الحرب بشعة جداً: بديهة. وهذه مثل سابقاتها في البشاعة: أكلاف انسانية ودمار اقتصادي وتردٍ ثقافي وفكري في جهة. وتراجع عن السوية الديموقراطية والمتسامحة في جهة أخرى. اجراءات الرقابة الجزئية على الإعلام في الولاياتالمتحدة مَثَل واضح. أيضاً: هذه الحرب، رغم كل بؤسها، رغم تعريض المدنيين الأبرياء للموت والتهجير، قد لا تفضي الى نتيجة: كيف تُذلل المشكلات السياسية المعيقة للعمل العسكري؟ كيف يتم الانتقال من الطور الجوي الى الطور البري؟ ماذا عن الرأي العام الأميركي اذا وقع قتلى أميركان؟ يقال هذا وفي البال ان الارهابيين يختبئون بالسكان، فيما هناك سابقتان غير مشجعتين: أميركا في فيتنام، وروسيا السوفياتية في أفغانستان نفسها. يقال هذا وفي البال أيضاً بؤر توتر قد تشتعل: الشرق الأوسط. كشمير. بل نيجيريا. فالنزاعات الصغرى، رغم كل محاولات ضبطها، قد تجد فرصتها في النزاع الكبير المفتوح. وقد تتصاعد الروائح العفنة للخلافات الدينية والطائفية في بقاع شتى. لكن العالم لا تحكمه الملائكة بل مصالح البشر، والبشر هنا سياسيون مشدودون الى رأي عام ومطالب يمكن في احيان ان تصير غرائز. لهذا تصبح البشاعة التي اسمها الحرب تحصيل حاصل، خصوصاً أن الجمهوريين الأميركان غير معروفين بالمسالمة. وهم، هنا، خير من يجيب عن هواجس شعبهم: فأميركا، منذ حرب فيتنام لم يسقط لها هذا العدد من القتلى، وكلهم هذه المرة مدنيون. واميركا انتصرت على الاتحاد السوفياتي من دون ان يسقط لها قتيل. وأخيراً، فمنذ هيروشيما لم يقض بضربة واحدة ستة آلاف شخص. احتمال الحرب كان ليخففه اقدام سلطة الطالبان على تسليم اسامة بن لادن وجماعته. وهذه مصلحة أفغانستان أولاً لو قُيّض للمصلحة أن تحكم. ما حصل هو التحام الطرفين وتماهيهما. إذن: الحرب على بن لادن صارت تلقائياً حرباً على السلطة الافغانية. هذا مجرد مَثَل على حقيقة أعمق: اننا، في العالم الاسلامي، لا نبادر بأنفسنا الى قطع الطريق على الحرب "علينا". لا نستطيع تطوير موقف شعبي يرفض الاستبداد والعنف ويطرح بدائل ديموقراطية وعصرية: الثورة الشعبية الوحيدة هي التي اسقطت الشاه. لكنها أحلّت محله الخميني. صدام حسين لم يستطع شعبه، رغم كل تضحياته، اسقاطه. واذا سقط، فما من صورة مضمونة عن عراق ديموقراطي موحد. المعارضات الكثيرة لأنظمة عسكرية أو أوتوقراطية، والموزعة هنا وهناك، إما أصولية أو اثنية ومذهبية تأخذ بلادها الى الاحتراب الاهلي والتفتيت. بالتأكيد بين أسباب العجز أننا نرى الى أنفسنا موحدين حيال الخارج أكثر بكثير مما نرانا منشقين في الداخل، حتى لو كنا نتعفّن انشقاقاً. أي: تستوقفنا الحرب الاميركية على العراق اكثر بكثير مما تستوقفنا حرب صدام على الكويت. كذلك تفعل الحرب الاميركية على افغانستان اكثر مما تفعل حرب الطالبان على الشعب الافغاني. لهذا فالمسألة أعقد من ثنائية: مع الحرب أو ضدها. ضد الحرب، نعم. لكن ماذا بعد؟ تُترك افغانستان لملا عمر، ويُترك بن لادن حراً طليقاً؟ ولما كانت الحرب الأميركية لا تحل شيئاً، بل تسبب قلقاً مشروعاً حيال تنامي القوة الامبراطورية، بتنا أمام المأزق الكبير لمنطقة منكوبة بثقافتها ونُخبها: لا الحرب، في جانب، تغيّر. ولا المسؤولية، في جانب آخر، تستيقظ. هكذا نستمر: أعلى درجات انتصاراتنا ان "نحرر" افغانستان من اميركا، وكان في الوسع ان لا تأتي اميركا أصلاً الى افغانستان. طبعاً يسهّل الأمر أن يعاملنا العالم بعدالة أكبر. الا أن الموضوع لا ينتهي هنا: فدرجة الاختلاف بين المعاني التي نأخذ بها والمعاني التي يأخذ بها العالم أضخم من أن تحلّها المعاملة العادلة. فنحن، تقريباً، مختلفون على تعريف كل شيء: من القيم الى الارهاب. من الانتصار الى الهزيمة. من أنور السادات المكروه لاستعادته أرض مصر الى جمال عبد الناصر المحبوب لتفريطه بأرض مصر. من افتراض ان لبنان استعاد ارضه وعليه ان يباشر البناء الى افتراض ان الأرض ذريعة للقضية. من الرغبة في المساومة لتذليل القضايا الى التشدد في القضايا لعدم المساومة. وهكذا يبقى أن نغني: "يا أهلاً بالمعارك" التي يلوح المأزق التاريخي "ضوءاً" وحيداً في آخر نفقها.