من أقوال مؤسس الدولة السوفياتية فلاديمير لينين أن "السينما بالنسبة الينا هي الفن الأهم"… وكانت كذلك بالفعل اثناء المرحلة السوفياتية عندما تجاوزت وظيفتها انتاج الافلام العادية المسلية لتصبح فنّا خلاقاً واداة للدعاية وحتى طريقة في الحياة. ولم يقتصر كبار سينمائيي المرحلة، مثل ايزنشتاين وبندرتشوك وتاركوفسكي، على صوغ ملامح فن السينما المحلية، بل تجاوزوا ذلك الى التأثير في الفن عالمياً، وتمكنوا بفضل مواهبهم من تخطي عقبات الرقابة الشيوعية ليصلوا الى المشاهد المحلي والعالمي. لكن نظام التوزيع السينمائي الذي كان موحداً ومتماسكاً في الماضي انهار تماما الآن. وقال ل "الحياة" كارين شاهنزاروف، رئيس استوديوهات "موسفيلم"، اكبر استوديوهات روسيا، وهو أيضا مخرج شهير حاز على عدد من الجوائز الوطنية والعالمية: "يصعب على أفلامنا الآن ان تصل الى المشاهد الروسي. فقد قاد تفرّق الموزعين والاستقلال المالي لدور العرض الى انهيار توزيع الفيلم الروسي. ويفضل مالكو دور العرض حاليا تأجير قاعاتهم لتجار السيارات والأثاث وما شابه. في موسكو الآن خمس دور فقط لعرض الافلام، وكان فيها من قبل أكثر من ثلاثين داراً". في غياب النقاش السياسي الحر في المجتمع الشيوعي، لعبت السينما دورها في التعبير علناً عما يتكلم عنه الناس سراً. والجدير بالملاحظة ان سياسة "غلاسنوست" المكاشفة، وما أدت اليه من الطرح والنقد الصريحين لما كان يعتبر من المحرمات، انطلقت من مؤتمر السينمائيين السوفيات في أيار مايو 1986. اذ شهد المؤتمر الانتخاب الحر الأول، عندما رفض السينمائيون مرشحي الحكومة وانتخبوا قائمتهم الخاصة، وفضحوا نظام السيطرة القاسي على الصناعة. وهذه الجرأة المذهلة من السينمائيين اصبحت رمزاً للتحول في الضمير الاجتماعي، وجعلتهم قدوة لكل الذين انتقدوا سيطرة الحزب الشيوعي على المجتمع. من المرشحين الرسميين الفاشلين في مؤتمر 1986 نيكيتا ميخالكوف، وهو مخرج وممثل بارز، يتحدر من عائلة مرموقة كانت دوماً قريبة من القيادة السوفياتية. لكن ميخالكوف عاد الى الواجهة الآن رئيساً لاتحاد السينمائيين الروس، وحاز في العام 1995 جائزة الأوسكار عن فيلمه الرائع "محروق بالشمس". وألقى في المؤتمر الأخير للسينمائيين الروس كلمة قوية وصف فيها وضع قطاع السينما الروسي بأنه كارثة. وقال في اشارة الى هيمنة الأفلام التجارية من هوليوود على شاشات روسيا: ""قد نرى خلال 15 سنة ان لدينا حكومة وشعباً لا يعرفان شيئاً عن وطننا". فيما قال شاهنزاروف معبراً عن الوضع: "يمكننا ان نقول ان روسيا تشهد السنة نمواً بمعدل مئة في المئة في صناعة السينما، لكن ذلك لا يعني سوى اننا انتجنا خمسين فيلماً مقابل 24 السنة الماضية. لكن هذا لا يكفي لأن بإمكان روسيا انتاج ما بين 150 و200 فيلم سنوياً". يمكن القول في الوقت نفسه ان السينما الروسية خذلت المشاهدين الروس. وقال ميخالكوف اثناء المؤتمر ان الافلام الروسية ال 350 التي انتجت خلال السنين الخمس الماضية تضمنت ما لا يقل عن 400 من مشاهد العنف. وعرض ميخالكوف بعض هذه المشاهد، واعتبر ان الصناعة تمر حاليا بمرحلة "يمكن ان تشهد خلالها تحسناً بطيئاً او انهياراً متسارعاً". واكد ان