نقل الخطاط السوري منير الشعراني (1952) سمات الخط العربي من محدودية الموروث الجمالي إلى الحداثة والمعاصرة، وطوّع الحروف لتتناسب مع الشكل الذي يدور حوله المعنى. في الجُمَل المرسومة تشكيلياً، وفي لوحته المشكلة وفق الخط الكوفي النيسابوري، يرسم حروف بيت قيس بن الملوح (مجنون ليلى): «تكاد يدي تندى إذا ما لمستها/ وينبت في أطرافها الورق الخضر»، معدلاً الكلمة الأخيرة «النضر» في البيت، لتصبح «الخضر»، إنما تتعالى حروف الكلمات مع المعنى، برشاقة وتداخل عمودي. والخط النيسابوري هو أحد خطين استكملهما الشعراني، بدءاً بأبسط تفاصيلهما وصولاً إلى بنائيتهما، ففي حين لم يصل من الخط النيسابوري إلا صفحتان، وبعض الحروف المتفرقة، تُوثق شكل حروفيته. فقد عمل الخطاط السوري على إنشاء بنية حروفية كاملة من هذه الخامة، مضيفاً ما نقص من الحروف، ومشكلاً برؤية معاصرة تدامج الحروف بصرياً، وهكذا أيضاً فعل مع الخط المغربي، الذي كان يُؤدى رسمه بشكل مُرسَل، إذ تختلف أشكاله بين رسم خطاط وخطاط آخر، حيث استخدم في نَسْخ الكتب في المغرب العربي والأندلس، وتسنى لهذا التطوير أن يتم من خلال دراسة مقارنة قام بها الشعراني، وصولاً إلى السمات الجمالية الجامعة لهذا الخط، كما صمم منه خطاً جديداً يرتكز على هذه السمات، لكنَّه خط هندسي، غير مرسل، يقوم على العلاقة بين التدوير والاستقامة، كما في لوحته المجتزأة كلماتها من بيت المتنبي: «وذر الذّل ولو كان في جنان الخلود». ويُعد الخطان المغربي والكوفي، من الخطوط التي غيبها العثمانيون على مدى خمسة قرون، لتسييد أنواع الخطوط العربية الستة المعروفة، فعدوها مع أشياعها القمة المقدسة التي يُحرّم تجاوزها. تتلمذ الشعراني على يد كبير خطاطي الشام، بدوي الديراني (1894- 1967)، وهو يطلق في معرضه في غاليري (Art on 56th) في بيروت، عنان الحروف لتتمرد على أشكالها التقليدية، في نحو أربعين لوحة، يضعها بعيداً عن الكُتَل الجامدة المغلقة، فاتحاً حدود الحروف على مساحة الفراغ البيضاء أو السوداء في اللوحة، كما في نموذج الخط الكوفي المربع، فيشكله من جديد، محرراً إياه أيضاً من التماثل في الحجم، بين الكتلة والفراغ حول الحرف، أي أن سماكة الحرف، تزداد أو تنقص دون ضابط. وكذلك نقّط الكلمات بدوائر بدلاً من المربعات، ونرى هذا في لوحته: «نعم للديمقراطية؛ سورية» وفيها تُؤثث الكتل المكونة لكلمة سورية، محتويةً كلمات دالةً على الطوائف والمرجعيات الفكرية والدينية والسياسية من بنية المجتمع السوري، وتستحيل الكتلة العامة خراباً لا معنى له، في حال أزيل أحد المربعات؛ كما يستخدم الشعراني مادة «الغواش» على الورق في كل اللوحات، وأحياناً يضع طبقة من الإكريليك، تغطي مساحة الفراغ (السوداء أو البيضاء) في لوحات عدة. جمالية الخط ينجز الشعراني لوحته الخطّية من دون أي اعتماد على الفنون الأخرى، مستمداً جمالياتها من الأسس الجمالية الرصينة وحسب، محترماً الخصائص الجمالية الجوهرية للخط العربي، ومستعيداً الخطوط القديمة جداً، كما في نموذج الخط الكوفي المشرقيّ في لوحة «فيوم علينا ويوم لنا/ ويوم نُساء ويوم نُسر»، فيظهر حرف الواو، متكتلاً في الجزء الأيمن من اللوحة، ويضع الشعراني كتلة الخطوط في شكل هندسي خماسي، أقرب إلى الهرمي، كما يجمع الكتل الحروفية المسننة في الجانب الآخر، ويطلق حروف الألف الثلاثة خارج الشكل، كما لو أنها أعمدة للرايات الغائبة. يعود الشعراني في معرضه إلى مرجعية دينية أيضاً، فيأخذ جُمَلاً من الكتابين السماويين القرآن والإنجيل، ومنها من القرآن الآية: «ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى»، أو قول: «من ثمارهم تعرفونهم» المأخوذ من الإنجيل، كما يستعيد التراث الشعري العربي، كما في شطر البيت: «أرى العَيْشَ كَنْزاً ناقصاً كُلَّ ليلةٍ»، من معلقة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، ورسم الشعراني اللوحة بالخط الكوفي النيسابوري، وفيها تتطاول حروف الألف، بينما تأخذ نتوءات الحروف ونهاياتها، شكلاً بيضوياً أشبه بورق الشجر. لوحات صوفية درس الشعراني (متخرج في قسم التصميم الغرافيكي، في كلية الفنون الجميلة - جامعة دمشق، عام 1977) خصائص كل نوع من أنواع الخطوط التي رسم بها لوحاته، وعدل في نسبها معيداً صياغتها بنائياً وتركيبياً بمنطق حداثي. واختار أنواعاً تقليدية من الخطوط العربية من أجل العمل عليها، كما في خطوط: «جلي الثلث، والنستعليق، والديواني»، خارجاً عن رتم التفاصيل والتراكيب الموروثة من أزمنة سابقة؛ ومستكملاً حروف الخط السنبلي، الذي لم تتوافر منه، موثقةً، إلا حروفه المفردة، فأنتج منه لوحات خطية حديثة، منها لوحة «كأنني منذ غبت عني غائب»، ويبدو أن الناتج الفني من هذا الخط ممتد في حروفه، ومتناسق في توزيع المسافات بين الحرف والآخر. لقد اكتشف الشعراني من خلال بحثه في المراجع والمصادر والكتب وآلاف الصور للآثار الخطية الباقية على العمائر والمقابر من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، كما في تجلياته الإبداعية على الخامات المختلفة، في متاحف العالم، اكتشف طريقَه إلى الخط العربي المعاصر؛ والحقيقة أن أهمية العمل الحداثي على الحروف يرتبط بالمعاني الروحية العالية، التي توحي بها الجمل المختارة في هذا المعرض المعنون ب «لوحات خطية»، وفي ال»لا..» التي تعدد ما هو مرفوض من القتل والعنف، ومما أخذ من الشعر الحديث أيضاً، كما في قول الشاعر محمود درويش: «في الشام مرآة روحي»، أو حتى في عبارة البسملة. إن صوفية الحرف في أعمال الشعراني، تتوسع مع كل استدارة وانحناءة وتطاول، كما لو أن المعنى يمتد إلى المساحة الفارغة من أي حرف أو معنًى دخيل، هناك حيث الصفاء الكلي، يجذب الحروف ويُبعدها عنه، لتأخذ معناها المتتالي مع رسمها الحروفي المتداخل والموصول في الخطوط العربية.