إن خير ما نبدأ به هو مقولة الأديب المصري د.طه حسين عندما قال " إن كل أديب لا يستقي مادته وروحه من حياة الشعب فليس أديباً ولا هو بكاتب للأدب وعلى ذلك لا بد من أن تعرف ماذا يقول الشعب وكيف يعيش الشعب وكيف يحكي حكاياته وأقاصيصه ولا بد للمنتخبين من دراسة الأدب والحياة بين البيئات المختلفة للناس". وحرصاً منّا ولأهمية الشعر الشعبي في الوطن العربي ومكانته الرفيعة التي ازدادت يوماً بعد يوم فكان واجبا علينا توضيح وتعريف الأخوة القراء في الوطن والخليج العربي والمملكة العربية السعودية الحبيبة على وجه الخصوص بالشعر الفراتي والبدوي. فعندما ظهر الشعر الفصيح كان صرخة عصره فتناقلته الأعراب عن ظهر قلب إلى أن دوّن وحفظ في دواوين ومعلقات لم نجد لها مثيلا حتى عصرنا هذا وكانت قصائده موزونة تنتمي لبحور اللغة العربية وظهر بعد زمن شعر التفعيلة وكان فعلاً الشرارة التي أشعلت فتيل حربِ ضاربةٍ بين مؤيدِ ومناوىءِ له إلى أن صنع أي شعر التفعيلة كياناً خاصاَ به ونمطاً يحتذي به فرسان هذا الشعر من جيل إلى جيل بالرغم من أن الكثيرين ينسبون هذا النوع من الشعر للنثر أكثر منه إلى الشعر وقبل أن نبدأ الحديث عن الشعر الفراتي والبدوي علينا أن نعي حقيقة لا يستطيع أن ينكرها أي واحدِ منا وهي عراقة الشعر النبطي وقدمه في الوطن العربي فهو من أقدم الأشعار الشعبية على الإطلاق وهو بمثابة البحر للشعر الشعبي تصب فيه كافة الأنهر على الساحة الشعبية في كافة أنحاء الوطن. أما تسمية الشعر الفراتي على طول الفرات حتى وصوله لبلاد الرافدين والمدن التي يمر بها يتكنى به الشعراء تيمناَ به ولما يعني لهم من معنىً عظيم ومن أوائل الذين حملوا هذا اللقب شاعرنا الفراتي الكبير محمد الفراتي ونذكر له بهذا الصدد بيتين من قصيدة في غاية الجمال مطلعها : ذاكَ نهرُ الفراتِ فاحبُ القصيدا من جلال الخلود معنىً فريدا باسماً للحياة عن سلسبيلٍ كلّما ذقته طلبت المزيدا وحتى وقتنا هذا فإن عائلة الفراتي ابناءه وأحفاده يعيشون في مدينة دبر الزور في سورية وما زالوا يحملون هذا اللقب تفاخراً به وبجدهم الشاعر العربي الكبير، وهذا النوع من الشعر يعرف في البادية السورية بالشعر البدوي وقد ترك أثراً كبيراً في نفوس الناس فكان الشعر الفراتي والبدوي كالشرارة التي أطلقها شعر التفعيلة في زمنه وهو سهل التلقي صعب القراءة على كثيرين من القراء فعندما يقرأه القارىء فإنه لا يشعر بجماليته كشعر ولكن عندما يسمعه من أحد شعرائه فإنه يشعر به وبنغمته الشعرية الجميلة ويندمج مع كلماته وهو شعر الحرية والإبداع. فمن منّا لا يعرف الشاعر الكبير عمر الفرا فهاهي حمدة التي غزت وطننا العربي من أقاصي شرقه إلى أقاصي غربه وعلى سبيل الذكر نورد منها هذا المقطع الجميل .. ما أريدك ما أريدك حتى لو تذبحني بايدك لاني نعجة تشتريها ولاني عبده من عبيدك ما أريدك ابن عمي ومثل أخويه ودم وريدي من وريدك ما أريدك ما أريدك وتشرح حمده لابن عمها علاقتها الأخوية له ورفضها فكرة الزواج منه وكيف أرادوا أهلها أن يجبروها على الزواج منه. وهذا المقطع عندما نقرأه نجد أننا نقرأ كلمات تراتبية ولكن عندما يلقيها الشاعر عمر الفرا فإنه يلهب بها أحاسيس الحضور والمستمعين. ويعتمد الشعر الفراتي والبدوي على الإلقاء بنسبة كبيرة ويصعب على القارئ أن يجد تلك النغمة الموسيقية كالتي يجدها في الشعر النبطي إلا إذا كان متمكناً في قراءة القصائد الفراتية والبدوية والشعر الفراتي والبدوي هادف و محفز دائماً على العمل والعطاء والنضال ويناقش مسائل اجتماعية كثيرة . وبكل تواضع أنا أحد الشعراء الفراتيين في بلدي لا أنفك أذكر في قصائدي فلسطينوالقدس وعروبتها العربية وواجبنا القومي في النضال لأجلها وكانت آخر قصيدة لي تحت عنوان "صرخة طفل" نجد من خلال قراءتها قصة كاملة ذات مغزى تتكلم عن طفل رأى أمه تقتل برصاص العدو الإسرائيلي الغادر وهو في أحضانها وانطبع ذلك