هل سنبقى ضيوفاً على الحضارة المعاصرة؟.. هذا السؤال طرحه الكاتب المصري الراحل (سلامة موسى) في الثلث الأول من القرن الميلادي الماضي، بعد أن رأى أنّ العرب مستهلكون للمنتجات الحضارية - وما يزالون كذلك - لا منتجين لها، واتجه النقاش حينئذ عن البحث في أسباب تقدم الغرب وتخلف العرب. شكيب ارسلان، أو أمير البيان كما سمّاه الشيخ رشيد رضا، حاول في كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم» أن يجيب على هذا السؤال، لكنه لم يقصره على العرب فحسب، وإنما طرحه على المسلمين؛ ولا أدري ماذا سيقول ارسلان -رحمه الله - لو أنه قام من قبره ورأى تقدم ماليزيا وتركيا مثلاً، في حين أنّ العرب مازالوا في قاع القاع من الحضارة المعاصرة؟.. ليس لدي شك أنه سيلحظ أنّ المشكلة في العرب، وفي الثقافة العربية الموروثة، وليست في بقية المسلمين. وكتاب ارسلان كما جاء في مقدمته، كان إجابة على رسالة وردت إلى صاحب مجلة (المنار) الشيخ محمد رشيد رضا من أحد كبراء مسلمي جزيرة (جاوا) الإندونيسية، يسأله فيها عن سر تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، فأحالها رشيد رضا إلى شكيب ارسلان ليجيب عليها، فكان هذا الكتاب الذي كتبه في (ثلاثة أيام) فقط كما يقول مُقدم الكتاب في المقدمة. والكتاب رغم طغيان اللغة الأدبية عليه، وبعده عن اللغة الفكرية الدقيقة الحازمة، حاول فيه ارسلان أن يجيب على السؤال الصعب: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم. واعتبر ارسلان أنّ مرتكز النهضة أو التقدم أو التنمية، تعتمد اعتماداً أساسياً على الاقتباس والتعلُّم من الآخرين الأكثر تفوُّقاً؛ وضرب مثلاً باليابانيين، وكيف أنهم استطاعوا أن يُجاروا الغرب بالعلم والمعرفة، بعد أن اقتبسوا منه، ومن علومه، أُسس التقدم والتنمية الإدارة. وأشاد ببعض التجارب السياسية العربية، مثل تجربة الملك عبد العزيز - رحمه الله - السياسية التي كانت حينها تجربة (فتية)، واعتبرها تجربة عربية نموذجية في الوحدة والتحرُّر من التخلف، ومجاراة الدول المتحضرة في فرض الأمن من خلال الدولة المركزية، كما أشاد بأول تجربة (بنكية) في مصر أسسها «طلعت حرب» عندما أنشأ (بنك مصر) والشركات التجارية الملحقة به، واعتبرها شكيب تجربة تقدمية رائدة، وأثنى عليها، لا سيما وأنها كانت باكورة تحرير الاقتصاد المصري من تحكم الأجنبي فيه. يقول عن طلعت حرب معجباً: (وبالاختصار اقتحم طلعت حرب معركة هي الأولى من نوعها في المجتمع الشرقي)؛ هذا رغم أنّ هذا البنك كان يتّجر بالفائدة. وفي نهاية الكتاب يختصر ما توصل إليه بالقول: (إنّ المسلمين ينهضون بمثل ما نهض غيرهم.. إنّ الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويتعرجوا في مصاعد المجد، كما ترقى غيرهم من الأمم - هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر الله في قرآنه مراراً عديدة، وهو ما يسمّونه اليوم «بالتضحية» ..)، وهو هنا يعتبر أنّ الجهاد بالمال (الاقتصاد) ضرب من ضروب الجهاد، لكنه جهاد التنمية والحضارة والتحديث والانطلاق في سباق التحضر كما فعلت الأمم الأخرى كاليابانيين مثلاً. وبعد، حينما تقرأ محاولات الأجيال السابقة للإجابة على السؤال الصعب: لماذا نحن متخلفون؟.. تجدها رغم بساطتها، ورغم طغيان اللغة الأدبية عليها، جادة وصادقة وخالية من الأطماع الشخصية، وعندما تلتفت إلى خطاب من يفترض أنهم (أقرانهم) اليوم، لا تجد إلاّ (التخلف) ومن حوله الانتهازيون يوظفون كل شيء في سبيل الوصول إلى المال والسلطة، و(الأنا) التي لا تعرف معنى للإيثار والتضحية حتى وإن كانت الضحية الأوطان؛ بل إن تسامح شكيب ارسلان ومن ورائه الشيخ محمد رشيد رضا، وهو من هو علماً وفقهاً ودراية، الذي عني بنشر هذا الكتاب، وأثنى عليه، وصفق له، واعتبره من أهم الكتب (التقدمية)، ثم تقرأ مواقف بعض مشايخ الصحوة، وموقفهم من الغرب، واعتراضهم على ابتعاث طلبة العلم إليه ليطلبوا العلم في مظانه، تشعر بتخلف خطاب هؤلاء الصحويين عندما تقارنهم بأساطين النهضة العربية الأوائل عندما كانت في بواكيرها، ومدى تفتحهم وحضاريتهم وإدراكهم لشروط الحضارة مقارنة بهؤلاء المتخلفين. وعود على بدء: هل سنبقى ضيوفاً على الحضارة؟.. أقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ! إلى اللقاء.