شهد مهرجان لوكارنو، قبل نحو أسبوعين من بدء عرض فيلم نيكيتا ميخالكوف "حلاق سيبيريا" في بيروت تظاهرة سينمائية روسية هي الاكبر من نوعها الى اليوم، اذ عُرض 50 فيلماً سوفياتياً أقدمها يعود الى السينما الصامتة، كان معظمها تعرض للمنع الرقابي في شكل او آخر، وهو منع كان تفاوت بين عدم الموافقة على العرض اساساً، وسحب الفيلم من العروض بعد مراجعة مفكرته السياسية، الى تلك التي عرضت على نحو محدود جداً كما لو ان الغاية حينها كانت صرف الناس عن الفن الذي اعتبره لينين "السلاح الأقوى"، لا استقطابهم اليه. وضمن هذه المجموعة الكبيرة عدد قليل من تلك التي مالقت السلطة فاعتبرت نموذجية وبذلك تسلقت الجانب الآخر من جدار الرقابة فحظيت بموافقتها المطلقة وبرضى الدولة السوفياتية عن رسالتها. وكان معهد الفيلم الوطني في لندن شهد تظاهرة اقتصرت على الافلام الرافضة والممنوعة، قبل نحو عشر سنوات ثم ان "القناة 4" البريطانية عرضت بضعة افلام من هذه المجموعة مباشرة بعد التظاهرة المذكورة. وكلاهما فتح العين على سينما نادرة الجمال امتدت اليها يد المنع على نحو لا يحمل احياناً تفسيراً اليوم، كما حدث مثلاً مع فيلم الراحلة لاريسا بيتكو "بلد الكهرباء" الذي صور عام 1967 وقبع في العلب حتى بعد رحيلها عام 1979 بثماني سنوات. المخرجة نفسها التي عرفت عنها شجاعتها في الموقف، عادت والتحمت مع الرقابة - فعلاً هذه المرة - عندما انجزت واحداً من افضل افلام السينما السوفياتية في السبعينات، "الصعود" 1977. وقد تعاملت فيه مع الموقف الذي يتعرض له جندي روسي خلال الحرب العالمية الثانية بعدما قبض الألمان عليه. انه يريد البقاء حياً والطريقة الوحيدة لذلك خيانة وطنه. رفض المخرجة اتخاذ موقف مضاد لبطلها ذاك دفع الى منع عرض الفيلم في البلاد، ولو ان نسخة منه تسللت الى مهرجان برلين عام 1978 وخرجت بجائزة الدب الذهبي عن جدارة. نماذج سوفياتية لكن التظاهرة الجديدة تفوق اي مثيل لها من حيث الحجم والاقبال، خصوصاً انها عرضت في محفل دولي يستقطب الباحثين عن سينمات جديدة شابة في المسابقة، وعن مفاجآت من التاريخ، شأن هذه التظاهرة خارجها. ثمة افلام في هذه التظاهرة لم تكن تناقض النظام الشيوعي، لكنها لم تكن تتحدث ايضاً بلغته عندما تتناول الشخصيات العاملة. منها "تسوية العمال" لفلاديمير نيغيروف الذي يدور على عمال مصنع صلب وأحلامهم وكفاحهم اليومي لا مع الوضع فقط بل مع احلام مشروعة لا تنتمي، بالضرورة، الى تلك المشروعة من جانب الدولة. يلامس الفيلم مواضيع شائكة اخرى مثل الدين وهو امر كان ممنوعاً ومن اجله ارسلت افلام اوكرانية وجيورجية واذربيجانية وارمنية كثيرة الى الرفوف. في "الفتى الطيب" لوازم الميلودراما تعدد الدراميات من الكوميديا الى الغنائيات الى الدراما الجادة الخ... في قصة تقع احداثها على خط المواجهة الامامي خلال الهجوم النازي. الفيلم من اخراج بوريس بارنت وشهد عروضاً كثيرة خلال الحرب، ولكن - ولسبب غير معلوم حتى الآن - ادخل قائمة المحظورات بعدها. أيكون السبب قصة حب تجمع بين روسية وفرنسي؟ في "مطر تموز" لمارلن خوتسييف 1967 قصة عاطفية ذات وجه انساني: ادراك امرأة ان قصة حبها للبروفسور الممتدة سنوات لم تؤت ثمارها. الرمز واضح هنا، اذا ما مثلت المرأة الوطن، ومثل البروفسور النظام. وفي "العقدة المشدودة" لميخائيل شفيستر 1957 عقد المخرج مقارنة خطيرة الشأن بين المواطنين العاديين الطيبين والشيوعيين في السلطات المحلية الساعين الى القوة والنفوذ. نتيجة ذلك حذفت المشاهد المشيرة الى مثل هذه المواجهة، واجبر المخرج على إعادة تصوير مشاهد اخرى، ثم خرج الفيلم تحت عنوان "ساشا يدخل الحياة". هذه الافلام وغيرها شاهد اليوم على ان حكم الدولة ذات المبادئ النظامية الصارمة، لم يستطع منع السينما السوفياتية وسينمائييها من محاولات تتدرج من التسريب الى التصدي تبعاً لتحقيق الرغبة في التعبير الحر. ومع ان الرقابة هي في الاساس واحدة، الا ان المراحل المتعاقبة من حكم ستالين الى الحقبة الليبرالية من حكم غورباتشوف مروراً بتلك المتشددة لخروتشيف، كانت تختلف في ما تريد ان تجيز او تمنع، ولفهم الاسباب التي حدت بالرقابة الى منع بعض الافلام التي تبدو اليوم عادية، على المرء العودة الى المرحلة التي انتجت فيها. بعد الثورة الشيوعية كانت العين مفتوحة على اي سينما تحن الى الماضي غير البعيد، وبعد الحرب كان مطلوباً، بأمر ستالين، تقديم سينما قائمة على المثل الشيوعية والخطابية المثيرة للمشاعر المويدة. وفي النصف الثاني من الستينات وحتى نهاية السبعينات، المرحلة التي انتج فيها افضل الافلام المشاغبة، كان الوضع الداخلي دقيقاً في مراحله وخطوطه المحلية والدولية ويتطلب مرونة حيناً وتشدداً حيناً آخر، ما انعكس على كثير من الافلام سمح باخراجها، وحتى بعروضها التجارية، ثم سحبت سريعاً. انفتاح غير محسوم ولكن على الاقل كانت هناك سينما مهمة سواء مشاغبة ام لا. كنا نرى اعمالاً لكثر من المخرجين الروس المبهرين امثال يوري اوزيروف وغريغوري كوزنتسيف وألكسندر أسكولدوف وعلي خمارييف من اوزباكستان وسيرغي باغانوف وغيورغي دانييلا وغريغوري شنغالايا ويولي رايتزمان وشوبتكو وغيرهم. وكانت هناك بالطبع سينما الاصول الملحمية الكبيرة والرائعة التي عبر عنها سيرغي بوندراتشوك، والسينما الفنية الاكثر إبداعاً وتحرراً التي جسدها اندريه تاركوفسكي. الانتقال من الحكم الشيوعي الى الحكم الليبرالي الكامل اليوم لم يحل المشكلات التي اعتقد ان الانفتاح وتغيير النظام كفيل بها. كذلك فجر، في ما فجر، نزاعات وحروباً خصوصاً في الدول القوقازية والبلقانية، سواء تلك التي كانت تحت نظام الحكم السوفياتي، او تحت مظلة النظام الشيوعي. ومن المهم ملاحظة ان هذا الانفتاح لم يحسم لمصلحة السينما المناضلة في سبيل حرية التعبير ولا لباقي انواع الثقافة