالمتحدة نفسها. لحركة الاحتجاج. جملةٌ واحدةٌ: ضد الحرب. وهذا الصمتُ الكبيرُ في العالم العربي. شبيه بالصّمت الذي يسودُ في مناطق من عالمنا. ونحن بحاجة مرة اخرى لنقول. ضد الحرب. لا عبثاً. ولا واجباً لم يعد يستجيب لأهواء الذين ينفُرون من اعباء العالم. بل هو من صميم الموقف الإنساني لكل المبدعين. ضد الحرب. جملةٌ بها ننظر الى الجمال. وإلى الحرية. وإلى المجهول. وإلى اللاّنهائي. ضد الحرب. كلمةٌ بها نستهدي. في الكتابة. وفي بناء جملة دالّة. يحافظ فيها الكلام على المعنى. 5 في هذه الحرب. تبدو رهاناتٌ عظمى قابلةٌ للاختبار. ثمة فرقٌ بينَ رفضِ الإرهاب وبين الصمت عن القتلى في حرب. ضحاياها. يئنّون وحدهم. تحت سماءٍ لم تعد سماء رحمة. ولا سماء غُفران. أقفاصٌ حديديةٌ. تستولي على السماء. وفي صمت الليل. وظلمتِه. تتحوّل السماء الى جحيم. لهبٌ على لهبٍ. من السماء يسقط. قاتلاً. بشراً. يجهلون سبب القتل. في صمت الليل. وفي وحدة تزدادُ. ولنا في هذه الحرب ما لا نعرفه مستقبلاً. من طاغوتٍ. يتفرّد بحقّ الأمر بالقتل. في الجهاتِ التي ينتخبُها. واحدةً. واحدةً. وضد الحرب.