"التخلّف" أو "المتخلّف" واحدة من المفردات العزيزة على لسان العديد من المثقفين العرب الحداثيين وأشباههم: يطلقونها على شوائب أوضاعهم العامة والخاصة، كصفة سلبية بامتياز، فتُغطّي تعابير أوجههم بالقرف والابتعاد، وترفع عنهم مسؤولية ما لتضعهم بلا أي حرج ولا أي لبس في المكانة النقيض للمناعة والتعالي والحماية: ضد بحر "التخلف" الهادر، الجارف... القابع في كل زاوية من زوايا محيطهم، القريب والبعيد. خُذْ أمثلة على ذلك: يعلّق أحد الإعلاميين على طُرُق تداول السلطة في بلده بأنها "متخلّفة". ويصف مثقف بارز، مع غيره من المثقفين الأقل بروزاً، الحملة التي قادتها صحيفة إسلامية ضد كتاب حيدر حيدر "وليمة لأعشاب..." بأنها "متخلّفة". وتستنتج إحدى الباحثات في دراسة لأشكال التسلّط داخل العائلة العربية، بأنها "أشكال متخلّفة"" فيما تطلق إحدى الزائرات المثقفات لعاصمة عربية، أو بالأحرى تعيد إطلاق، صفة "التخلّف" على كثرة الحجاب لدى نسائها. بل ان محلّلا سياسيا كتب أخيراً عن فشل مفاوضات كامب دافيد - 2، أنها "ذروة في التخلّف". ليست هذه سوى أمثلة مدونة على الورق وموزّعة هنا وهناك، وبالتالي مبعثرة... ولو أريد رَصد صفة "التخلف" في أدبياتنا المتخصصة وغير المتخصصة، لوقع متتبّعها على عشرات الأوضاع والحالات التي تُطلق عليها صفة "التخلف" بلا هوادة ولا تردد: من القباحة إلى إنعدام الابداع في ديارنا، إلى تلوث البيئة والجهل بها، إلى الفوضى العمرانية وغياب النظام ودولة القانون... أما في شفاهة بعض أهل الحداثة وأشباههم، فتقع صفة "التخلف" في موقع التفسير المطمئن لكل ما لا يعجبهم في حياتهم وحياة أترابهم: هذا "متخلف" لأنه يكذب، وتلك "متخلفة" لأنها مغرورة، وذاك "متخلف" لأنه متناقض المواقف، وهؤلاء "متخلفون" لأن هندامهم "مبهدل". إن طغيان صفة "التخلّف" على غيرها من المفردات التي قد تكون أكثر دقة في وصف الحالة أو الأوضاع المرذولة، يحّث على التوقّف والتساؤل. فهذا الطغيان يضعنا في حيرة زمنية لا مناص من التخبّط بها: يحيلنا إلى مرحلة مفترضة، تسبق "التقدم" اللاحق وتقارَََََن بالزمن الذي كان فيه مصدر هذا "التقدم"، أي الغرب، مثلما نحن عليه الآن، أي "متخلّفاً". ولو تأملتَ قليلاً بما يحيط "التخلف" من صيغ وعبارات، لطلعت عليك اللازمة التي لاپبد منها: من أننا نمّر اليوم بما مرّ به الغرب القوي سابقاً" كأننا واقعون ضمن روزنامة عالمية واحدة، مرتّبة التواريخ، ومثبّتة الأنماط، "المتقدمة" او "المتخلفة". وبناء على المحطات الكبرى لهذه الروزنامة، نحن لا نحتاج، مع الجهد "التحديثي"، إلى غير "الوقت الكافي" لنسير متوازنين مع بقية التواريخ الغربية في مسيرة "التقدم". فلو اتبعنا، مثلاً، "الأجندة" العالمية، الشائعة مع "التخلّف"، فسوف نستلحق وضعنا في الروزنامة العالمية التنموية، ونضمن بذلك الخروج من "التخلف". حتى هذه المحطة الأخيرة من التعيين والكلام، يسكت الحداثيون... وإذا تجشّم بعضهم عناء السؤال، فلا يذهب بعيداً" إذ جلّ ما ينظرّون له هو إيجاد نماذج تاريخية أو راهنة، في