اذ ان وضع الكتاب ليس افضل. صحيح ان في الامكان تحقيق اي فيلم يخطر على البال، ولكن بال المنتج والموزع اللذين يبغيان الترفيه، والمخرج الذي ليس لديه مانع في تقديم ما يرضيهما، لا بال المخرج الذي يريد تقديم رسالة فنية او ضمنية من وراء عمله في هذا الحقل. هذا ما يقف وراء انحسار السينما الجيدة وقلة انتاجها من ناحية، ومحاولة مخرجين عرفوا بالاجادة سابقاً التخفيف من وطأة العمل وشروطها، بمحاولة دمج الرسالة على جانبيها الشكلي والضمني في سياق مسل، وسينما هي في افضل حالاتها اقتباس من معالجات ديفيد لين "د. زيفاغو" و"لورنس العرب" من حيث قدرتها على التسلية والاثارة الفنية الجيدة في الوقت نفسه. فيلم نيكيتا ميخالكوف "حلاق سيبيريا" الذي تأخر وصوله الى بيروت أكثر من عام بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان "كان" الماضي هو نموذج لما يبدو تقدماً، من وجهة نظر المخرج والسينما الروسية، لكنه في الحقيقة تراجعاً من وجهة نظر نقاد السينما، وبينهم معجبون سابقون بسينما ميخالكوف. ما حاوله ميخالكوف هنا توسيع دائرة شهرته بالاقدام على نوعية افلام تتراءى لعدد كبير من المخرجين المختلفين عن السائد. افلام كبيرة الانتاج ومتعددة الطروحات نجح في خوض غمارها بعض السينمائيين الكبار، منهم ديفيد لين في "لورنس العرب" و"دكتور زيفاغو" وسواهما، وسيرغي بوندارتشوك في "الحرب والسلم" و"واترلو" و"الدانوب يجري بطيئاً"، لكن آخرين كانوا اقل نجاحاً بعد حين من الاقدام عليه مثل محمد لخضر حامينا في "ذكريات سنوات الجمر" او يوسف شاهين في "المصير" و"الآخر". كلاهما - مثل ميخالكوف - ضمن الفيلم حسنات، لكنها لم تكن كافية لتأكيد منهج فني متكامل ويلتقي مع منهج المخرج نفسه في افلامه السابقة. حلاق ميخالكوف مثل كثر قبله، فإن محاولة ميخالكوف فاشلة على نطاق السينما الانتاجية الكبيرة لأنها اساساً لم تنجح في تحديد مبرر لها. قصة الضابط العاشق الذي يضحي بمستقبله في سبيل من يحب وينعزل في سيبيريا امعاناً في الحفاظ على كرامة امرأته، تبدو مفتعلة في اكثر من فاصل ومحور، وشديدة في سبر اغوار كثيرة لمجرد ان هذه الاغوار ستمنح الفيلم مشهداً فوق الثلوج هنا ووسط الغابات هناك، ومعتقة بروائح التاريخ والزمن في كل الاحيان. وفي سبيل ذلك، لم لا يستعير ميخالكوف من سينما لين ومن تصرفات هوليوود في حياكة مثل هذه الافلام؟ يستعير في الوقت الذي ينتقد غزو الآلة الاميركية للبيئة الروسية، كما لو انه ينفي ما يقول ما يجعل من العبث قبول موقف الفيلم "الصارم" حيال ذلك الغزو. وعلى خلاف تام منه، انجز ألكسندر زوكوروف، في العام نفسه، فيلماً مناقضاً في بنيته الفنية واهتمامه: الساعات الطويلة والرتيبة وايضاً الحافلة بحياة هتلر ومجموعة من اتباعه المقربين بينهم ايفا براون التي هي محور ما يمكن تسميته مجازاً بالأحداث، وجوزف غوبلز رئىس جهازه الاعلامي خلال استراحتهم في