نقص التمويل ليس السبب الوحيد لهذا الوضع، فهناك ايضاً رداءة الأفلام، وان "الافلام السيئة تصرف المشاهدين". حل هذه المشاكل، كما يرى ميخالكوف، يأتي من خلال انشاء صندوق غير حكومي لتمويل "سينما أفضل"، أي اكثر وطنية واحتراماً للذات، تقوم على أفضل المواهب. واعتبر ان "ولادة السينما من جديد مسألة ترتبط بالأمن الوطني". وطالب، من اجل الوصول الى هذا الهدف، بسلطة وسيطرة اكثر من المتوافر على اتحاد السينمائيين. ولبى المؤتمر الطلب، في وجه معارضة صغيرة لكن بالغة الغضب، من سينمائيي موسكو وبطرسبورغ الذين رفضوا بشدة العودة الى نظام السيطرة المركزية. ورد شاهنزاروف على ذلك بالقول ان "تفكيك المركزية وصل الى درجة الحماقة الكاملة. ان نيكيتا ميخالكوف يقوم بأول خطوة لاستعادة قسط من التنظيم الذي كان يتمتع به اتحاد السينمائيين". واذا كان تقسيم الاتحاد المركزي الى اتحادات محلية اعطى السينمائيين شعوراً بالحرية، فقد جاء ايضاً بقدر كبير من الفوضى والنقص في التمويل. وهذا ما عبرت عنه غالبية كبيرة من السينمائيين عندما صوتت لصالح انعاش الاتحاد واستعادة فاعليته ونفوذه. وقال شاهنزاروف، رئيس استوديوهات "موسفيلم" التي لا تزال في القطاع العام، انها الآن الواحة الوحيدة في صحراء صناعة السينما الروسية، وان عمل الاستوديوهات يمتد ليشمل التلفزيون. واوضح ان المؤسسة في طريقها الى التخصيص، لكن "سنبيع 49 في المئة من الأسهم الى حكومة موسكو المحلية". واعتبر ان ذلك سيضمن "عدم شراء المؤسسة من قبل مالك خاص يحول عقاراتها الى مجموعة من الكازينوهات والبارات". وأضاف ان من الضروري الإبقاء على "موسفيلم" مؤسسة ثقافية وطنية "مع الترحيب بمساهمة رأس المال الخاص في صناعة السينما". أثار التصويت لإعطاء ميخالكوف صلاحيات واسعة في اتحاد السينمائيين انتقادات عنيفة في بعض الصحف الروسية الديموقراطية التوجه. وقال كارين شاهنزاروف ل "الحياة": "افهم قلقهم، لكن نحتاج الى قدر أكبر من النظام والتمسك بالقيم الخلاّقة لكي نتغلب على الانهيار الحالي. اذ كيف للاتحاد ان يستمر من دون التزام قيم معينة... انه ما يدعونا اليه المجتمع". ربما كان لنا ان نعتبر قرارات المؤتمر الحالي للسينمائيين الروس، مثل مؤتمر 1986 التاريخي، مؤشراً مهماً على توجهات المجتمع. واذ يعترف شاهنزاروف بأن "السينمائيين يميلون الى التضخيم من اهميتهم"، فإنه يضيف: "لكننا في النهاية جزء من الشعب ونتلمس حاجات المجتمع. ونشعر الآن بالحاجة الى العودة الى الدمج، وانعاش ما كان في السابق صناعة سينما شهيرة عالميا، واحياء العلاقات الثقافية التي اهملنا، ووقف محاولتنا مغازلة الغرب". وذكر في هذا السياق انه زار العالم العربي مراراً وكان من بين المحكمين في مهرجان القاهرة للسينما وله الكثير من الاصدقاء العرب. قد يكون السينمائيون، كما قال شاهنزاروف، ميالين الى التضخيم في اعتبارهم انفسهم قادة لنهضة اجتماعية ثقافية جديدة. مع ذلك فهم يقفون بحزم تجاه محبي ثقافة الفيديو والكومبيوتر السائدة، مرددين كلمات لينين التي قالها عندما كان الفيلم السينمائي لا يتعدى ان يكون مجموعة من الصور المتحركة الصامتة: "السينما بالنسبة الينا هي الفن الأهم"