الغرب، توائم "شخصيتهم" العربية فيدعون أنفسهم إلى التشبّه بها: "العالم"، "التكنوقراطي"، "المثقف العضوي"، "الخبير"، "المثقف" أو "مستشار الأمير"... واضعين في طاحونة نرجسيتهم الساطعة المزيد من الرياح، لتبدو من بعيد وكأنها تدور في غير فراغ. وهم، بهذه المحاولات المقلّدة، جانبوا الأوضاع والحالات الخارجة عن ذواتهم الغالية ونسوا السؤال الأصلي: فإذا كنا فعلاً، نحن المتخلفين، نمّر الآن بما مرّ به الغرب أثناء أو عشية مراحله المزدهرة، أي التقدم، إذا كنا الآن هكذا، فكم هو عدد السنوات والعقود التي نحتاجها لبلوغ مبلغ التقدم؟ أو بعبارات أخرى: أية مرحلة من مراحل النهضة الغربية نشبه بالضبط؟ مرحلة الاكتشافات والاختراعات والثورات الفكرية التي مهّدت للتقدم الغربي؟ أم مرحلة الحروب وقيام الحدود ونشأة الدول؟ أم مرحلة الثورات السياسية والمطالب النقابية واستقرار الطبقة الوسطى؟ أم مرحلة تطوّر رأس المال الكولونيالي، وما أعقبها من "تعايش" مع الاستقلالات الوطنية؟ ثم منذ متى نعرّف أنفسنا بال"متخلفين"؟ فإذا كان الجواب: منذ أن أطلق الإمام محمد عبده سؤاله الذي لا يغيب عن أسباب تفوق الغرب وغلبته علينا، "لماذا نحن متأخرون"، أي منذ ما نسميه عصر النهضة، أفلا يجدر بنا التوقف عنده، والتساؤل: لماذا نحن "متخلفون" منذ عصر نهضتنا، اي منذ قرن ونصف قرن؟ ولماذا نصّر على طرح هذا السؤال بالذات؟ أليس من الأفضل، حفاظاً على الأقل على صحتنا النفسية والسياسية، أن نسأل: ماذا فعلنا من أجل أن يبقى هو نفسه هذا السؤال مطروحاً... وبإلحاح؟ وصفة "التخلّف"، بعد ذلك، هل هي إحتجاجية أم وصفية؟ فإذا كانت إحتجاجية، فضد مَن وضد ماذا بالضبط؟ ومن أجل أي تصوّر لأنفسنا وللعالم ولعلاقتنا به؟ وإذا كانت وصفية، فماذا تصف؟ وهل من صفة في وسعها أن تغطي كل شيء تقريباً؟ أسئلة، وغيرها الكثير لا تشغل المثقف الحداثي. فهو، سواء بلغ "مراكز القرار" أو لم يبلغ، ألبس لسانه وسلوكه وهيئته لبوس شخص متمتع بمَلَكات "تغييرية" و"معرفية" تمكّنه في كسَلَه. هكذا يرتاح بإحالة قضايا شائكة إلى مجرد... "تخلّف". لماذا؟ ربما لأن إطلاق صفة "التخلّف" على كل هذا اللغط الدائر حوله يلبي حاجة نفسية هو في أقصى الحاجة إليها: فما أن يبوح بهذا الطلسم حتى يخجل الذين أمامه ويصيروا في موقع دفاعي، فتضعف حجتهم ويرتبك تصورّهم للأشياء فيرتفع بذلك مثقفنا مكانةً تضعه في مصاف الذين هم أقرب إلى الغرب ثقافةً ورؤيةً وسلوكاً، فتنتصر حجته، أو صورته أو هيبته، أو إعجاب الآخرين به. لكن هذا التجنّب العنيد للدقة اللغوية هو سلاح مزودج: فهو من جهة يمنح صاحبه مهابةً ضرورية، إلا أنه من جهة أخرى يحرمه المخزون الوحيد الذي يفترض به أنه يحسن إستخدامه، أي اللغة. فبوضعه "التخلف" في موقع الاحتكار لكل الأوصاف، يساهم في غياب مفردات لغوية، آيلة أصلاً إلى النسيان. بل يعرقل بروز أخرى، جديدة، تحتاجها تعقيدات الأحوال بشّدة. وبذلك، يتحوّل صاحب هذا المخزون إلى وارث فقير لحضارة ضحلة، فيما يبدو تحليله للأشياء أو مقاربته لها، أقرب إلى الشعار...