منتجعه الجبلي في جبال الألب البافارية، خلال الشهور الاخيرة من الحرب الدامية. انه "مولوك" الذي عرض في "كان" في سنة عرض فيلم "حلاق سيبيريا" نفسها. الرتابة الجميلة زوكوروف قد لا يكون اندريه تاركوفسكي العظيم الذي توفي عام 1986، لكنه ثابت، الى الآن، في معقل خصوصياته الفنية. يرفض الانصهار في بوتقة السائد ويصمم على المحافظة على طابعه الخاص حتى على اعصاب الفئات الاخرى التي ترفض مشاهدة مثل افلامه الفنية الخاصة. اسلوبه قائم على حياكة بيضاء - سوداء حتى لو كان الفيلم مصوراً بالألوان لعالم خال من البهجة. في مشهد من "مولوك" نرى هتلر وجماعته يقضون وقتاً ممتعاً وسط الطبيعة. جبال محيطة، اشجار شتاء متفرقة، ثلوج وشمس تطل من وراء الضباب... ولكن لا شيء جميلاً في قاموس زوكوروف، الا انه ليس بشعاً ايضاً، بل انه ذو رسالة او ترجمة خاصة لما هو جميل وما هو رتيب وبائس. وفي فيلمه الاسبق "أم وصبي" 1997 نرى اماً كبيرة وابنها الشاب يمضيان وقتاً نادراً على شاطئ نهر جار. قد ترمز الى الوطن وقد يرمز هو الى ابن ذلك الوطن، وكلاهما يموت. هي تموت ارضاً وتراثاً وهو يموت حزناً لا عجب فالمنظر لا يوحي لزوكوروف اي جمال. في كلا الفيلمين كان يمكن مخرجاً آخر توظيف الطبيعة لخدمة تتجير الفن جعله أكثر تجارية ولكن ليس زوكوروف. وهذا العام، خرجت السينما الروسية بفيلم من المفترض، ما دام اختير للاشتراك في مسابقة "كان"، ان يكون افضل، او من افضل ما تم تحقيقه هناك. الفيلم هو "العرس" لبافل لونجوين الذي كان ولد سينمائىاً عام 1990 بفيلم مثير للاهتمام بعنوان "تاكسي بلوز" ومن حينها وهو يبدو كمن لا يزال يبحث عن الخاص به. فهو تحرك تحت اكثر من اسلوب وغطاء وصولاً الى ذلك الذي نجده في "العرس". فيلم عن يوم حفلة زفاف من صبيحة ذلك اليوم والاستعدادات لاقامته وانتهاء بما يتبعه عندما يجد بطل الفيل نفسه موضع تصارع رغبات: العشيق السابق لعروسه، الوافد من المدينة الى الريف خصيصاً لاستعادة المرأة التي يريد ان يمتلك، يرغب في قتله، ورئىس البوليس المحلي يريد زجه ليثبت انه حريص على القانون، لعل ذلك كفيل بنقله من البلدة الصغيرة التي تقع فيها الاحداث الى المدينة الكبيرة. كل شيء ولا شيء يدور في نحو ساعتين متكررتين تخرجان من ناصية سينمائي لا يبتعد في اسلوبه هنا عن ذلك الذي جعل اليوغوسلافي امير كوستاريتزا اسماً كبيراً في المحفل الدولي. لعل هذه النماذج الثلاث هي انعكاس مثالي لتيارات متنقاضة - وحائرة وقليل البلوغ - تخوضها السينما الروسية، التي كنا نطلق عليها اسم السوفياتية. ولعل تظاهرة لوكارنو القيّمة وضعت الامور في نصابها، عندما بيّنت ان الفن يولد تحت الظروف الضاغطة والحاجة الى التعبير وتبعاً لتوافر القضايا الفردية والاجتماعية الكبرى اكثر مما يولد تحت مظلة الانفتاح، ما دام انفتاحاً قسرياً اقصى طموحاته ان يرفض ما يقلده... لكنه يسعى الى تقليده على اي حال.