الفساد الإداري أرهق الجميع وأفسد الجميل وضيّع الجهود وحطم الآمال وزاد الضعفاء حرماناً والأقوياء طغياناً وهذه نتائجه وليست أعراضه. وإذا نزل في إدارات وأنظمة أصبحت هذه النتائج تزداد سعة وعمقاً يوماً بعد يوم، وتبتعد بسرعة شديدة عن الحلول وتستعصي عليها حتى لا يمكن من الحلول إلا بتر العضو المصاب، وقد لا يجدي بتره لأن الفساد الإداري في جميع الهياكل الإدارية هو (تقريباً) كالسرطان في الجسم البشري، ينخره حتى يفنيه وقلت (تقريباً) لأنه أعظم من السرطان فهو في الإدارات كالإيدز في الأجسام لأن السرطان، لا ينتقل والإيدز ينتقل بإحدى طريقتين نقل الدم أو علاقات محرمة، وهكذا تماماً ينتقل الفساد الإداري إما بعلاقة محرمة مع مسؤول إداري فيصرف لأجلها الحق لغير مستحق ويحرم منه صاحبه، أو ينتقل بنقل الدم وذلك في الإدارات بنقل هذا المسؤول المصاب بفيروس "الفساد الإداري" من إدارته إلى ادارة أخرى فينقل الوباء معه والناس لا تريد وصفاً لأن الواقع معروف بلا فلسفة كتاب، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، وإنما يريد الناس العلاج لا الوصف، وعلاج الفساد الإداري كعلاج أي مرض بالقضاء على الفيروس بالأدوية الفعالة أو باستئصال العضو المصاب فإن لم يتم القضاء على الفيروس ولم يستأصل استشرى المرض حتى لا مفر من الموت سواء كان ذلك في هيكل بشري أو هيكل إداري؛ ولذلك كان أفضل وأدق وصف وصفت به الدولة العثمانية في حينه "الرجل المريض" أي مرض كان في دولة بني عثمان إنه الفساد الإداري أو بعبارة أدق إنه "شيخوخة النظام" لكن عجل بها ويأس من برئها ما حلّ بها من الفساد الإداري. وأي مؤسسة أو شركة أو ادارة أو نظام كائناً ما كان لا يعالج فيه الفساد الإداري فسيفضي به إلى حالة الدولة العثمانية "الرجل المريض" ويجعله أسهل فريسة لأعدائه والمتربصين به، والكون يسير وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتحول ولا يستثنى منها أحد ولو زعم أن له خصوصية (فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنت الله تحويلا) (فاطر: 43). ولكن أليس من حل قبل مرحلة اليأس خاصة لمن يعترف بوجود الأخطاء ووجوب الإصلاح؟! بلى هناك حل ناجع وشاف ولا أبالغ إذا قلت حلاً وحيداً لا حل غيره وهو أيضاً سنة كونية ربانية إنه حل التغيير فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، إنها السنن و"سنة التغيير" في الإصلاح الإداري هي "الاستقالة" وكأنها ليست حلاً ممكناً، بل علاجاً شافياً بإذن الله وبينما نسمع كثيراً عن استقالات المسؤولين في الغرب والشرق لأن الاستقالة هي التجديد والحل والإصلاح لا نجد مثل ذلك مطلقاً في عالمنا العربي العزيز!! وهنا عدد من الأسئلة المهمة الملحة حق أن تثار ويجاب عنها، وتعرف أسبابها وملابساتها، لأن ذلك من أول مراحل الإصلاح والتقدم ومن أهمها دون أدنى شك.. فلماذا هم يستقيلون ونحن لا؟! هل ذلك لأننا أعرف بالإدارة منهم؟ أم لأننا أشد حباً للدنيا منهم؟ أم لأننا أكثر عطاء للقيادة والمواطن منهم؟! أم لأنهم أكثر إيماناً بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية؟ أم لأنهم أقل انتفاعاً بمواقعهم ممن يقابلهم؟ أم ماذا.. أم ماذا..؟!! إبان حرب الحلفاء على العراق قدمت امرأة بريطانية - دعنا من الأسماء - استقالتها من الوزارة لمعارضتها حرب العراق.. في تلك الأثناء ألم يوجد في العالم العربي والإسلامي وزراء معارضون للحرب على العراق؟ بلى هناك كثير فما الذي جعل رجالاً مسلمين يعجزون عما فعلته امرأة غير مسلمة أو بعبارة صحفية "لماذا يعجز رجال الشرق عن فعل نساء الغرب" واخترت الأولى لأن للأمر ارتباطاً بقضية الرزق والمستقبل والتوكل ونحوها ألا ترانا نسب اليهود ونقول أحفاد القردة والخنازير ونحن أفضل منهم وأصدق وها هم وزراء إسرائيل يهددون باستقالاتهم ويقدمونها أبداً، بل قدم ضابط يهودي أوراق استقالته ورمى بأنواطه أمام رئيسه - تصوروا يا ناس - احتجاجاً على ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين أعطني موظفاً عربياً شريفاً أبياً استقال احتجاجاً على شيء أي شيء لتعلم ألا مبدأ ولا كرامة ولا خجل يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. نقطة أخرى في الموضوع.. لماذا نهنئ بحرارة من عيّن لعمل إداري حتى لا يجد من أحد منا غير التهاني والفرح؟! لماذا لا يجد منا زخماً مماثلاً من التذكير بواجبه وما ينتظره منه وطنه وأمته وقيادته وسؤال الله له العون على أداء واجبه. فإذا لم نفعل ذلك وبقينا هامشيين غير جادين ولا صادقين فلنبرز النصف الثاني من اتجاهنا وليصاحب تهنئة الجديد تعزية لسلفه. من أحبابنا المسؤولين على اختلاف طبقاتهم من يقول - وهو صادق - إنه يريد الإصلاح والتقدم لأمته.. فليعلم مشكوراً أن تقديم الاستقالة وطلب الاعفاء بعد فترة عمل غير طويلة هي من ركائز الإصلاح والتقدم.. فلماذا لم يجرِّبها أحد منهم؟ ومن أحبتنا المسؤولين على اختلاف طبقاتهم من يصنف بأنه شرعي.. وهؤلاء خير من غيرهم كما نحسبهم والله حسيبهم لكن الواجب الشرعي الذي يحملونه ويعرفونه يجعلهم أعظم الناس ثقة بالله وتوكلاً عليه في قضايا الرزق والأولاد والمستقبل، فلماذا لم يقدم عليها أحد منهم؟ ولماذا يسبقهم إليها كفار الغرب والشرق وهم أحق بذلك وأعرف به (بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) "آل عمران". ومن أحبتنا المسؤولين من يوصف بأنه ليبرالي تقدمي معجب جداً بالتنظيم الغربي والإدارة الغربية، ويتمنى جهد أمانيه أن تكون أمته العربية مثل تلك الأممالغربية في نظمها وإداراتها فلماذا لا يبدأ مشكوراً هذا المسؤول الكريم والأخ الحبيب بنفسه؟! و يفعل بها ما فعل الغربيون بأنفسهم "وأول راض سيرة من يسيرها". لماذا لا نجد من جميع هذه الأصناف فرداً يطلب الإعفاء ويقدم استقالته طوعاً لا كرهاً، بل يقدمها بكل فخر واعتزاز، فوالله إن شاء الله ليستفيدن الجميع من وجود هذا كما تضرر الجميع بفقده ضرراً بحجم الفارق بيننا وبين الغرب اقتصاداً وإدارة ونظماً وما إلى ذلك، إن العقلية العربية المعاصرة المتخلفة إدارياً غير مستعدة الآن لمجرد مناقشة هذه القضية المحورية في الإدارة فضلاً عن قبولها فكرياً ثم تطبيقها عملياً فهي عاجزة عن ذلك تماماً بجميع ألوان طيفها الإداري الذي تقدم ذكر بعض أصنافه فالواجب المتعين للإصلاح الإداري أن تعطى هذه القضية حقها من رجال الإعلام وأرباب الأقلام، بل حتى الناس العاديين في مجالسهم وأحاديثهم عليهم من هذا الواجب ما تسمح به قدراتهم ومجالاتهم لكي ننهض حقاً بإداراتنا ونتقدم فعلاً بمجتمعنا وأمتنا ولا نبقى كحارس المستشفى الذي أخذ المفتاح ولم يدخل الأطباء ويصيح أنا لها.. أنا لها.. وليس لكم أحد بعدي.. إن من بواعث هذا الفكر الإداري الإصلاحي المتنور أن نعرف يقيناً ونعترف صراحة أن طلب الإعفاء نجاح عظيم وتقدم إداري وخدمة كبيرة للأمة والوطن والمواطن - على أني لا أعرف شيئاً اسمه الوطن أما المواطن فنعم -. وفي المقابل يجب أن نعرف أيضاً ونعترف أن الإصرار على البقاء في الإدارة فشل ذريع وجشع مريع وتخلف إداري ونكبة كبيرة للأمة والمواطن وما راءٍ كمن سمع. ومن ملحقات هذا الفكر الإداري المتقدم المتنور ألا يطالب المصرون على البقاء المتخلفون إدارياً بمساواتهم بالموظفين العاديين فيقولون: لماذا لا يطلبون الاعفاء هم أيضاً فنحن لا نريده كما لا يريده هؤلاء فإن الشأن ليس في الموظفين الاتباع والوظائف التابعة وهل لسائق يطلب الركاب بتغييره أن يقول غيروا أنتم أيضاً ركاباً سواكم؟! ومن بواعث الخلوص من ذلك الفكر الإداري المتخلف المتحجر أن نعين أهله على التخلص منه فهم "مرضى إدارياً" فلتكن أحاديثنا معهم ونظراتنا إليهم ملأى بطلب التجديد متى يكون والاستعفاء متى يكون واستهجان الإصرار على البقاء والترفع عن كيل المديح رغم الأخطاء.