عشت عصرين مختلفين تمام الاختلاف، كلاهما على النقيض من الآخر، كأني انتقلت من عالم إلى عالم آخر. العصر الأول نشأت فيه، وعشت في احضانه مراحل طفولتي وصباي وشبابي، وأيضاً مرحلة النضوج، أو كما يسميها البعض سن الرجولة. لذلك أعتقد أنني قد عرفت هذا العصر تمام المعرفة من خلال احتكاكي بالآخرين من ابنائه. كانت سمته المحبة والتعاطف والتكافل ورعاية الجيرة وأهل الشارع والحي. الغرباء لهم حق الأقرباء في المعاملة الطيبة. وإذا دعا الداعي الى التبرع لعمل ما، تسابقوا - كل بحسب قدرته - وكنت تقرأ الأرقام المتبرع بها إذا نشرت في الصحف مشفوعة، على رغم تفاوتها، بكلمة فاعل خير في أغلب الأحيان، إنكاراً للذات، وحتى أحاديثهم كانوا يبدأونها بجملة أعوذ بالله من كلمة أنا إذا كان الكلام عن فعل يخصهم. كانت الشهامة والاندفاع نحو فعل الواجب شريعتهم، فإذا تعطلت سيارة في الطريق، اندفع على الفور عدد من المارة لمعاونة صاحبها، وإذا كانت في حاجة إلى - زقة - أي دفعة، قاموا بذلك بجدية حتى إذا دار المحرك وسارت عادوا الى سبيلهم غير منتظرين كلمة شكر من صاحبها لأنهم قاموا بواجبهم. كذلك عرف أغلبنا أو سمع أو شاهد ما فعلته السيدة أم كلثوم بعد نكسة 1967 الحزينة، عندما قامت بحملة هائلة لجمع أكبر قدر من المال للمجهود الحربي، ابتداء من تكريس قيثارتها المعجزة التي وهبها الله إياها، بالشدو في انحاء المعمورة، وانتهاء بجمع مجوهرات منها ومن اصدقائها ومعارفها، وكذلك من عشاق فنها. ثم انقلبت الاوضاع رأساً على عقب، وجاء العصر الذي اصبحنا نسمع فيه عن المطربين المتهربين من الضرائب المتوجبّة عليهم، مع ذلك فهذا بسيط إذا قسناه بما فعلت شركات توظيف الأموال بأبناء جلدتهم من المواطنين المخدوعين فيهم، كذلك عن رجال الأعمال الذين هرب بعضهم بعد استيلائهم على ما اقترضوه من البنوك بدعوى عمل مشروعات وهمية، ناهيك عن الرشوة والفساد والعمولات وانهيار البنايات الحديثة نتيجة للغش في مواد البناء. حتى موائد الرحمن، التي تقام عادة في الشهر الكريم رمضان، فكما كتبت أيضاً من قبل - وسأظل أكتب - أصبحت هذه الموائد تعلوها لافتة حجمها أضعاف حجم الموائد تشدو باسم مقيمها، وصفته ونعته، مسبوقة بكلمات "المحسن الكبير" "ورجل البر والإحسان"... وغيرها مما لا يتناسب مع عدد اللقيمات المرصوصة على الموائد. وهكذا سادت كلمة الأنا في كل المجالات. حتى الأحاديث في أجهزة الإعلام، المسموعة والمرئية، كلها أصبحت تبدأ بكلمة أنا، سواء كانت لمسؤول صغير أو كبير، وحتى حين يتواضع بعضهم، يقول إنه فعل ذلك بتوجيهات من رئيسه، وهي صيغة نفاقية للتزلف لرئيسه حتى ينال رضاه. قد يكون ما يحدث الآن قد حدث بعضه في العصر الماضي، لكنه لم يكن بهذا الشكل، ولم يكن مثل السمة الأساسية السائدة في هذا العصر. مع ذلك، ولأنه عند الشدائد تعرف الناس، أحسست أن الدنيا ما زالت بخير، فعندما أصيبت زوجتي شفاها الله بالمرض، أحسست كأنني عدت إلى العصر القديم، الى زمن المحبة والتكافل الحقيقي. الباعة الذين كانت تتعامل معهم يسألون عنها باستمرار، وبائعة الخضر تعرض أن تقشر لها الخضر، وأن تطبخها إذا أحبت. والجيران يسألون، وزملاء العمل، ناهيك عن الاقرباء واصدقاء الأسرة. صاحب المنزل الذي نسكنه، والذي كانت اسرته دائمة السؤال عن صحتها، عندما قدمت له الإيجار السنوي ألح بشدة أن أؤجل الدفع. وعندما استدعى نقل شريكة عمري الى المستشفى، وكنت أذهب إليها صباحاً ومساءً، كان سائقو سيارات الأجرة، عندما يعرفون وجهتي، يدعون بالشفاء لكل مريض، أحدهم طلب مني أن آخذ كُتَيباً كان يحمله، فيه أدعية تقال عند المرض وعند الحاجة. والآخر قبل أجره على مضض بعد إلحاح مني. وفي المستشفى، كان الطبيب الشاب - الذي ينضح وجهه بالتفاؤل والأمل - يرعاها كما يرعى بقية المرضى بتفان كبير، لدرجة أنه عندما كان عليه أن يساهم في مؤتمر لمدة 48 ساعة، حدثها ثلاث مرات من الخارج ليطمئنها بأنه متابع. والمذهل أنني اكتشفت عند دفع تكاليف الإقامة في المستشفى والعلاج أنه رفض أن يضيف أتعابه عن العملية الجراحية التي أجراها لها. ولما سألته مندهشاً، رد مبتسماً بأن زوجتي لها تقدير خاص بعد أن عرف أنها مصممة العرائس - الدُمى - التي سحرته في طفولته عندما كان يذهب لمسرح العرائس بشغف وفضول!! وعندما قلت له إن ما يفعله غريب في هذا الزمن، أجابني ضاحكاً: وما حيلتنا؟ لقد تعلمناه من جيلكم. ماذا أقول؟... الحقيقة أن هذا الطبيب وأمثاله من الشباب أبناء هذا العصر هم أفضل بكثير منا نحن ابناء العصر السابق، لأنهم يعملون بإصرار على السباحة ضد التيار العام. كان الله في عونهم. بهجت عثما