احتفت العاصمة الألمانية في مهرجانها الثقافي بالذكرى الثلاثين لوفاة مهندسها المعروف غروبيوس. دعي الخطاط والمصمّم المعروف منير الشعراني للمشاركة في المهرجان فعرض عشر لوحات خطيّة ملونة بالغواش على الورق، منها ثلاث لوحات اختصت بنصوص ملحمة "جلجامش"، وكان حقّقها بنفسه ابتداء من ترجمة أحمد باقر، ولوحتان من أشعار وليد خزندار. يعتبر الشعراني من فرسان الخط العربي المعاصرين القلائل الذين يعنون بتجديد طرزه، من دون ان يفقد خصائص تراكماته الكرافيكية. هو من مواليد السلمية 1952 سورية. درس التصميم في كلية فنون دمشق بإشراف الخطاطين عبدالقادر أرناؤوط وحلمي حباب، ولكن تحصيله المبكر كان على كبير خطاطي الشام بدوي الديراني. استقر في مصر منذ 1985، محققاً خلال هذه المدة الكراسات والكتب والمعارض والدراسات والطباعات. هنا حوار معه: تعتبر نفسك خطاطاً أم فنانا؟ - اعتبر الخط طريقة في التعبير عن الفن التشكيلي مثل غيره. فالخط إذاً وسيلة تعبير ابداعية، غير وظيفية بدليل غلبة الهاجس الموسيقي في تشكيلاتك؟ - العلاقة بين الخط والموسيقى الشرقية وردت في الأساس من الشعر حتى أننا نعثر على خطاطين معروفين في مجال الموسيقى على غرار صفي الدين عبدالمؤمن الأرموي صاحب كتاب عن الموسيقى. كما وأن العديد منهم شعراء. ألا تجد أن الاستغراق لديك في موسيقية الشكل توقيعه وتنفيحه يقودك الى التطرف الهندسي، ويفقد بالتالي العمل الفني شيئاً من تلقائيته، أو بالأحرى "شطحاته" المشروعة التي تعتمد على خيانة القواعد؟ - يختلف "الطابع الكرافيكي" في الخط عن الأداء العفوي في اللوحة أو المنحوتة، فهو يحتاج الى قرار حاسم مساحي وخطّي، لا يقبل التردد، مثله مثل المساحة الهندسية، لذلك فأنا أنجز دراسات تمهيدية حرة قبل التنفيذ. هل يعني هذا أنك محدود الحرية خلال فترة التنفيذ؟ أي فترة الصقل الموسيقي؟ والأدائي؟ - لا تستطيع أن توقعني في فخ نفي أهمية "المضمون". هل أنت جاد في هذه الدعوى؟ تجد أن المضمون أساسي؟ أنا لم أحس أبداً بذلك، خصوصاً وأن جملك ومأثوراتك على ما أوحت به اخترتها من ذخائر الحكمة العربية الشعرية أو الصوفية. - ولكن اختيارها كان قصدياً، أتوخى ان تكون مادة حكمته شمولية تصلح لكل زمان ومكان. بالعكس إن استغراقك في تشكيلية اللوحة الخطية يُنسيك مضمونها، فتزداد القراءة صعوبة حتى تكاد تصبح مستحيلة، خصوصاً في صيغ الكوفي الشطرنجي، وبدليل أنك تكتب الجملة الأصلية بجانبها كشرح. - تحتاج اللوحة الخطية مثل اللوحة الزيتية الى تأمل، فهي لم تُنجز للكسل العام وانما هي مجال بحث، ذكرت لك أني أتأنّى في اختيار العبارة حيث استغل شيوعها لأعبر عن أفكاري، وأكثر من ذلك اختار لها الخط والتشكيل والتعبير المناسب، لدرجة أني أحاول الحفاظ على دلالتها في الأداء، تذكر عبارة "يا مفتح الأبواب أفتح لنا خير الباب" كيف أنجزت مجموعة الخطوط الكوفيّة الهندسية ضمن بوابة مشرقية، واذا ما رجعت الى عبارة: "حبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل" عولجت بالخط النيسابوري اللين والمتراقص مثل ساحتها، ثم اختيرت الألوان على هذا الأساس خريفية شاحبة وأخرى خضراء الخ. وهل تتصوّر أن المتفرج يُمسك بتلابيب مثل هذه التوريات العامة؟ - نعم وحتى الذي لا يعرف العربية، هناك سيدة أجنبية اكتشفت في طريقة أداء "كل حال يزول" شعلة نار، وكان كافياً لفهم المعنى. أنا لا أجده كافياً وأرى بعض لوحاتك باطني المعنى. - ولم لا؟ حسناً، إتفقنا أن نتوقف عندما لا نتفق، ما هي الخطوط التي تعتقد أنّك طورتها بشكل صريح على رغم عدم المساسل بخصائص تشريحها الهندسي؟ - الكثير من أنواع الكوفي ابتداءً من الشطرنجي المربع وانتهاء بالمغربي القيرواني مروراً بالمشرقي، تم هناك السنبلي وهو عثماني متأخر اضافة الى النيسابوري، وبعض التوليفات، امتحنت واستثمرت الطرز والأقلام ولكن ضمن اخراج وتأليف وعلاقات جديدة بين الكتلة والفراغ. ولكن لماذا لا تحدد اختياراتك من هذه الطرز. ألا توحي هذه الكثرة بدرجة من التشتت الكرافيكي، خصوصاً وأنك تقطع أشواطاً بعيدة في التطوير تتفوق في تسارعها على الإيقاع الذي كان يجري في تاريخ الخط على نار هادئة؟ - لا يوجد خطّاط مهم لم يحاول ايجاد طراز خاص به، وهذا هو الفارق غير المفهوم بين الخطاط والناسخ. كل خطاط يميل بذوقه وفطرته الى جملة طرز يعالجها أكثر من غيرها وهذا شأني. لا أتفق معك على أن التجديد مرتبط بالنساخين، والتجديد بالخطاطين، فرهافة التجويد تقود الى التجديد بنوع من دالة العارف على المادة التي يطوعها بالمران، بل ان هذه النظرة المركزية للمبدع أجدها غربية، ليس هناك أي فارق طبقي بين الاثنين، ولا بين هؤلاء وبقية معلمي الصناعة الوراقين والمجلدين والمذهبين، تحالفات متداخلة متواضعة يتعففون غالباً عن ذكر الأسماء في التواقيع. في هذه النقطة الحساسة بالذات أجد ان منهج التجديد والتعبير لديك يحمل المنهج المركزي للفن الغربي، وحتى بالإمكان ترجمته كحساسية غير جماعية في شخصية العمل الفني نفسه. - حتى لا تسترسل أكثر أحب أن أقول ان حساسية التصميم المعاصر مختلفة عن حياكة معلمي الخط للفراغ والكتلة. علينا بالاختيار وإلا وقعنا في سجن ومصنفات ذاكرتنا الخطية. تبدو لي الحداثة غالباً فاقدة لأي معنى، طالما أنها شهادة تلقائية مندمجة في خصائص الزمان والمكان، فمنطق الحداثة في الخط يتفرع عنه الرجعية. والإبداع لا يقوم على هذه التنسيق الآلي بسبب قدرته على التراكم. - ولكن مواد العصر وشروطه أربكت الخطاطين، الحروف الآلية الطباعية التي طردت تخطيطاتهم من عناوين الصحف، ثم البرمجة المعلوماتية وسواها. ولكنّك تنسى أن الطابعة الآلية مثلها مثل التعبير الرقمي في المعلوماتية تمثل اندحاراً للفن وانتعاشاً لشتى الإبداعات بما فيها الموسيقى. ماذا يبقى للفن التشكيلي إذا فقد اللمس المباشر مع مواد اللوحة والطبيعة والعالم؟ ما يدفع جهاز الحدس والذاكرة للعمل بخصوبة ابداعية كبيرة؟ الآلة تخصي هذه العملية سواء سميتها حداثة أم تقدمية. وحتى لا يتوه القارئ، هل تساوي بين التيارات الاستهلاكية في اللوحات الخطية على غرار بطاقات المسعودي ولوحاتك الخطية؟ لمجرد ان الأولى منجزة بطباعة راقية؟ ومنتشرة في كل مكان في باريس؟ - من غير المنطقي، فأمثال هؤلاء لا يعرفون الحرف، وبعضهم يخلط بين الكتابة والتخطيط، فالحرف يحمل تراكماً كرافيكياً جمالياً يمّيزه عن الكتابة المزاجية. نوهت أنت نفسك قبل قليل بالصفة الجماعية أي القدرة على التوريث، إن ما يشفع لبعض الحروفيين أنه لا يدعي هذه المعرفة، وانما يصف هيئة الحرف بما يناسب طرق تعبيره وأساليبه التجريدية. ولكن هناك تجارب حروفية جادة، أحدهم وهو الزندرودي يتفق معك حول موسيقية التأليف، وهناك كتابيون أصيلون مثل محجوب، ناهيك عن جديّة المؤسسين والرواد خصوصاً في العراق. يتفق هؤلاء معك في تشكيلية الخط. - هؤلاء أثبتوا بأصالة بأننا بحاجة في الخط الى مجدّدين وليس الى مجوّدين، أقصد دفع الخط في سياق تطوره الطبيعي، طبعاً لا أتحدث عن الاستهلاكيين وما أكثرهم. سأغيّر من دفة المشكلة باتجاه مسألة بالغة الحساسية. ألا ترى أن دعاة القومية العربية اقتصروا على الخطاب العاطفي بدلاً من أن يتوجهوا الى حماية اللغة والكتابة القومية، وذلك عن طريق البحوث المقارنة كما فعل العبرانيون خلال قرن؟ ما زلنا في مرحلة البحث عن أصل الكتابة العربية من دون جدوى أو جواب. - هناك الكثير من الدراسات المقارنة بين خطوط الجنوب المسند وخطوط الشمال الجزم. أنا نفسي كتبت أكثر من دراسة عن أصل الخطوط، واحدة منها في الموسوعة العربية العالمية. ليست كثيرة، وانما عامة ابتدأها شاكر حسن وانتهت بأسامة النقشبندي مروراً بمحمد علي مادون، وبعض الأطروحات الجامعية في المملكة العربية السعودية، ومهما تذكرنا من أسماء فموضوع بهذه الخطورة يحتاج الى مراكز بحوث للمقارنة الأبجدية بمعزل عن نجاحات واخفاقات المستشرقين. - لا شك أن الارتباك حول أصل الكتابة العربية يبدأ من الاخباريين العرب كابن خلدون والقلقشندي وابن حيان وسواهم. فبعضهم يتحدث عن العلاقة مع الجنوب أي مع الخط المسند وكيف انتقل الى الحيرة والأنبار ثم دارت به الدوائر الى الحجاز ونجد. شهدنا في باريس أخيراً عدداً من المعارض حول أصول الأبجديات، وفي كل مرة كان يناب غصن الكتابة العربية ضمن الشجرة السامية اللغوية تهميشاً متعسفاً. آخر هذه المعارض كان في مكتبة ميتران، واعتبر بداية الكتابة العربية في القرن السادس الميلادي أي قبل عدة سنوات من هبوط الوحي، متجاوزاً ما اتفقت عليه مصالح المستشرقين منذ سنوات حول الوصول بأصل اللغة العربية الى نقش أم الجمال الأول 240 ه وأنه مستخرج من النبطي الذي ترجع بدايته حتى نهاية القرن الثاني ق م. - صحيح، هناك تناحرات ومنازعات حول أصل الكتابة العربية. ولكنها منازعات تقع في ساحة ومختبرات المستشرقين. - للأسف نعم. ولكني لا اعتمدها في رأيي، فأنا أميل الى الاعتقاد أن تطوّر الخط العربي تم بشكل معقّد ومديد، واذا مرّ من النبطي فهذا لا يعني أن النبطي لا علاقة له بالجنوبي الحميري كانت القبائل اليمنية موجودة في مساحة الأنباط، كذلك فإن القرابة مع الخط الحضري والتدمري والسرياني أكيدة من خلال الأصل الآرامي أما السينائي فهو مزيح من الكتابة الفرعونية مع الآرامية التي حملها أهالي بلاد الشام الى معامل الفيروز وغيرها في مصر حيث كانوا يعملون. على كل حال، معك حق، يجب توسيع مجالات البحث المقارن بين الأبجديات التي قادت الى الكتابة العربية منذ رأس شمرا، ابتداءً من المسماري والكنعاني الفينيقي، وهذا بالطبع يحتاج الى جيش من المختصين، ونحن نملك جيوشاً كما تعرف لأمور أخرى. قلت له خاتماً الحديث: "الألف خطوة تبدأ بالخطوة الأولى".