انهى المخرج نيكيتا ميخالكوف تصوير فيلمه "حلاق سيبيريا" الذي يبدو انه متوجه الى مهرجان "كان" بلا محالة. فهو انتاج فرنسي/ روسي لمخرج معروف جداً قدم على شاشة المهرجان نفسه "حرقة شمس" 1994 واخرج من قبل افلاماً مبهرة مثل "اورغا" و"مقطوعة غير منتهية على بيانو ميكانيكي" و"عينان سوداوان" وغيرها. وحضور ميخالكوف المتوقع الى الدورة ال 51 من المهرجان الدولي لن يتعارض مع كونه قد اصبح بدوره أباً لمهرجان آخر. فقبل اسابيع قليلة تم تعيينه رئيساً لمهرجان موسكو السينمائي الدولي. وهو يحاول حالياً اقناع الحكومة بأمرين: السماح للقطاع الخاص بتمويل المهرجان كلياً أو جزئياً، أي بنقله من ملكية الدولة الى ملكية المستثمرين الخاصين. وعدم اقامة دورة هذا العام لأن "الوقت متأخر والميزانية الحالية أصغر من ان تضمن مهرجاناً جيداً" حسب تصريحات ناطق باسمه. ويتراءى للمراقب ان مهرجان موسكو، الذي كان في السبعينات واحداً من أهم ثلاثة مهرجانات عالمية، ثم تراجع الى واحد من خارج العشرة الأهم في الثمانينات وحتى اليوم، ليس الوحيد المطلوب انقاذه. بل الصناعة السينمائية في روسيا بأكملها. وكلنا يعلم اليوم انه بعد انهيار النظام الشيوعي وتفكك أوصال الاتحاد السوفياتي وجد العديد من المثقفين والسينمائيين انفسهم في محنة شاقة فحواها ان الدولة ما عادت تؤمن، كما كان الوضع سابقاً، الغطاء المطلوب لانتاج وتمويل الافلام. باتت العملية خاصة تتدخل فيها عناصر كثيرة قد تصل الى حد هيمنة المافيا اذا ما أرادت غسل أموالها في مشاريع كهذه ووجدت لدى بعض المخرجين أو المنتجين الاستعداد لذلك. وما حدث لفيلم مجهول بعنوان "بهدوء يجري نهر الدون" يشكل نموذجاً لمشاق كثيرة تعرض لها مخرجو السينما الروسية ولا يزالون. في مهرجان "كان" العام 1992 أدعيت بأنني موزع سينمائي وتسللت الى عرض خاص لفصول من فيلم لم يكتمل لمجرد ان الاعلان ذكر انه من اخراج السينمائي سيرغي بوندارتشوك الذي كان واحداً من أهم وأكبر مخرجي النظام السابق ثم اختفى عملياً عن الساحة. تلك الفصول المصورة كانت من فيلم بعنوان "بهدوء يجري الدون"، ومن الاسماء التي كانت شركة التوزيع تحاول بيع الفيلم على ظهرها الممثل البريطاني روبرت ايفريت ذلك الذي ظهر في العام السابق مع جوليا روبرتس في "عرس أعز اصدقائي". كما يتوقع المرء من فيلم لبوندارتشوك الذي من بين اعماله السابقة افلام ضخمة مثل "الحرب والسلم" و"واترلو" و"حاربوا من اجل وطنهم"، كانت المشاهد الأولى من الفيلم آسرة، كبيرة وجميلة. وقد بلغت نحو 25 دقيقة التف بعدها فريق من المشترين المحتملين الفعليين حول مندوب الشركة الموزعة وبدأت المساومات وتبادل المواعيد داخل القاعة. اما أنا فخرجت منتشياً بما شاهدت ومنتظراً ان أرى الفيلم على شاشة المهرجان المقبل أو الذي يليه. مرت ثلاث سنوات ومات بوندارتشوك في العام 1994 ولم يظهر الفيلم، ما دفعني لمحاولة معرفة سر اختفائه: هل تم تصوير الفيلم فعلاً؟ هل عرض محلياً فقط؟ هل الدقائق الترويجية هي كل ما تم تصويره طبعاً غير ممكن؟ وأين هي الشركة التي كانت تحاول بيعه؟ خلال مهرجان "فينيسيا" حاولت معرفة الجواب. وليومين كاملين سعيت الى حل اللغز المحير. أولاً الفيلم انتهى تصويره وهو انتاج روسي/ ايطالي مشترك. لكن المتحدث، وهو من ابناء الصناعة الايطالية لم يعرف او هكذا قال من هم الذين مولوا الفيلم وان كان يعتقد، كما اضاف، بأن الانتاج لم يأت من شركة سينمائية معروفة. في الساعة التاسعة والنصف من مساء أحد الايام التقيت بصحافي عجوز أراه كل سنة يؤم "كان" و"فانيسيا" وسألته من دون ان اعرف اسمه عما اذا كان سمع بفيلم "وبهدوء يجري الدون" فهز رأسه قائلاً: "نعم بالطبع. هذا آخر فيلم حققه بوندارتشوك قبل ان يموت اخيراً". هل تعلم اذا انتهى من تصويره؟ - نعم بكل تأكيد، لكنه من غير المحتمل ان يعرض... لقد كان عملية غسل أموال من أوله الى آخره وبوندارتشوك كان آخر من يعلم. الغبي اعتقد بأنه يحقق فيلماً يجب ان يعرض بالفعل. تعب عليه كثيراً ومات من دون ان يرى نسخته الاخيرة!. انجلت الحقيقة، وبعد حوالى سبعة أشهر قرأت في "الاندبندنت" البريطانية مقالا مطولاً حول سر "الدون" لا يبتعد كثيراً عما كانت تحرياتي المتواضعة قد توصلت اليه: المافيا الروسية والمافيا الايطالية وقفتا وراء انتاجه لغسل أموالهما، وعندما استنفد الفيلم مهمته ترك في عهدة شركة مجهولة واختفى تماماً على رغم كل الجهد الذي بذله بوندارتشوك فيه... اين ذهب الجميع؟ طبعاً لا يزال الفيلم مختفياً الى اليوم وربما تم اكتشافه بعد عشر سنوات أو أكثر واعتبر تحفة ضائعة. لكنه نموذج لبعض ما يدور في ارجاء السينما الروسية اليوم، او لنقل بعض ما لا يدور على أساس ان احباطات السينما التي كانت واحدة من اغزر سينمات اوروبا انتاجاً هي اكبر من نجاحاتها تجارياً وفنياً. استديو "موسفيلم" واستديو "لينفيلم" وحدهما كانا يصدران من 60 الى 70 فيلماً في العام وذلك في الفترة الممتدة من العام 1960 الى العام 1979. اليوم كل الاستديوهات التي لا تزال عاملة تنتج ما يتراوح بين 30 و35 فيلماً في العام. صالات العرض اضحت بلا رعاية ما حجب جمهور الأمس عنها، وفي احصاء نشر صيف العام الماضي ان 65 في المئة من الذين شملهم الاحصاء، من عينات مختلفة من الجمهور، يذهبون الى السينما ثلاث أو أربع مرات في السنة. هذه نقلة عنيفة من أيام كان فيها معدل ذهاب الفرد الروسي الى السينما يتراوح بين 40 و50 مرة في العام الواحد. ماذا حدث للأمم الروسية؟ يتساءل الفيلم الجديد للمخرج الروسي الكسندر زوكوروف "أم وإبن". والسؤال ليس مباشراً بل بلغة المجاز التي كانت دائماً من الأدوات التي استخدمها المخرجون الروس سابقاً في نقدهم للنظام السابق. فالفيلم كناية عن لوحة لا استطيع القول انها قصة لأنها ليست كذلك حول أم مريضة وابنها الشاب بجوارها في بيت صغير يقع في الطبيعة التي تبدو - بكاميرا غير ملونة - مثل الأم: جميلة وشاحبة معاً. يتحدث اليها، توميء له، يقرأ لها، يحملها الى خارج البيت، يحملها عائداً وقد ماتت. ليس فيه حركة ولا حوار ولا مواقف. انه رصد لعلاقة طبيعية/ انسانية مع مرجعية نفسية محتملة لكن بعيدة وباهتة، بين رجل وأمه، موصوفة بالكلمات القليلة والامعان في الصورة لما بعد الضجر حيث يجد المرء نفسه يتجاوز ما لا يحدث وصولاً الى فهم طبيعة اللاحدث واستقبال ما يزخر به. الأم لا بد انها روسيا. الابن لا بد انه المخرج يرثيها. والمحاولة ليست الأولى هنا. زوكوروف نفسه قدم سلسلة من الأفلام ذات المعالجات المثيرة للاهتمام منذ "الصوت الوحيد للرجل" 1978 و"حساسية حزينة" 1983. لكن أسلوبه الصامت الذي لا يخشى الكآبة شرط النفاذ بالفكرة من ورائها الى مشاهديه تبلور منذ "حجر" و"الصفحات الهامسة" 1992 و1993. نظرة داكنة أخرى تطرح السؤال ذاته وتكمن في فيلم "ثلاث حكايات" للمخرجة كيرا موراتوفا التي تتولى