المشهد في مخيلته ليكبر معه حب أمه والقدس الذي تربى فيه حاملاً بين ثنايا ذاكرته ذلك المشهد الأليم ليتمخض عنه حقد وألم يكبران معه مقسماً على الانتقام وفي بدايتها أقول.. عِلا الموج وبعد أكثر عِلتء صرخة طفل بشفاه صحى وشاف الجرح يكبر القدس أهله وهُو ربّاه كبر ماضيه يتذكر كبر والثار ما ينساه يقول اذكر وأنا زغير سمعت أمي تصيح الآه أشوف الدم واتمرمر تردد ثاري ولداه وأصور بعدها براءة ذلك الطفل فبعد ساعة من الزمن رأى أمه ترتدي اللباس الأخضر لطهارتها فتصعد روحها للسماء لتلاقي الحق عز وجل بأبهى صورها وكيف أصبحت بعدها رائحة دمها كرائحة المسك والعنبر مشيداً إلى ذلك بتلك الأبيات.. بعد ساعة البست أخضر تقلّي بالسما ألقاه عطر ريح ومسك عنبر عطر ياناس ما أحلاه فيدنو ذلك الطفل البريء ليرضع من صدر أمه بعدما أصابه الجوع جاهلاً حقيقة الموت فهو لا يدرك أنها قد فارقت الحياة منذ ساعات وأثناء حبوه إليها يشعر بالرغم من صغر سنه بهموم قد تراكمت عليه .. حبيت ومنها جيت أدني أدور صدري واتصور على صدر الوفى أرمي همومي ودمعي متحسر ثقل همي على متني أناظر أمي متحير سألت يمّه نشف ثديي حليبي وين أنا دور وتكون الفاجعة والصمت وبدأ يدرك الحقيقة المرة فقد بدأ يحس بأنه قد فقد ثديها وحنانها ولم تعد تستجيب لكافة نداءاته فيقول: صمت سكته يرد يرجع سؤالي بس انا ما ادري أصيح عيوني بس ما تدمع طبع بيهم غدر يسري يصوب سلاحه من جبنه بظهر أمي وهي تجري وعد يمّه لأوفي الدين شبابي انذرت إلك عمري لاوفّي الدين واستشهد عريس وهذا هو قدري فتزف القدس عريساً آخر وشهيداً آخر لينضم إلى قافلة الشهداء . وإن استجمعنا هذه القصيدة وتوغلنا بين حروفها نجد فيها معاناة شعبنا في القدسالمحتلة من ظلم وتشريد وقتل بلا رحمة نساءً وأطفالاً وشيوخاً. ولا يعتمد الشعر الفراتي والبدوي على القافية الواحدة فلا ضير من تعدد القوافي بشرط إضافة نكهة شعرية على ما سبقها من القوافي. وللشعر الفراتي والبدوي دور في الأغنية الفراتية والشعبية وتنقسم إلى ثلاثة أنواع من الفنون الأول ويسمى بالعتاب وتكون الأشطر الثلاثة الأولى فيه تنتهي بكلمة واحدة والشطر الرابع يكون مختلفاً في الكلمة والقافية وعلى أن تكون الكلمات في نهاية الأشطر الثلاثة الأولى مختلفة المعنى وندرج هذه الكتابة القديمة كمثال على ما سبق .. نقط طير الحمام وكَلت بليان شوارب سود جوّى اللحد بليان مجفار اللحد ويديك بليان يازي هيل عالغالي التراب فبليان في الشطر الأول تعني مُبتلى أما في الشطر الثاني تأتي بمعنى اهترأءنَ وفي الشطر الثالث معناها أصابهن البلاء. الثاني النايل وهو يحتل مكانة رفيعة بين فنون الأغنية الفراتية والبدوية وتنتهي فيه الشطرين بقافية واحدة ونذكر هذا البيت .. مناجر فجوج الخلا يا ريم وين تريد الثالث هو السويحلي وهو من أرق الفنون الفراتية والبدوية لما يملك من لحن جميل وهو واسع الانتشار فيحتوي على رسائل الحب والغرام وقافية هذا الفن تقع في الوسط كقولنا .. حبر ن الدموع مكتوبكم يازين من بين الضلوع نار الفراق تزيد أما آلات الموسيقى للفنون الفراتية والبدوية فهي ثلاثة : 1. الربابة 2. المقرون "الأرغول" 3. الشبابه "الناي" وهي معروفة لدى أغلب الدول العربية. فالشعر الفراتي والبدوي هو تاريخ أمه وحضارتها وفنها نما وترعرع في ظله ليكون نهراً يضاف إلى أنهر الشعر الشعبي في وطننا الغالي فتلتقي وتصب جميع هذه الأنهر الإبداعية في بحر الشعر النبطي لتشكل نبض وأحاسيس وأقاصيص الشعوب العربية بكافة طبقاتها معبرة عن أحزانها وأفراحها وارتباطها الفطري بعضها ببعض عاكسة حياتنا اليومية بما تحمله من معانٍ عربيةٍ أصيلة. ولكل من أراد التوسع من الأخوة القراء في هذا الفن الإبداعي عليه قراءة كتاب للباحث السوري عبد محمد بركو بعنوان كنوز خالدة من تراث الجزيرة والفرات وفيه سيجد ضالته متمنياً من الله عز وجل أن يستفيد كافة الأخوة من هذه الكلمات.