سرد ثلاث حكايات مختلفة تماماً باستثناء ان الجامع بينها هو الجريمة والمكان كما التصوير بالأبيض والأسود. الأولى تتحدث عن رجل قتل جارته بسبب خلاف على قطعة صابون. لا نرى الجريمة بل النتيجة: الجثة التي يريد تدبير طريقة للتخلص منها ويجد في محرقة يديرها لشاعر مهزوم ضالته. الحكاية الثانية قصة ممرضة تقرر الانتقام من امرأتين: الأولى تريد الاجهاض والثانية امرأ متقدمة في السن كانت تخلت عن ابنتها بعد ولادتها. الممرضة قد تكون ابنة تلك المرأة لكن ذلك هو الدافع لقتلها وليس العكس. اما الحكاية الثالثة فقصة حول البراءة القاتلة. فتاة صغيرة يتعهد عجوز برعايتها الى ان يعود والداها في نهاية اليوم. لكن الرجل يزمجر دوماً ويأمر وينهي ما يدفع الفتاة الى دس السم له. السؤال حول ما حدث لروسيا الأم موجود هنا في كل من الحكايات الثلاث. طبيعة كل حكاية تعكس قدراً كبيراً من التخلي عن كل التقاليد والمفاهيم التي كان سائدة من قبل. لكن لا مكان للغة مجازية كتلك التي يستخدمها زوكوروف في "ام وابن". أرض المافيا في مهرجان برلين هذا العام كان هناك فيلم روسي آخر يعكس ما آلت اليه الحياة الحديثة هناك. انه "أرض الطرشان" رابع فيلم لفاليري تودوروفسكي الذي كان فيلمه الثالث "كاتيا اسماعيلوفا" لفت الأنظار اليه. في فيلمه السابق تعرض الى امرأة اسمها كاتيا اسماعيلوفا تدخل حياة كاتب وتفسد علاقته بزوجته قبل ان تقتله ثم تقتل والدته وتحاول ان تكمل كتابة روايته، وأخيراً تدفع ثمن ما قامت به غالياً. هل كانت الدخيلة اسماعيلوفا ترمز الى الدول الاسلامية على الحدود الشرقيةلروسيا؟ وهل الكاتب وأسرته الروسية وما يقع له مجرد رمز لما يحدث لروسيا لو منح مسلمو الجمهوريات السوفياتية حرياتهم؟ ربما الفيلم بالتأكيد لا يصل الى الدرجة التي يستطيع فيها عكس مجازية ما على هذا النحو على الأقل. فيلمه الجديد "أرض الطرشان" ليس بجودة الفيلم السابق والفيلم السابق كانت فيه مشاكل لكنه ذو اطار أكبر: رجل استدان من المافيا ولا يستطيع دفع دينه. فتاته تجد نفسها مهددة من قبل رجل المافيا فتهرب منه في الوقت الذي تقرر راقصة في الملهى الذي يملكه ذلك الزعيم الهرب ايضاً. تلتقي الامرأتان وتلجآن الى بيت مهجور للعيش معاً. لكن صديق الفتاة الأولى يعود، والخلاف يشب بينهما لأن الثانية تريد صديقتها لها وحدها. المافيا والجريمة المنظمة تظلان طوال الفيلم أحياناً في الخلفية وأحياناً في الصدارة. والنهاية ذات وقع مأسوي وعنيف تشمل معركة بين تاجر مخدرات ورجل المافيا وصداقة أقوى من السابق بين امرأتين وحيدتين في عالم بارد. الفيلم لا يحفل بلفتات أسلوبية منجزة ولا بجمال فني حقيقي، لكن أهم ما فيه انه ينتمي الى سينما لم تكن متواجدة سابقاً لأن المشاكل التي يتطرق اليها لم تكن موجودة في السابق ايضاً. وآخر مرة شاهدنا فيلماً من هذا النوع كان ربيع العام الماضي من خلال فيلم "الأخ" لألكسي بالابانوف: حكاية شاب روسي عائد من الخدمة العسكرية الى المدينة، وحينما يجدها على غير ما عهدها من قبل يقرر الرحيل الى أخيه خارجها. لكن الحياة الريفية ليست بريئة وجميلة كما كانت بدورها، إذ سريعاً ما يكتشف علاقة أخيه بالمافيا. باستثناء "أم وإبن" ليس من بين هذه الأفلام ما هو متميز ومبدع، بل مستوى جيد في أفضل الأحوال. وحتى فليم زوكوروف ليس عملاً يسهل هضمه ما يجعلنا نتساءل عن آخر مرة شاهدنا فيها فيلماً روسياً من نوعية فنية ممتازة؟